نبدأ اليوم نشر سلسلة مقالات للدكتور الأنصاري تظهر كل إثنين وخميس. لم يتحرر الفكر العربي الإسلامي من حالات الحصار الخانقة إلا في القرون الأولى من تاريخ الحضارة الإسلامية عندما استطاع التعامل مع أصوله الذاتية ومعطيات التراث الإنساني بقدر من الحرية والعقلانية المستقلة الناقدة التي أعطته قيمته في تاريخ الفكر العالمي 0 ثم مرت عليه حالات طويلة من الحصار معظمها راجع لطبيعة القوى المجتمعية الداخلية والخارجية التي سيطرت على واقع العرب والمسلمين لأزمان فأعادته مع حضارته المجهضة إلى الوراء. وفي اللحظات النهضوية الأولى من العصر الحديث أظهر هذا العقل نزوعه وحنينه لاستعادة تحرره الأول والتعامل مع أصوله ومستجدات أزمانه بالنهج الابداعي ذاته، إلا أن قوى الداخل والخارج التي لم يحسن تشخيصها أعادته إلى وضعية الحصار، وكان منعطف التراجع نكبة 1948، التي أعادت هزيمة 1967 تأكيدها، بدل نفيها. فتضاعفت حدة الحصار في ظل جدلية الهزيمة والعقل، إلا أن جديد العقل _ هذه المرة _ أنه رفض رهن نفسه لوعود الثأر من الهزيمة على ايدي الانقلابيين والايديولوجيين وقرر أن يفتح صدره عارياً للعاصفة، على رغم مناخات الحصار المضاعف والمستجد. هذه - إذاً - تحولات فكر تحت الحصار، مع تقلبات الأزمنة المداجية التي لا يمكن اختراقها إلا بالجرأة الصادقة في تحديد متطلباتها الباهظة بمنتهى الوعي المعرفي الممكن. إنها تحولات ما بين صدمة الهزيمة يونيو 1967، وانتعاشة الروح مؤقتاً في حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 مع صعود قوة النفط العربي إلى حين. ثم عودة المناخ المهزوم والمأزوم من كامب ديفيد 1977 - 1979، إلى احتلال بيروت 1982 بعد اندلاع حرب تدمير لبنان منذ 1975. هذا، مع استعادة - موقتة هي الأخرى - للأنفاس العربية بعد خروج العراق متماسكاً من حربه مع ايران 1988، قبل الانخراط سراعاً بصورة أخطر وأفدح في خطيئة احتلال الكويت وتدمير العراق 1990 - 1991 وما رافقتها من "فتنة" عربية شاملة كانت بمثابة الحرب الأهلية العربية الموسعة، ليس بين الأنظمة العربية فحسب، وإنما بين قطاعات من الشعوب والمثقفين بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العرب الحديث. بينما كان العرب يتراجعون بهذه الصورة، كان العالم يتغير ويتقدم بوتيرة غير مسبوقة أيضاً فقد وقع "انقلاب الأزمنة" بامتياز ليس بين قرن وآخر فحسب، وإنما بين ألفية وأخرى: سقط سور برلين وتوحدت المانيا وانهار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية وواصل الشرق الجديد صعوده كقوة عظمى، وانتهت الحرب الباردة - عدا داخل العالم العربي! - ثم تدفقت أخيراً تيارات العولمة التي هي أعلى مراحل الحداثة، وتلعثم أمامها الفكر العربي بينما هو يجهد لفك ارتباطه بإيديولوجيا الحقبة الكولونيالية والشيوعية، وقبلها بايديولوجيا الانحطاط المملوكي والعثماني التي أعيد انتاجها مجدداً في أشكال مختلفة، أشدها وطأةً تلك التي شرعت لمذابح الجزائر، ولإعادة عقارب الزمن في أفغانستان وغيرها من بلاد العرب والمسلمين،التي جنحت إلى التطرف الانتحاري باسم الصحوة الإسلامية المغيبة - صحوة العقل والضمير والروح - التي لا بد منها لمواجهة واقع الفساد وحال الحصار. في "تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي" - 1980، وفي "الفكر العربي وصراع الأضداد" 1995، قام كاتب هذا البحث برصد وتحليل حركة الفكر العربي منذ مطالع القرن العشرين إلى نهاية الحقبة