في لبنان أزمة حكم لا أزمة حكومة كما يردد السياسيون، أما في فلسطين فالأزمة أعمق وأشد ضرراً لتتجاوز معضلة الخلاف بين شخصين واتجاهين ومزاجين وبرنامجين وتتحول الى مأساة فعلية ان لم نقل مهزلة يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني. انها أزمة حكمة قبل أن تكون أزمة حكومة أو أزمة حكم، والحكمة غائبة أو مغيبة لغرض في نفس يعقوب، أو بسبب طغيان العقلية الفردية والنوازع الأنانية وعدم الاقتناع بوجوب تقديم تنازلات، ولو موقتة، في سبيل الصالح العام. وهي أزمة حكمة في زمن العهر الصهيوني والانهيار العربي والانحياز الأميركي والعجز الدولي والصمت المريب ازاء الجرائم الاسرائيلية والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان وللشرعية الدولية وقلب المعادلات في اللعبة الاقليمية والدولية وتغييرها لتناسب متطلبات ارهاب الدولة العبرية. اسرائيل تجتاح الأراضي الفلسطينية وتنسف اتفاقات أوسلو وما تبعها من التزامات وتذبح حمامة السلام وتقتل وتدمر وتشرد وتهدم المنازل وتجرف الأشجار والأراضي الزراعية وترتكب المذابح وتعتقل الآلاف وتقضم المزيد من الأراضي العربية لبناء المستوطنات الاستعمارية وإقامة جدار العار المسمى زوراً وبهتاناً بالجدار الأمني على مرأى من العالم بأسره والقيادات الفلسطينية تتلهى بالخلافات و"الحرتقات" والأحاديث التافهة عن الصلاحيات والمناصب والكراسي. وما شهدناه من مهازل ومضحكات مبكيات رافقت تشكيل حكومتي محمود عباس أبو مازن وأحمد قريع أبو العلاء يؤكد ان الأزمة هي أزمة حكمة قبل أن تكون أزمة حكم أو أزمة تشكيل حكومة وتوزيع مناصب وصلاحيات وأدوار وداخلية وأمن. وإذا كانت مثل هذه الممارسات قد مرت من قبل فإن الظروف الراهنة لا يمكن أن تبررها أو تسمح بتكرارها مهما كانت الأسباب أو الدوافع. صحيح ان من الواجب عدم الرضوخ للاملاءات الاسرائيلية أو الأميركية الا ان الواجب ايضاً الالتفات لمعاناة الشعب الفلسطيني وعدم تركه فريسة للقلق والقرف ومضاعفة خيبات أمله بكل شيء وبكل طرف. فالحكمة تقتضي ان يعمل الجميع على توحيد صفوفهم ونبذ خلافاتهم وبذل الجهود من أجل انقاذ ما يمكن انقاذه من الشعب والدولة والقضية والهوية والأرض. ومن خلال ما توالى من أحداث وتطورات وما ظهر من مواقف وممارسات يمكن القول ان مسؤولية هذا التردي وأوزارها يتحملها الجميع، أي كل الأطراف والفصائل والتنظيمات والقيادات وان كانت مسؤولية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أكبر بصفته القائد والزعيم. ولكن مسؤولية الرئيس عرفات في الوصول الى هذا المأزق لا تعفي الآخرين من مسؤولياتهم ولا تعني أيضاً التعرض لقيادته أو السماح بعزله أو التقليل من دوره التاريخي ومواقفه الوطنية وصموده في وجه المؤامرات وكيد العدو وحصاره اللاإنساني، فلو كانت هناك محاسبة ومساءلة لتوزع اللوم على جميع الفصائل والقيادات من دون استثناء لأنها لم تكن على مستوى المسؤولية ولم تتعامل مع الأخطار بتعقل وموضوعية وحكمة فمنها من أسهم في وضع العصي في الدواليب، ومنها من تخلى عن مسؤولياته ومنها من التفت لمصالحه