لو قدر للشاعر بدر شاكر السياب 1926-1964، الذي تمر نهاية هذا العام الذكرى الأربعون لوفاته، ان يعود الى الحياة لعاش حال تناقض في الشعور والاحساس لم يعشها في خلال الاعوام الثمانية والثلاثين التي امتدت فيها حياته، وهو ما سيسلمه الى الفرح والزهو، من جانب... ولكنه سيدفعه الى الغم والحزن، من جانب آخر: - فسيشعر بالفرح ويحس الزهو لما حظي به، على مدى أربعين عاماً مضت، من دراسات، واهتمامات نقدية وبحثية، الى الحد الذي أصبح فيه معها أهم شاعر مجدد في خلال قرن، وسيزهو اكثر وهو يجد هذا الاهتمام به يمتد الى قرن آخر لم يكن يحلم، حياة، ببلوغ أوله. - ولكنه سيغتم لأكثر من واقع وسبب: فسيغتم، أولاً، وهو يجد الوضع الشعري للتجديد يتراجع على نحو لا يحمل اليه سوى الشعور بالخيبة، وهو الذي أمل في الحياة الشعرية من بعده، كما امل في الأجيال المقبلة ان"تستثمر الأرض"التي اكتشفها لهم بصحبة جيله الشعري من المجددين الرواد... لا ان يجد"الشعر"وقد انتظم، باسم الحداثة، في مسالك لا يجد لها كبير علاقة بالشعر، ولا بالتجديد، او الحداثة. فالكثير الذي سيلاقيه لا يعدو اللعب الشكلي، فضلاً عن فجاجة اللغة، وانحطاط مستوى التعبير، وتناول الأشياء او عرضها وكأنها صخور، لا استجابة لها مهما ناديت. سيغتم من هذا ليقينه أن"الشعر الجديد"، كما اراد له ان يكون ويتطور، لا يمكن ان يكون به وحده، او بجيله معه... بل لا بد من تواصل المسار بحركة من التطور والاضافة والاكتشاف، لا التراجع والانكفاء والاكتفاء بتراث الأسلاف. وسيحزنه فشل الكثيرين بفعل فقر مواهبهم، ومع ذلك يجدهم لا يكفون عن افساد"روح الشعر"و"تشويه معناه". وسيغتم ثانية وهو يجد رؤياه وقد سقطت. - فهل سيرجع الى قبره؟ ولكن..."كيف يحس انسان يرى قبره؟"- هكذا كان تساءل ذات مرة. معظم الذين درسوا شعر السياب يتفقون على انه يمثل الذروة في حركة شعرية مجددة، اتفق الدارسون والنقاد على انها اهم الحركات التجديدية في القرن العشرين، وان السياب هو الشاعر الذي يمثل الوعي التجديدي فيها، فضلاً عن وعيه بذاته الابداعية. ومع ان معظم الدراسات، التي كتبت حتى اليوم، تشير الى ما هو"مشترك"بين رواد"الحركة"من الشعراء، بصفتهم ينتمون الى حقبة زمنية واحدة ويمثلون حركة واحدة بما لها من خصائص مميزة.. الا ان السياب هو الشاعر الذي مثل، شعرياً،ً الجوهر الفعلي لهذه الحركة، بما أسس به لتاريخ من التجديد الشعري، جاعلاً من قصيدته - لو تمت رؤيتها نقدياً - افتتاحاً لوجود آخر، وانفتاحاً على وجود آخر، فاذا هي قصيدة قائمة على عناصر حددوا منها ثلاثة، هي: الفعل، متعيناً في الحركة والصراع، ومتخذاً أبعاد الزمن ومعناه، والسرد الذي شكل بنيته الواضحة في قصيدته... ثم الدرامية الشعرية في بعدها القائم على تراجيدية الأداء. وما يشد هذه العناصر الى بعضها بعضاً ما يمكن تسميته بالخيال الخلاق الذي يمتاز به السياب الشاعر. ولعل ما يشد هذا الخيال على نحو كبير هو"الوعي بالذات"عنده، وهو وعي لا يقتصر فيه على"ذاته الفردية"، بل نجده يتجاوزها الى ان يشكل"وعياً تاريخياً"، بذاته في بعدها الحضاري. ومن هنا فإن ما يبدو، في قصيدة السياب، من تمجيد للبطل الأسطوري إنما هو، في حقيقته ومؤداه، تمجيد للانسان، الذي هو"البطل الفعلي"في قصيدة السياب. والسياب في موقفه من الأسطورة/ وبالأسطورة كان ان حملها مدلولات جديدة، وهي مدلولات مستمدة من قضية الانسان في عصره: الحرية. وعلى هذا، فإن قراءة البعد الأسطوري في شعر السياب ينبغي الاّ تتم من خلال النظر الى الأسطورة كونها مفهوماً يتحدد بحدوده الوضعية في المعاجم وكتب الاساطير، بل أن نقرأها بالمفهوم السيابي لها. فهي، كما جاءت في قصيدته، تمثل موقفاً انسانياً وجودياً يرتكز الى اسانيد ودلالات واقعية. فنحن أمام استخدام حديث ومميز للأسطورة، فضلاً عما أصبح لها من أبعاد واقعية. تم لها ذلك من خلال التحول بها من"واقعها الميثولوجي"الى ما يمكن ان ندعوه ب"الواقع - الواقعي"، اذ تحولت"الشخصية"فيها من"اطارها الشعائري"الى صورة ل"البطل المعاصر"الذي ينهض بمجتمعه وانسانه من اجل ان يحقق انتصارهما، وذلك من خلال تأكيد المعاني المعاصرة لنضال هذا الانسان من أجل تغيير واقع حياته الى حياة أفضل. وهو، في هذا، وإن كان يضع"الواقعي"و"الانساني المباشر"ضمن الأبعاد المتحققة من خلال"رؤيا الأسطورة"، فإننا نجده يفجر الأسطورة ليجعلها تستجيب الدلالة الجديدة التي يريدها، والتي تعتمد على ربط"مجال الرؤيا"بحقائق الواقع الانساني. وفي هذا يتمثل وعيه بالمصير الانساني. وفي هذا الواقع كان ان جعل للأسطورة بعدها المعاصر المرتبط برؤياه الشعرية وبأحلام من يتوجه اليهم، محتفظاً بما لها من حرارة ومن صور جسور.. وقد تأتى له، شعرياً، ان يستأثر بما لهذه الصور من عناصر الحيوية. وترى سلمى الخضراء الجيوسي"أن استعمال السياب أولاً للأسطورة، وثانياً للنموذج الاعلى، وهما عنصران حديثان، استعمالاً ناجحاً في الشعر يشير الى تشربه المبكر لبعض عناصر الحداثة المهمة وريادته الأكيدة في هذا المجال". وارتبطت الأسطورة"التموزية"، في شعر السياب تحديداً، بالحلم القومي للخمسينات. وكانت، كما تمثلها خليل حاوي، تعبيراً عن"رؤيا انبعاثية"، وفي الموقفين كانت اختزلت، في رموزها الأساسية، حلم الانبعاث القومي، والانفتاح على افق نهضوي جديد، كان هذا"الرمز القرباني"هو التعبير عن"الميلاد الجديد"... لتنمو، في الاطار نفسه"فكرة الفداء"، ويكون"الانسان الفادي"هو من يشق طريق الخلاص. هذه"الرؤيا الانبعاثية"هي التي سيحتضنها كثير القصائد في"أنشودة المطر"1960، وهي تجمع بين التجذر في أرض الواقع والانفتاح على ما للرؤيا الأسطورية من آفاق. وستنفرد قصيدته"في المغرب العربي"من بين قصائد هذا الديوان بخصائص مميزة في اطار هذه"الرؤيا الانبعاثية"، جاعلاً فيها من"ادراك الماضي"و"الوعي بحركية التاريخ"اساساً لتكامل"الوعي بالحاضر". ان وعيه القومي التاريخي هو المتحكم بهذه القصيدة - وفي هذا اكثر من أي شيء آخر سواه، اختلافه عن الشعراء الذين عالجوا الأساطير في شعرهم... اذ مثّل تجربة لها خصوصيتها، فضلاً عما اتخذ فيها من اساليب شعرية. فقد استثمر ما في الاسطورة والرمز الأسطوري من غنى دلالي، لا في تفسير معنى الصراع، فحسب، بل وفي وضع هذا الصراع في لحظة هي لحظة الوعي الكلي والشامل به، بما جسد من رؤيا المصير. هنا يمكن ان نلاحظ مسألة مهمة، هي الصلة التي يعقدها، والتلاقي المحقق عنده بين المعنيين:"معناه"هو و"معنى الأسطورة"وأسلوبه في هذا"الجمع التعبيري"وذلك بحرصة على ايجاد التلازم الدقيق بين"عبارته"و"الايقاع الشعري"، من جانب، وبين"معناه المتكون"بدلالة ما يوجد له من صلات توافقات او تقاطعات و"الدلالات الرؤيوية"التي كثيراً ما تتخذ عنده بعداً واقعياً. قصيدة السياب في تكوينها هذا هي قصيدة تلازم بين أبعاد الزمان، كما هي قصيدة متحددة بجغرافية المكان... اذ نجد فيها علاقة تفاعل وتكامل بين البنية الرؤيوية واللغوية والبنية الاجتماعية - التاريخية، بصفة هذه الأخيرة مصدراً من اهم مصادر رؤياه الشعرية. فالسياب شاعر ابن بيئة جغراقية - تراثية. والسؤال هنا هو: كيف تعامل مع هذه"البيئة"في مستوى العمل الشعري؟ -"جغرافياً"، مشى السياب في طريقين مختلفين، بل كان احدهما نقيض الآخر. فقد مشى طريق الألفة مع المكان كما مشى طريق الغربة عن المكان والغربة في المكان. طريق الاستقرار والتشرد، طريق الحياة والموت... طريق الأمل واليأس. أما تراثياً، فعرف التواصل في الوجود والفعل في هذا الوجود. كذلك عرف الطريق الى الانسان من خلال الطريق التي مشاها نحو ذاته هو، في بعدها التاريخي ووجودها الحضاري وتطلعها الانساني. وعرف الشك طريقاً الى يقين"رؤيا الوجود". وفي الحالين كانت العلاقة، بكل من الجغرافيا - الأرض، والتراث - الينابيع، علاقة داخلية، جوانية... اذا انفتحت على الخارج فإنها تنفتح كي تستوعب وتلتحم، وتؤكد ما تكون به"وجوداً"عضوي التكوين.