الناصرية، والقومية بعامة، قبل حوالى ثلاثة عقود. وبعد هاتين الدراستين، تأتي هذه الدراسة الجديدة لرصد سيرة العقل العربي في ثلث القرن الأخير، في فترة من أشد الفترات تحدياً له، وقسوةً عليه، لكن نارها الحارقة قد تنجلي عن معدنٍ أصفى لهذا العقل، إن استطاع في النهاية أن يصمد فوق المحك ويستخلص من مرارة التجربة ترياقها النافع. وبهذه الدراسة الثالثة والأخيرة، تكتمل ثلاثية تأريخنا للفكر العربي في القرن العشرين إلى نهايته، وتصبح الرؤية أكثر امتداداً وشمولاً لرؤية فكرنا العربي في قرنٍ متقلب، تصورنا في بداياته إلى منتصفه أنه سيكون زمن الخلاص، فتحول في عقوده الأخيرة إلى محنةٍ لا تقل عن أشد عصور تاريخنا وطأة. فسمّاه البعض "قرن الهزائم العربية" نصر حامد أبوزيد، وسماه البعض الآخر "قرن تغريب الأمة" فهمي هويدي، وتساءل شاعر عربي كبير قبل أن يرحل عن المشهد المحبط : "متى يعلنون وفاة العرب؟" نزار قباني. وربما كان القرن العشرون في التحليل النهائي هو قرن الارتطام الحقيقي للأمة بحقائق ووقائع العصر الحديث في أبعاده المختلفة، بعد أن تصور مؤرخو الفكر العربي طويلاً أن واقعة الاحتلال الفرنسي النابليوني لمصر نهاية القرن الثامن عشر 1798 هي بداية احتكاكها بهذا العصر. ويبدو أنها لم تكن البداية الحقيقية الواسعة والشاملة لهذا الاحتكاك والتواجه بين العصر الحديث والواقع العربي الموروث على امتداد الأرض العربية. كانت فقط الارهاص التاريخي الذي مهد لهذه المواجهة واحتاج - على المدى التاريخي - إلى ما يقرب من قرن ونيف ليأخذ امتداده الحقيقي وتفاعلاته الفعلية في العمق العربي، هذه التفاعلات التي يمكن أن نرى نتائجها خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين. وعلى رغم تطاول الأزمة، فليس ما يدعونا إلى الوقوع في سوداوية قاتمة، واعتبار أزمتنا هذه نهاية العالم فالتاريخ كالبحر الغزير لا يعبره إلا من امتلك نفساً طويلاً ورؤية قادرة على استشراف الأفق البعيد. وأياً كان الأمر، فإنا نجد أن أصدق ما ينطبق على الفكر العربي خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، ومنذ هزيمة يونيو 1967 بصفة خاصة، أنه: "فكر تحت الحصار" بأوسع معاني الكلمة. وهذا لا يعني أنه "تحرر" تماماً في الفترات السابقة من كل أنواع الحصار في العهود "الثورية "و" الرجعية "و" الاستعمارية"، لكنه حقق انطلاقة نحو أهداف وطنية تاريخية معينة منذ منتصف القرن، بعد أن اكتسب قبساً من التنوير التربوي والنهضوي المعرفي في عهود أسبق. أما بعد هزيمة يونيو حزيران 1967 فقد أصبح - بامتياز - فكراً "تحت الحصار" على رغم ما أظهرته تياراته الايديولوجية بُعيْد الهزيمة مباشرة من محاولات تخفيف وقع "النكسة" التي تكشفت عن أقسى هزائم العرب، ليس بالمعنى العسكري فحسب، وإنما بمختلف الأبعاد الكيانية الأخرى. جاء أولاً الحصار الإسرائيلي لفلسطين كلها وما يحيطها من أراضٍ ودول عربية مجاورة ليمثل الحصار العسكري الملموس لوسط العالم العربي. ثم تلاه حصار الهجمة الأميركية والغربية بعامة لاستثمار هذه الضربة الموجعة التي وجهتها اسرائيل إلى جوانب أساسية من القوة العربية، التي ردت على هذه الهجمة برفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ما أدى موضوعياً إلى حصار داخلي مس قطاعات من المثقفين والمواطنين، قبل أن يصل أثره إلى خارج الحدود. وإذ جاءت الثورة الايرانية 1979 انعطافاً نوعياً مغايراً للمألوف في الواقع الإسلامي السائد، فإن سياسات