عندما استهدفت الولاياتالمتحدة في 11 ايلول سبتمبر ذهبت الى افغانستان، وأعلنت الحرب الكبرى على الارهاب. لماذا لا يمكن اذاً لاسرائيل الذهاب الى قلقيلية لضرب الارهاب؟ أسئلة يطرحها المحللون الاسرائىليون لتبرير حملة الإبادة. فهم يريدون بذلك ان يجعلوا من حرب شارون، وكأنها جزء أساسي من الحملة الاميركية على الارهاب. حتى الآن، نجحت هذه الحملة. لكن لماذا؟ بادئ ذي بدء، تطابق الصورة النمطية للارهاب بين أميركا واسرائيل. فالفلسطينيون وأعمالهم تندرج ضمن التوصيف الاميركي - الاسرائيلي للارهاب. فمصدر "الارهابيين" هو من الشرق الأوسط. والطريقة المعتمدة من هؤلاء هي نفسها ايضاً، العمليات الانتحارية. كما أنهم أي الارهابيين، يسعون الى تدمير "الحضارة الغربية". هذا عدا التطابق الكلّي في المصالح. فأميركا لها مصالح حيوية في المنطقة، وعلى رأسها النفط والغاز، خصوصاً بعد الامتداد والانتشار الاميركيين في منطقة اسيا الوسطى، كما تريد المحافظة على أمن اسرائيل. أما في الجهة الاسرائىلية، فهي تريد الاستمرار والبقاء ضمن أكبر "غيتو" عرفته عبر تاريخها والمتمثل بفلسطينالمحتلة في ظل محيط معادي كما تدّعي. اذاً أميركا واسرائيل تريدان أخذ كل شيء، من دون مقابل، وهذا مستحيل تيمّناً بما قاله الامبراطور فريديريك الأكبر: "من يدافع عن كل شيء، لا يدافع عن شيء". ونحن نقول من يريد كل شيء، لا يحصل على شيء. في ظلّ هذا الوضع من هو المقصود من أميركا واسرائيل؟ المقصود، هو العربي، أيّ عربي يندرج ضمن التوصيف الذي وضعته أميركا للارهاب، بغضّ النظر عما اذا كانت قضيته محقة أم لا. المقصود ايضاً هو المسلم، أي مسلم يختلف ولو بقليل عما تريده أميركا واسرائيل. من هنا كانت الساحة الشرق أوسطية، أو بالأحرى الساحة العربية، وتحديداً الساحة الفلسطينية مسرحاً لكرّ وفرّ بين هذه التناقضات. فمن جهة هناك من يريد كل شيء، ومن جهة أخرى هناك من يريد استرداد بعض هذا الشيء، فيأتي الصدام ليكون الحلّ الوحيد في ظلّ غياب أي كوّة ايجابية في الجدار السياسي. هل يمكن لهذا الصدام ان يستمر؟ تشكل المعضلة الفلسطينية سابقة في التاريخ العنفي للصراعات وذلك لسببين. الأول، في مدة هذا الصراع الطويلة، وعدد الحروب التي وقعت خلالها. الثاني، في مستوى العنف المرتفع الذي وصلت وتصل اليه هذه الصدامات في كل يوم من ايام التعامل المباشر بين المتنازعين. ونتيجة لهذا الوضع المغلق على أي بادرة أمل، وفي ظل الاستراتيجيات العنفيّة والتكتيك المعتمدة من الفرقاء والاستراتيجيات المضادة، يبدو ان كل من شارون وعرفات وصلا الى متاهة لا مخرج منها في الوقت الحاضر، لماذا؟ في الشقّ الشاروني: 1- في ظل غياب عدوّ له كيانه وحدوده، حيث يمكن قياس النصر عليه، يحاول شارون تحويل اتجاه عدوانه نحو كبش محرقة بديل متمثل بعرفات. فهو يحمله مسؤولية أي حادث ولا بد من معاقبته. وهو يحاول مسخ صورته، منتزعاً الصورة الصفة الانسانية عنه. فهو بن لادن طوراً، نظراً لما لهذه الصورة من تأثير على العقل والوعي الاميركيين. وهو ليس شريكاً للسلام تارة اخرى. واخيراً وليس آخراً، هو العدو المُبرر قتله. أعلن شارون عن ندمه لعدم قتل عرفات في بيروت، وندم ايضاً لأنه وعد الادارة الاميركية بعدم المس برمز السلطة الفلسطينية. فبدل ذلك يعمد شارون الى تطويق عرفات، يعزله، يُهينه أمام شعبه، ويضعه أمام خيارين: إما الاستسلام أو النفي والقتل. هل سيحقق شارون هدفه؟ طبعاً لا، لأن عرفات يريد ان يكون شهيداً، هذا عدا عن ان استراتيجية استهداف القيادات السياسية لبلد ما بهدف تغيير السلوك السياسي لهذا البلد، فشلت عبر التجارب التاريخية، فهي ادّت الى مزيد من الالتفاف الشعبي حول هذه القيادات. فقتل القائد الياباني ياماموتو من قبل الاميركيين خلال حرب الباسفيك لم تؤد الى تبديل في الخيارات العسكرية اليابانية، ولم تؤد الى النتيجة المرجوة. كما ان استهداف اسرائيل للقيادات الفلسطينية عبر تاريخ الصراع، في فردان مثلاً، وفي بيروت 1982، وفي تونس لم يؤد الى تبديل في السلوك السياسي الفلسطيني، لا بل زادت من عزيمة هذه القيادة للاستمرار في هذا الصراع. وهذه أول معضلة لشارون. 2 - حتى الآن، لم تظهر الاجتياحات الاسرائىلية لمناطق السلطة ان هناك مخازن هائلة من الذخيرة والمتفجرات في هذه المناطق، كما ادّعت قبل الاجتياح، وإلا لكانت استعملت هذه الذخيرة من قبل الفلسطينيين، أو استغلتها اسرائيل ضمن عملية إعلامية كبيرة كما فعلت مع السفينة كارين-أ. لكن وفي الاطار نفسه، يبدو ان العملية العسكرية ادّت الى التقليل بشكل ملحوظ من العمليات الانتحارية - الاستشهادية داخل اسرائيل، ما يدلّ ان العملية حققت هدفاً واحداً على الأقل حتى الآن. وذلك لأن المقصود كان ضرب البنى التحتية لهذه التنظيمات التي تقود العمليات الانتحارية. لكن هذه التنظيمات تتشتت مقابل الهجوم الاسرائىلي لوقت قصير، وربما تعود لتنظّم نفسها لاحقاً. كما ان عدة العمل الخاصة بها كالمتفجرات، لا تستلزم مخازن ومصانع كبرى، لا بل هي من صنع البيت وبشكل غير تقليدي. وهذا الوضع يجعلنا نعتقد ان شارون، وفي ظل غياب الاستعلام الدقيق عن هذه الشبكات، يعمد الى استهداف عقول الانتحاريين لردعهم، لكن ردع من هو مستعدّ للتضحية بنفسه لن يؤدي الى النتيجة المرجوة، وهذا ما يشكل المعضلة الثانية لشارون. 3 - هناك مثل صيني يقول: "لا تفكك الجسر قبل عبوره"، فكّك شارون كل الجسور قبل عبورها، الامر الذي يجعلنا نعتقد أنه هو الانتحاري الاكبر وبامتياز، أو بالأحرى إنه شمشوم القرن 21 في اسرائيل. فمشروعه السياسي - العسكري يقوم على 3 ركائز أساسية: الجغرافيا، الطوبوغرافيا ومن ثم الديموغرافيا. في الجغرافيا، يريد الاحتفاظ بالجولان ومدّ نفوذه العسكري حتى باكستان والهند. في الطوبوغرافيا داخل اسرائيل، يريد اعطاء الفلسطينيين دولة تقوم على ما تبقى من أرض، بعد الاستيلاء والسيطرة على ما يراه حيوياً لأمن اسرائيل. أما في الديموغرافيا، فهو يريد استقدام مليون يهودي الى "أرض الميعاد" بعد ان بدأ يعتقد ان الصهيونية بدأت بالأفول - تتعارض هذه الركائز مع كل ما رُسم ويُرسم للمنطقة من حلول. اذ لا يندرج أي مشروع سلمي بشكل ايجابي ضمن خطة شارون. وهنا ترتسم المعضلة الثالثة أمام خطته، في حال تراجع عن أي من أهدافه. باختصار، يقود شارون حرباً شاملة من دون أفق سياسي، ولاهداف محدودة أو بالأحرى صعبة التحقيق، وقد يُضاف هذا الوضع كمعضلة رابعة. في الشق العرفاتي: 1 - يقود عرفات اجندات السلم والحرب في المسألة الفلسطينية. فهو المقاوم، والحائز على نوبل للسلام في الوقت نفسه. تفرّد عبر تاريخ الصراع في إعلان الحرب، كما اعلان السلم. وأربك مساره كل من تبعه. فهو لا يُحتوى، ولا يُبلع. قاد حربه من جنوبلبنان، فأغرق لبنان في دوامة من العنف دامت أكثر من 20 عاماً. ولا تزال، وهو ايضاً تفرّد في مسار السلم في أوسلو بعد ان خرج عن الخيارات العربية التي أنبثقت عن مدريد 1991. تكمن معضلة عرفات الاولى في خياراته الاستراتيجية لاستعادة الحق السليب. فهو أراد ان يلعب لعبة الكبار برصيد الدول الصغرى، أو بالاحرى الدول قيد الانشاء. قرر المسار السلمي، من دون تجميع عناصر القوة التي تتيح له استرجاع ما اتفق عليه على الورق. باختصار فكّر بطريقة خطية. 2 - يؤمن عرفات ان الاميركيين والاسرائىليين يهدفون الى تحقيق "السلم بالإعياء". والمقصود بذلك إعياء الفلسطينيين والعرب بالحروب تارة، والخطط السلمية