لطالما شكك العرب في أخلاقية الإسرائيليين وصدق جنوحهم للسلم، لكنهم لم يشككوا أبدا في ذكائهم. بل لعل العرب ميالون للمبالغة في ذكاء أعدائهم ومكرهم، وإلى نسبتهما معا إلى جوهر خبيث وشرير، مميز لليهود بوصفهم كذلك. ولعل في نسبة المكر الذكاء والخبث للإسرائيليين أيضا ضرب من إنقاذ اعتبار الذات: فالهزيمة أمام عدو معروف بدهائه يهوّن من جرح الهزيمة ويخفف حرجها. دون دفع أية ضريبة فكرية إلى نظرية فساد أو تفوق الجوهر اليهودي، سنقول هنا إن الإسرائيليين أقل أمانة وأشد قسوة وتعصبا من أن يكونوا أذكياء. ولا يصدر هذا التقدير عن انحياز قومي، لا مجال لإنكاره على أية حال، بل عن إيلاء أهمية حاسمة للعدالة والاستقرار على المدى الأبعد. إذ يكفي أن يصدر المرء منا عن حساسية سوية حيال قيم المساواة والإنصاف والكرامة المتساوية لبني البشر حتى يشمئز من السياسيات الإسرائيلية الوحشية حيال الفلسطينيين، وبالخصوص حيال ذلك الدأب المخيف الذي يظهره الإسرائيليون في عملية تجريد الفلسطينيين من كيانهم السياسي وتخريب مجتمعهم وتحطيم مثابر لحياتهم أفرادا وجماعة في وطنهم. ألف إسرائيليون كثيرين بعد أبا إيبان أن يقولوا إن العرب لا يفوتون فرصة لتفويت فرصة من اجل السلام. في هذا القول مزيج من عنصرية مستبطنة ومتعضية، ومن حقيقة يلمسها السياسي أليف الحداثة حيال سياسيين عرب يجمعون بين اللاحداثة والعجز والجعجعة. لكن أصح أن نقول إن إسرائيل لم تفوت فرصة لإغراق الفلسطينيين والعرب في وضع مستحيل لا مخرج منه غير الانهيار والاستسلام. اتجهت النية الإسرائيلية إلى دفع العرب ليس للتسليم بها فقط بل وللاستسلام أمامها، والفلسطينيين إلى ترك بلدهم أو التحول إلى"نفايات بشرية"، وفقا لعبارة موشي دايان بعد حرب 1967. بيد أن الشرط الاستسلامي، إن صح التعبير، لم يلبث أن أظهر وجها آخر: وجها انتحاريا. إنه لمنطقي جدا أن يفضل بعض من يفرض عليهم استسلام مهين خيار مواجهة قاتلة. ليس هذان خيارين متنافيين: فالاستسلاميون والانتحاريون يولدون معا ويترعرعون معا. وهذا صحيح من وجهة نظر تاريخية ايضا. فلم يعرف تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مقاومة انتحارية إلا بعد انطواء عهد المقاومة المسلحة، بل وتعذر المقاومة المدنية الشعبية من النوع الذي شهدته الانتفاضة الفلسطينية الأولى. فإذا كان زوال الانتحاريين مرغوبا فإن ثمنه العادل هو زوال المتخاذلين أيضا. وهو ما يعني توفير شروط سياسية معقولة للشعب الفلسطيني، تحرره من اللجوء إلى صيغتي الانحلال هاتين. لا تقل مسؤولية الدول الغربية الرئيسية كثيرا عن مسؤولية إسرائيل في خلق هذا الشرط الانتحاري. كان مثيرا للاشمئزاز أن الغرب بمجمله تصرف كجوقة تكرر بالكلمات ذاتها المواقف ذاتها حيال فوز"حماس"في الانتخابات التشريعية الأخيرة: على"حماس"أن تنزع سلاحها، وأن تكف عن ممارسة الإرهاب، وأن تعترف بإسرائيل. لا أحد، ولو من باب المراعاة واللياقة، اقترح على"حماس"مقابلا، ولو من نوع الضغط على إسرائيل من اجل تجميد الاستيطان مثلا، أو العودة إلى طاولة التفاوض مثلا. أين الذكاء في ذلك؟ يقتضي الذكاء فتح مخارج للعرب والفلسطينيين، وعدم حصرهم في خيارين انتحاريين على حد سواء. إن منطق السياسة العقلانية، وليس منطق العدالة والمساواة وحده، يقتضي دعم العرب وتقوية دولهم وتعزيز استقلالها كي تكون قادرة على مقاومة عقلانية للقوى المعادية لهم، بما في ذلك إسرائيل. يبدو ذلك تناقضا، لكنه ليس كذلك إلا للذكاء الصغير، للفهم وليس للعقل إن استعرنا لغة هيغل. هذا لأن تمكن العرب والفلسطينيين من المقاومة هو الذي يمكنهم من المفاوضة والسياسة. أما إذا كانت المقاومة مستحيلة فإن الإرهاب ممكن، وليس الاستسلام وحده. إن الدول الفاشلة، العاجزة عن القيام بوظائفها الحيوية، هي قواقع مناسبة للإرهابيين، وفقا لتحليل أميركي معياري عن جذور الإرهاب. ما زالت إسرائيل وما زال الغرب وفيين لمنطق الحرب المطلقة، وإن جرى تحديثها بإحلال إبادة العدو سياسيا ودفعه نحو الانحلال، محل إبادته ماديا. لكن هذا غير ممكن. قد تنهزم وتخضع، وتفشل، الدول العربية جميعا. لكن تفسخ المجتمعات العربية تنهار الدول فتتفسخ المجتمعات: هذا درس كل حروبنا الأهلية سيفرز مقاومات مطلقة وغير عقلانية. وهذه المقاومات قادرة على إيذاء الغرب والتعرض لمصالحه. ولنفترض أن العمى الإسرائيلي الغربي وصل إلى حد المراهنة على تحطيم هذه الحركات جميعا ورد المجتمعات العربية إلى"نفايات بشرية". ستلزم من أجل ذلك وحشية باهظة الكلفة الإنسانية والمعنوية، وستدفع الملايين إلى الهجرة، وستتسبب في تغذية التيارات العنصرية والعدوانية في الغرب. فيا له من نصر؟ ويا له من ذكاء؟ نعيش في عالم واحد. لم يعد احد يستطيع أن يقول إنه غير مبال بنتائج سياساته وحروبه. بالخصوص القوى الكبرى. يمكن للأميركيين والغربيين أن يلحقوا الهزيمة بأي عدو متصور. وبفضل فارق القوى الهائل الذي يحوزه الأميركيون حيال أية قوة أخرى على الكوكب تناظره نسبة قوة الإسرائيليين إلى العرب، فقد خرج الفوز في المواجهات العسكرية، ربما لأول مرة في التاريخ، من دائرة التقدير والترجيح إلى دائرة اليقين. هذا ما تثبته حروب ما بعد انتهاء الحرب الباردة جميعا. بالمقابل تغرق في دائرة اللايقين عمليات ومسارات ما بعد الحرب. العراق مثال أولي. هذا الواقع يدفع نحو إعادة النظر بمفاهيم الحرب والعدو والنصر والهزيمة. بات العدو مسؤولا عن مصير عدوه، ولم يعد الفوز العسكري بهزيمة العدو ينهي الحرب ولا يضمن النصر. الحرب ذاتها صارت تبدأ بعد انتهاء الحرب. قد نتذكر أن الرئيس بوش أعلن النصر الأميركي في أيار 2003، وبعد أسابيع بدأت حرب أخرى، لا تبدو موشكة على الانتهاء. تسمية الحرب الأخيرة إرهابا لا يساعد في غير تضليل النفس الأميركية والإسرائيلية... ومنحها شعورا بالحق. ليس في هذا كله أي عزاء للعرب. إن ما يحميهم اليوم ليس مبادراتهم الحرة ولا خططهم المتروى فيها ولا قراراتهم المدروسة، بل مخاطر تحللهم، والنتائج القصوى لدفعهم نحو الانهيار. نشكك بحكمة الغربيين لأننا نرصد أصلا إخفاق العرب المعاصرين في أن يكونوا فاعلين سياسيين حداثيين مسؤولين عن أنفسهم. يسهم الغرب وإسرائيل بلا شك في جانب من هذا الشرط، لكننا نجامل أنفسنا كثيرا إن أنكرنا أن إسهامنا هو الأساسي. قد يفيد فقط أن نتذكر أن أنظمة عربية مواجهة لإسرائيل قتلت من مواطنيها أكثر بكثير ممن قتل منهم في مواجهة إسرائيل، وأن السجون العربية اشد وحشية من السجون الإسرائيلية، وأن القسوة في التعامل مع السكان وتحقيرهم وإهانتهم وتحكيم الخوف فيهم... قد أنتج جيلين من الناس المحدودين روحيا ونفسيا وأخلاقيا، وأن القيمة المطلقة عند اكثر نخب السلطة العربية هي البقاء في الحكم إلى الأبد. ما من سبيل إلى تحميل إسرائيل وأميركا والغرب المسؤولية عن ذلك. لا يتعمد هذا التحليل أن يكون فظا. إن الواقع أشد قبحا وفظاظة. لكن مكر التاريخ رحيم.