الدولة الايرانية حيال العرب، خصوصاً ما يتعلق بالخليج والعراق، ظلت تمثل نوعاً من الحصار الذي تضافر مع أنواع الحصار الأخرى في هذه الحقبة الحرجة. وبموازاة ذلك تداخلت عوامل متشابكة ومتناقضة لإحكام الحصار حول النفط العربي كي لا يستمر سلاحاً في المعركة، وليتحول إلى أداة صراع وحصار داخلي في العالم العربي وبين قواه الاجتماعية والسياسية المختلفة. فبعد أن تبادلت الاستنزاف والانهاك والتدمير كل من القوتين النفطيتين الكبيرتين في العالم الإسلامي - وهما ايرانوالعراق - انتقل الصراع في طرفة عين إلى داخل معسكر النفط العربي ذاته بين العراق ودول الخليج باحتلال الكويت، وانقلب "سلاح النفط" في المواجهة مع اسرائيل والغرب، إلى سلاح يدمر ذاته بذاته... وبيد العرب أنفسهم. كانت الايدولوجيات الثورية قبيل هزيمة حزيران يونيو قد حاصرت دول النفط العربي واخترقت بعضها وغيرت الأنظمة السياسية في بعضها الآخر. وردت دول النفط بحصار مضاد لاحتواء التحديات الراديكالية في الجمهوريات العربية واختراق منابرها الثقافية والفكرية على المدى الطويل، وإذ توقفت حرب اليمن على مشارف النفط بعد هزيمة 1967، فقد جاءت فتنة احتلال الكويت وتدمير العراق 1990 - 1991 لتحول النفط إلى أداة حرب أهلية بين العرب بالمواجهة العسكرية الشاملة والشرسة التي وقعت بين القوة النفطية العراقية والقوة النفطية الخليجية، في أول حرب تقع بين دول عربية بهذه الحدة، لتؤدي إلى أن يدمر النفط العربي نفسه بنفسه ويخرج من ساحة المعركة، كي لا يبقى سلاحاً بيد العرب، سواء أرادوه من أجل التحرر من التبعية الأجنبية، أو أرادوه لخطط التنمية الداخلية. والأخطر من ذلك أن العرب ومثقفيهم بعامة، انشطروا نفسياً وفكرياً بين الخندقين "النفطيين" العربيين المتواجهين، وما زال العرب يدفعون ثمن هذا الانشطار والحصار، متصورين أن النفط الذي يصبون جام غضبهم عليه منحصر في جانب واحد ولا يصب في قصور الجانب الآخر. مطلوب أن يحسم الوعي العربي حقيقة الصراع الدائر بهذا الشأن، بين معسكري النفط العربي اللذين لا يراد لهما دولياً، التصالح والتقارب مرة أخرى، إلا إذا قبلا - معاً - الهيمنة الاسرائيلية في ما يسمونه الشرق الأوسط الجديد. ويجب أن يكون واضحاً ان انتهاء الحصار الدولي للعراق متوقف على تصالحه مع اسرائيل، وليس على مواقف دول الخليج منه، كما يتصور بعض العرب. حيث لا يوجد اليوم طرف عربي قادر على اتخاذ قرار استراتيجي مستقل في المنطقة، بعد أن أوصلت مختلف الأطراف العربية نفسها إلى ما وصلت إليه. وباختصار، فإذا كانت "الثورة" - قبل عقدٍ من الزمن - قد شطرت العرب شطرين، بين من يدعو إليها، ومن يقاومها، فإن "الثروة" شطرتهم بأشد من ذلك. شطرتهم أولاً بين من يملكون ومن لا يملكون، وهذا طبيعي في كل زمان ومكان. ثم شطرتهم ثانياً - وهذا هو غير الطبيعي - بين القوة النفطية العراقية ومن يقف معها، والقوة النفطية الخليجية ومن يقف معها، كي لا يكون ثمة منتصر في الحرب الأهلية بين "النفطيين" العرب أنفسهم. بذلك يصفي النفط العربي نفسه بنفسه. وكفى الله "الآخرين" شر القتال، ولا يفل النفط إلا... النفط! إنه زمن "الحرب الأهلية" - بامتياز - داخل معسكر النفط العربي. هذا ما سيسجله التاريخ باختصار بعد أن تنجلي غبار المعارك المفتعلة والتضليل بمختلف أشكاله. لقد تصور بعض العرب أنهم يقفون ضد "طغيان"النفط بهجومهم على دول الخليج، ولم يتبينوا أنهم - فقط - متحيزون مع معسكر نفطي عربي ضد معسكر نفطي آخر، في