الخاصة وتشجيع الفساد ومنها من اكتفى بالتنظير وتوزيع الاتهامات، ومنها من استقال من القضية، ومنها من رهن نفسه للاسرائيليين ومنها من اكتفى بالتحذير واللوم وتبرئة النفس، ومنها من تحلى بأعلى قدر من روح المسؤولية والواقعية والحكمة لكنه لم يصمد ولم يدافع عن مواقعه ولم ينجح في توعية الرأي العام وجلبه الى صفه. أما بالنسبة الى القضية المثيرة للجدر وهي العمليات الانتحارية أو الاستشهادية فإن الحكمة تقتضي ممن يؤيدها ويدعمها ويخطط لها وينفذها أن يتوقف قليلاً ليجري جردة حسابات يستخلص منها سلبياتها وايجابياتها. ومع انه ليس من حق أحد أن يطالب بوقف المقاومة الفلسطينية أو الاستسلام لآلة الحرب الصهيونية والتصدي لإرهاب اسرائيل فإن الحكمة تتطلب الدعوة لإعادة تقويم الوضع ولو لفترة قصيرة حتى لا تضيع القضية في متاهات الجدل والخلافات والانقسامات ويجر الشعب الفلسطيني الى محرقة الحرب الأهلية التي تعتبر البند الأول في "أجندة" حكومة شارون وطموحاتها وآمالها وأحلامها المريضة. وإذا كان انصار العمليات في الداخل يعتبر انها السلاح الوحيد المتاح في وجه الآلة العسكرية الجهنمية وان العدو تكبد خسائر فادحة بالأرواح والأموال فإن هناك من يقلب الآية ويتحدث عن الثمن الفادح الذي دفعه الفلسطينيون نتيجة لرد الفعل الاسرائيلي. فقد حصدت الانتفاضة الفلسطينية عبر مراحلها الأولى والثانية مكاسب كبرى على مختلف الأصعدة وحملت اسرائيل على الرضوخ للضغوط الدولية والاعتراف بالشعب الفلسطيني وهويته وحقوقه ولو من باب المناورة واعتبار الاتفاقات مجرد حبر على ورق. وكان يمكن المضي في محاصرة اسرائيل لو استمرت على نهجها السابق ولم تتحول الى "العسكرة" من دون الاستعداد للمواجهة والصمود وتأمين متطلباتها وأسلحتها ووحدة قرارها. وهذا ليس وقت الحساب لكنه وقت التقويم وإعادة النظر في المواقف واستعادة سلاح الحكمة حتى لا يقع الجميع في أتون المحرمات ومتاهات الضياع. ويحلو للبعض أن يشبه المقاومة الباسلة في جنوبلبنان التي أدت الى دحر العدو الاسرائيلي بالمقاومة الفلسطينية... وهذا صحيح من حيث الأهداف السامية والنظرة العامة والواجب الوطني والقومي والديني لكنه قابل للنقاش وربما للنقض من حيث الظروف والمتغيرات والأساليب ومواطن القوة والأبعاد الوطنية والقومية والدولية. فالمقاومة الوطنية والاسلامية في جنوبلبنان حققت انتصاراتها المتلاحقة باستخدام كل الوسائل والظروف المتاحة من دون أن تتخلى عن عوامل الحكمة والمرونة والمناورة والواقعية وهذا ما تجلى في مناسبات عدة بينها تفاهمات نيسان ابريل الأولى والثانية وأخيراً في المفاوضات الماراثونية بين "حزب الله" واسرائيل عبر الوسيط الألماني لتبادل الأسرى والمعتقلين. وحتى تنجح المقاومة الفلسطينية في تحقيق أهدافها والوصول الى نشوة الانتصار الذي حققته المقاومة في جنوبلبنان لا بد من درس تجربتها بعمق، واستخلاص العبر والنتائج، وتحديد مواطن القوة وأسباب النجاحات المتكررة وبينها على سبيل المثال لا الحصر: ان المقاومة الوطنية، والاسلامية في شكل خاص، لم تنطلق عشوائياً بل أعدت لنفسها