طوراً حتى يصلوا الى القبول بما لا يُقبل. ويبدو هذا التصوّر صحيحاً اذا ما استذكرنا التراجعات العربية منذ القرار 181. ويندرج التذبذب للسياسة الاميركية تجاه المعضلة الفلسطينية في هذا الاطار. فتارة لا يريد بوش التدخل حتى يقرر الفرقاء إطار الحل. وطوراً يرسل مندوبيه الامنيين منهم والسياسيين. حتى ان "واشنطن تايمز" الاميركية نشرت مقتطفات من دراسة أجريت في "معهد ليفنورث" المشاة الاميركية، حول إمكان ارسال 20 ألف جندي أميركي الى فلسطين كجزء أساسي من الحل المستقبلي. لكن الثمن المدفوع كان دائماً من الدم الفلسطيني البريء. نتيجة لهذا التصوّر قرّر عرفات عدم الحديث عن الموضوع الامني من دون ربطه بالبعد السياسي، في ظل هذا الرفض للحلّ الأمني الذي تحاول اسرائيل فرضه بمساعدة أميركا، قرّر عرفات الصمود والمقاومة، وهذا قرار سليم ومحق لكنه يبرز معضلات الرئيس عرفات. لماذا؟ 3 - تتطلب المقاومة الشعبية للاحتلال أسساً لا بد من توافرها كي تحقق أهدافها. ما هي هذه الأسس؟ أ ضرورة توافر إرادة الصمود. هكذا كان في فيتنام، وهكذا حصل في جنوبلبنان، لا تشكل هذه الارادة معضلة للرئيس عرفات لأنها متوافرة وبحماسة كبيرة، لكن ما تستلزمه هذه الارادة هو المعضلة. ب ضرورة توافر الراعي الكبير لهذه الارادة. تبنى الصينيون والسوفيات الارادة الفيتنامية، عبر مدّها بالسلاح والعتاد والمواقف السياسية، الأمر الذي أدّى الى النجاح. توافر الراعي المحلّي السلطة اللبنانية، والاقليمي سورية وايران للمقاومة في جنوبلبنان، فنجحت في أول حرب من دون ثمن سياسي يدفع للاسرائىلي من قبل العرب. ج ضرورة توافر الملاذ للمقاومة. أي ملجأ يحتمي فيه المقاوم بعد تنفيذ العمليات العسكرية، ويوجد عادة في محيط موالي للقضية، والملاذ ضروري ايضاً لتجنيد المقاوم، تدريبه وتسليحه تحضيراً للقتال. توافر الملاذ للفيتنامي، وللمقاومة في جنوبلبنان فنجحا في تحقيق أهدافهما. في ظلّ هذا الوضع تبدو معضلة عرفات في توافر الارادة وغياب العاملين المتبقين والمتمثلين بالراعي والملاذ. فالراعي الدولي مفقود خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وضربة 11 ايلول، كما ان الراعي الاقليمي العربي وغيره عاجز موضوعياً في هذا الامر. أما الملاذ، فلا يتوافر الا ضمن أراضي السلطة، وهي منتهكة حالياً ولا توفر المطلوب. أما الملاذ خارج هذا الاطار الجغرافي، فهو ايضاً غير متوافر بسبب احتواء وتطويق اسرائيل وأميركا لمسرح العمليات الاساسي. لا تندرج الحرب الفلسطينية العادلة ضمن توصيف الحروب العادلة حسب القاموس الاميركي، خصوصاً بعد 11 ايلول، فيبدو الوضع هنا وكأن الدول العربية تواجه معضلة كبرى في تفكيرها الاستراتيجي. والمعضلة تقوم على الآتي: تحاول الدول العربية حالياً ايقاف الهرم الاستراتيجي الخاص بها على رأسه بدل إيقافه على قاعدته، الامر الذي سيجعله يقع وينهار بصورة مستمرة لأنه يعاكس المنطق، ويعاكس قانون الجاذبية في حدّه الأدنى خصوصاً. فبدل ان تكون الانتفاضة هي اساس الاستراتيجية العربية في الصراع، وجب عليهم التخطيط والتفكير بها وكأنها جزء بسيط من استراتيجيتهم العسكرية الكبرى، وهذا غير متوافر حتى الآن. في الختام يقول لورنس العرب: "مع تجارب عسكرية لأكثر من 2000 عام، لا يجب علينا تكرار الاخطاء في كلّ مرة". جواباً عن هذا القول: "مع أكثر من 100 عام من الصراع، ومع خمس حروب تقليدية، والكثير من حروب الاستنزاف، وأكثر من انتفاضة مع العدو الاسرائىلي، لا يجب علينا تكرار الاخطاء كل مرة، وإلا فسوف نفقد ايماننا بالذات وحسنا بالإنتماء". فهل هذا معقول؟ ممكن لكننا نكره الوصول إليه، فلننتظر. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.