حرب نفطية عربية أهلية شاملة، أريد جر العرب جميعهم إليها، نفطيين كانوا أو غير نفطيين! هكذا فإن الخروج من "برميل النفط" إذا شاء هؤلاء الاخوة أن نخاطبهم بمفرداتهم، يتطلب خروجهم أولاً من دائرة الوعي الملتبس الذي تم جرهم إليه. وما دمنا في حديث الحصار، فلعل حصار "الوعي الذاتي الملتبس" يمثل أخطر أنواع الحصار التي ما زال الوعي العربي والفكر العربي يتعرض لها، على رغم دخول العالم العصر "المعلوماتي"، كما يقولون، وهو حصار يجب ألا نغفله ونحن نتحدث عن حصار الخصوم والأعداء. على صعيد ذاتي مقابل، وبالإضافة إلى هذه الأنواع من الحصار التي تعرض لها الفكر العربي في الحقبة موضع الدرس، جاء نوع من الحصار يختلف في طبيعته عنها، وليس من المألوف ربطه بها. إنه الحصار "الأصولي" للفكر العربي! ونستخدم الكلمة في سياقها الشائع في الخطاب السائد وليس بمعناها الفقهي المغاير الذي نقدره علمياً. فمنذ عقود طويلة، لم يتعرض العقل العربي الإسلامي لإرهاب ذاتي من داخله - وهو أقسى أنواع الحصار - كما تعرض في هذه الحقبة. والمفارقة المريرة أن ما أصطلح على تسميته بظاهرة "الصحوة" المرجوة لم يتح لها أن تصبح صحوة عقل متحرر ناقد متسائل - كما ينبغي لأية صحوة أن تكون - بقدر ما حوصرت هي الأخرى لتصبح "صحوة" ماضويات معادية للعقل، وبعثاً لمذهبيات وفتن تاريخية لن يتقدم المسلمون في هذا العصر إلا إذا تجاوزوا ترسباتها المدمرة. وكان أول من تعرض لهجوم هذه العصبيات الماضوية "العقل الإسلامي" ذاته الذي كان مفخرة متميزة من مفاخر الحضارة الإسلامية، العقل الإسلامي الذي قدم على سبيل المثال لا الحصر عبقرية عمر السياسية، وعبقرية جعفر الصادق الفقهية وصولاً إلى عبقرية الفلاسفة الذين ايقظوا العالم الوسيط من سباته العقلي. هؤلاء الفلاسفة الإسلاميونالعظام، من الكندي إلى ابن سينا وابن رشد، أصبحوا في زمن "الصحوة" موضع تهجم واتهام. وأصبحت "الفلسفة" مصطلحاً سيئ السمعة على رغم كونها مرادفة لمفهوم "الحكمة" في حضارتنا الإسلامية بل إن مفهوم "العقل" ذاته أصبح موضع شبهة، وتم التشكيك في ما روي عن فضائله في الحديث الشريف والمأثور الإسلامي بعامة. ولم يتم تجريم "المعتزلة" أحرار الفكر في تاريخ الإسلام فحسب - بل أُلحق بهم مفكرو الإصلاح الإسلامي من النهضويين المحدثين نظير الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، وعباس محمود العقاد الذين نُسبوا إلى الماسونية، وتم تشويه نضالهم الفكري على انه عمالة وتبعية لهذه الماسونية المرتبطة بالصهيونية العالمية! وتبوأ مشيخة الأزهر الشريف - حصن الثقافة الإسلامية - في ذروة تلك الردة الماضوية الشيخ عبدالحليم محمود الذي لم يرفض فكرة التطور العقلي فحسب، بل مبدأ التطور في التاريخ الإنساني برمته، مصراً على أن عقل الإنسان لم يتطور منذ القدم ومنتهياً بتكفير المعتزلة واتهامها بالشرك والوثنية وإخراجها من دائرة الملة - وذلك هو بيت القصيد - لأن المعتزلة بحسب صك اتهامه : "سجدت للعقل لا لله" - يراجع عبدالحليم محمود، الإسلام والعقل، ص 30 - 32... فهل يجوز في عرف فقهاء الإسلام مثل هذا التكفير ؟ ومن مشيخة جامعة عريقة جعلت من رسالتها ايصال مختلف مدارس الفكر الإسلامي إلى الأجيال؟ المدهش أن هذا العداء الصريح للعقل الإسلامي لم يبرز بمثل هذا الوضوح إلا في زمن التصالح مع إسرائيل أيام كامب ديفيد. ويبدو أنها ليست صدفة أن يتولى مشيخة الأزهر في ذلك الحين رجل كالشيخ عبدالحليم محمود. ولعله من مقتضيات عقد الصلح مع إسرائيل إعلان الحرب ضد العقل في الإسلام وتكريس القطيعة مع العقل الإسلامي ذاته وليس مع العقل المادي أو العلماني الذي يمكن سحب جواز مروره من الضمير الإسلامي بسهولة، ولكن المطلوب تحطيم العقل الإسلامي ذاته كرافعة للتقدم الحقيقي وبلوغ القوة الحضارية في العالم الإسلامي... تلك هي المسألة! فمن أعجب الظواهر المسكوت عنها والجديرة بالتفحص أن طرد العقل ومطاردته في الحياة العربية والإسلامية مع انتشار النزعات الماضوية المتشددة جاء متزامناً مع طغيان الهيمنة الإسرائيلية في سائر انحاء المنطقة، على الرغم من الانطباع السائد أن تلك الحركات المتشددة قد انبعثت لمقاومة هذه الهيمنة... كما هي "الحكمة" الشائعة. وعلى رغم التناقض والتباعد، على مستوى ظاهر الأشياء، بين الاستشراء "الأصولي" والانتفاخ الاسرائيلي، فإن الخط البياني للظاهرتين على الساحة العربية - الاسلامية ظل متصلاً ومتلازماً في صعود متزامن، وما زال كذلك، إذا أخذنا هذه الساحة في امتدادها الواسع. ومع الإقرار - إحقاقاً للحق - أن مقاومة بعض الفصائل الإسلامية للهيمنة الإسرائيلية في مواضع محددة "حماس" في الداخل، والمقاومة الوطنية في جنوبلبنان تمثل نقاطاً استثنائية في مجمل الصورة العامة، إلا أن معطيات هذه الصورة العامة ذاتها من زاوية أوسع تشي بعكس ذلك. إن أبشع المذابح التي تعرض لها العرب والمسلمون في السنين الأخيرة جاءت من طرفين ليس من المألوف الربط بينهما، وهما جانب الإرهاب الإسرائيلي كما في جنوبلبنان وجانب الإرهاب الأصولي كما في الجزائروأفغانستان بين بلدان عربية واسلامية أخرى. وهذه المذابح ليست سوى عنوان صارخ لهيمنة متزامنة من القوتين النقيضتين على مصائر العرب والمسلمين في هذه الحقبة. ولا نتحدث هنا عن ارتباط"تآمري" بين القوتين، وإنما هو ارتباط أخطر. انه ارتباط موضوعي وديالكتيكي جدلي تكاملي بينهما. فالضد يظهر كنهه الضدٌّ. ولا يمكن لإسرائيل أن تسود وتهيمن إلا مع سيادة فكر ينفي العقل والتقدم في عالم العرب والإسلام من حيث المبدأ. ومنذ بدء النهضة العربية وقفت القوى الأوروبية ضد المشروع التحديثي لمحمد علي الكبير في مصر وساندت واقع التخلف العثماني على رغم كرهها للدولة العثمانية. وبتكرار مثل هذه المفارقة التاريخية بسخريتها السوداء القائمة على الجمع بين هيمنة اسرائيلية واستشراء "أصولي"، تتحقق نبوءة هرتزل: إسرائيل "متحضرة" تمثل على ساحل المتوسط خط الدفاع الأول عن الغرب وحضارته في وجه بربرية القوى "المتخلفة" لعالم الإسلام. وعلى كل حال فالمشهد ليس جديداً، كل الجدة، في ذاكرة الأمة، فقبل قرون تقابلت وتكاملت فوق صدرها المنهك القوى الصليبية والمغولية من ناحية، والقوى المعادية للعقل والإبداع والحرية من ناحية أخرى. وتم التنكيل بأحرار الفكر وعناصر التحضر باسم مقاومة المحتل. وتولدت الحكمة القاتلة والغبية: الاستسلام لمستبدي الداخل على أمل التحرر من مستبدي الخارج. وما زال هذا "الخيار البائس" هو الخيار المطروح لدى أكثر "حكماء" الأمة الذين فاتهم أن الاستبداد كالكفر، أمة واحدة وملة واحدة. وأن الشجى يتبع الشجى فالاستبداد يستدعي الاستبداد ولا منتصر غير... الواقع الاستبدادي داخلياً كان أم خارجياً ... ثم يبقى أن جميع أنواع الحصار قابلة للكسر والاختراق، إلا حصار العقل لذاته بذاته، فذاك حبل المشنقة يعلقه لنفسه. وما لم يحطم القفص ويقطع الحبل فإنه ينتحر و يحكم على نفسه بالنهاية. * كاتب وأكاديمي ووزير سابق بحريني.