ما استطاعت من قوة وتنظيم واستعداد واعتمدت استراتيجية طويلة المدى من دون أن تغفل امكانات اللجوء للتكتيك في التصعيد أو التهدئة وفي الرد على العدوان أو ضبط النفس بانتظار الوقت المناسب لها وليس لإسرائيل فهي التي كانت تحدد متى تعمل ومتى تتوقف ومتى تصعد ومتى تهادن. ان المقاومة لم تبدأ بحصد نجاحاتها إلا بعد أن تمكنت من حسم الموقف لمصلحتها وتمكنت من إقصاء أو إقناع الفصائل والأطراف الأخرى بالابتعاد وحصر العمليات بقيادتها ووحدت قرارها بلا منازع خلال عقد من الزمن. إن المقاومة اللبنانية كانت تنطلق من مساحة حركة أوسع في الداخل والخارج ولم تكن محاصرة من قبل العدو، بل كانت هي التي تحاصره عملياً. ان المقاومة اللبنانية تجنبت الإضرار بالمدنيين مما أكسبها الرأي العام العالمي بوصفها مقاومة وطنية تعمل لتحرير أرضها ووطنها من رجس الاحتلال، ولم تلجأ لقصف المستعمرات الاسرائيلية إلا بوصفها هدفاً مشروعاً رداً على قصف اسرائيل لمناطق مدنية لبنانية، وقد توصلت مرات عدة الى تفاهمات بتجنب مثل هذا القصف لقاء تعهد اسرائيلي مماثل. ان الظروف التي عملت فيها المقاومة اللبنانية تختلف عن الظروف الحالية التي تحارب فيها المقاومة الفلسطينية كنتيجة للمتغيرات الدولية بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن والحرب على ما يسمى بالإرهاب، إضافة الى التناغم الظاهر بين ادارة الرئيس بوش وحكومة شارون اليمينية المتطرفة. ان المقاومة اللبنانية تمكنت من حشد تأييد كامل وحاسم من قبل الشعب اللبناني بفئاته كافة واتجاهاته وطوائفه ومعه الحكم والجيش والأحزاب وهذا ما لم يتحقق للمقاومة الفلسطينية حتى الآن. ان المقاومة اللبنانية حشدت إضافة الى التفاف اللبنانيين حولها، الدعم والتأييد الكامل عربياً وإقليمياً ولا سيما من سورية وإيران وهو ما حقق لها امتداداً واسعاً وحرية حركة من الناحية المالية واللوجستية والسياسية اضافة الى الدعم الشعبي المطلق. ان المقاومة اللبنانية حظيت بغطاء الشرعية الدولية عبر القرار 425 الذي يطالب اسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضي اللبنانية فيما الشرعية الدولية غائبة عن الأجواء الفلسطينية والمزاعم الاسرائيلية بالحكومة الإلهية وأرض الميعاد تكاد تكرس من قبل الصهاينة ودول العالم وكأنها حقيقة واقعة فيما حدود الوطن الفلسطيني غير محددة وغير معترف بها. ان المقاومة اللبنانية استخدمت السلاح بيد والعمل الانساني والاجتماعي والخيري بيد أخرى حتى لا تختل الموازين وتؤدي الضائقة المعيشية الى نقمة ومعارضة. هذه العوامل وغيرها تستدعي الدراسة والتمحيص عند الاعتراف بضرورة اعادة تقويم الموقف مع الأخذ في الاعتبار بالنسبة الى جميع الفصائل وجوب التوقف عن محرمات لا يجوز تجاوزها أو العبث بها ومنها المس بالوحدة الوطنية أو الانجرار الى حرب أهلية يخطط لها شارون وزمرته... ففي مثل هذه الظروف التي تمر بها فلسطين والمنطقة الخلاف ممنوع ومرفوض مهما كانت المبررات، الوحدة الوطنية مطلوبة بإصرار لتجاوز المأزق الراهن ومعها وحدة البندقية والقرار. * كاتب وصحافي عربي.