عندما تناول مساعد وزير الخارجية البريطاني العشاء مع كوندوليزا رايس بعد ستة شهور على هجمات 11 أيلول سبتمبر، لم تكن مديرة الأمن القومي الاميركي آنذاك تريد التحدّث عن أسامة بن لادن أو عن تنظيم"القاعدة"بل عن"تغيير النظام"في العراق، مرتّبة بذلك الغزو الذي قادته الولاياتالمتحدة بعد أكثر من سنة. أراد الرئيس جورج بوش أن يلقى دعم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، لكن المسؤولين البريطانيين عبّروا عن قلقهم من أنّ البيت الأبيض يندفع سريعاً الى شنّ الحرب على العراق، وفقاً لتقارير سريّة تسرّبت من"داونينغ ستريت"، وجددت التساؤلات والنقاشات حول دوافع واشنطن لخلع صدام حسين. وفي أحد التقارير، تساءل بيتر ريكتس مدير مكتب السياسة الخارجيّة البريطانيّة عمّا إذا كانت إدارة بوش تملك سبباً عسكريّاً واضحاً ومقنعاً لشنّ الحرب. وقال:"إنّ التلهف الأميركي على انشاء رابط بين العراق وتنظيم"القاعدة"غير مقنع حتى الآن. فتغيير النظام في العراق لا يبدو سبباً وجيهاً للحرب، لكن الأمر بمثابة ضغينة بين بوش وصدام". وتدلّ التقارير على قلق بلير الحقيقي من أسلحة الدمار الشامل التي زعموا أنّ صدام يمتلكها، لكنّه كان مصمماً على خوض الحرب كحليف أميركا الأول، ولو اعتقدت حكومته بأنّ أي هجوم لا سبب له قد يُعتبر غير شرعي وفق القوانين الدوليّة. وورد في نسخة من تقرير مؤرخ في 22 آذار مارس 2002 حصلت عليها وكالة"اسوشييتد برس"الخميس الماضي، وموجّهة الى وزير الخارجيّة البريطاني جاك سترو:"الحقيقة أنّ ما تغيّر ليس سرعة صدام في"تطوير"برامج اسلحة الدمار الشامل، بل تساهلنا معهم بعد أحداث 11 أيلول. ولكن، حتى أفضل مسح لبرامج اسلحة الدمار الشامل في العراق لن يظهر تطوّراً كبيراً في السنوات الأخيرة في الموضوع النووي أو الصواريخ أو الأسلحة الكيماوية أو البيولوجيّة. فالبرامج تدعو للقلق، لكنها لم تشهد تطوّراً على حدّ علمنا". ويتضمّن أحد التقارير السريّة لعام 2002 تفاصيل حول الحوار الذي دار خلال العشاء مع رايس، ويُظهر القلق البريطاني من اجتياح العراق والخطة الضعيفة التي وضعتها إدارة بوش لما بعد الحرب، وأثارت انتقادات بأنها تسمح ل"التمرّد"في العراق بالازدياد. وحصل المراسل البريطاني مايكل سميث أولاً على ثمانية تقارير وضعت كلّها في إطار"سريّ"و"خاص"، ونشرت حولها معلومات في صحيفتي"دايلي تلغراف"و"صنداي تايمز". وقال سميث لوكالة"اسوشييتد برس"إنّه يحمي هويّة المصدر الذي أعطاه المستندات، من خلال سحب نسخ عنها على أوراق عاديّة وإتلاف الأصليّة. وحصلت الوكالة على نسخ عن ستة تقارير التقريران الباقيان تمّ تداولهما في شكل واسع. وأعلن مسؤول بريطاني رفيع المستوى بعدما اطلع على التقارير أنّها تبدو حقيقيّة، وفضّل عدم كشف اسمه بسبب طبيعة المواد. وتتألف التقارير الثمانية من 36 صفحة، بالإضافة الى عشر أوثماني صفحات لدراسات تتعلّق بالخيارات العسكريّة والقانونيّة في العراق وهي تلخّص مذكّرات مسؤولين بريطانيين ومحاضر لقاء خاص بين بلير وكبار مساعديه. ويقول توبي دودج، وهو خبير في الشؤون العراقيّة واستاذ في كليّة كوين ماري في جامعة لندن، انّ المستندات تظهر ما وجدته التحقيقات بعد الغزو. ويضيف:"تظهر التقارير معلومات التحقيقات الرسميّة في بريطانيا وأنّ قضيّة اسلحة الدمار الشامل وضعت على أساس هذه المعلومات الاستخباراتيّة، واستعملت لتضخيم المعطيات وجعلها كاذبة. وبالذهاب الى الحرب مع بوش، أراد بلير الدفاع عن العلاقة المميزة التي تربط البلدين، وهذا ما فعله قادة بريطانيون آخرون، لكنّه علم أنّه كان يواجه تحدّياً كبيراً في بلده، وان شرعيّة الحرب كانت تثير تساؤلات كثيرة ولم يكن هناك شكّ في عدم شعبيّتها". ويتابع دودج أنّ المذكرات أظهرت أنّ بلير كان يدرك عدم الاستقرار الذي سيحصل بعد الحرب في العراق، ضمن مجتمع مختلط من السنّة والشيعة والأكراد، ويشير الى أن المستندات البريطانيّة تؤكّد أيضاً أنّه بعد 11 أيلول، تمّ تصويب المسدّس الى خيار اجتياح العراق. وكانت المعلومات تشير الى عام 2002 كموعد لهذا الغزو. في 29 كانون الثاني يناير من تلك السنة، أطلق بوش تسمية"محور الشرّ"على العراق وايران وكوريا الشماليّة، وبدأت الصحف الأميركيّة تشير الى احتمال شنّ هجوم للتحالف على العراق. وفي 16 تشرين الأول أكتوبر اقترع الكونغرس للموافقة على السماح لبوش بخوض الحرب. وفي 5 شباط فبراير 2003، قدّم وزير الخارجيّة الأميركي آنذاك كولن باول"معلومات"إدارة بوش عن أسلحة العراق أمام مجلس الأمن، وفي ليل 19 -20 آذار مارس بدأ الاجتياح بتحالف قادته الولاياتالمتحدة. وبدأت الانتقادات تطاول بوش وبلير في بلديهما في شأن اسلحة الدمار الشامل التي تبيّن أنّها غير موجودة، لكنّهما انتُخبا مجدداً بعد دفاعهما عن الحرب من خلال"إزالة الديكتاتوريّة ونشر الديموقراطيّة في العراق". وتناسى كلّ من الطرفين المذكرات باعتبارها أخباراً قديمة. ظهرت تفاصيل عن التقارير الثمانية في الصحف أوائل الشهر الماضي، وفي تقرير 14 آذار 2002 أطلع دايفيد مانينغ مساعد مدير سياسة بلير الخارجيّة رئيس الوزراء على العشاء الذي جمعه برايس في واشنطن. وكتب مانينغ:"قضينا وقتاً طويلاً خلال العشاء نتحدّث عن العراق، واضح أنّ بوش ممتنّ لدعمك إياه، وأشار الى إنّك تصبح قويّاً كالمدفعيّة. فقلت له أنّك لن تتراجع عن دعمك لتغيير النظام العراقي، لكن عليك إدارة رأي الصحافة والبرلمان والرأي العام الذي كان مختلفاً عن رأي الولاياتالمتحدة. كما أنّك لن تتراجع عن اصرارك على أننا لو تابعنا تغيير النظام، يجب أن يحصل ذلك بتأنّ ويحصد النتائج الصحيحة، فالفشل لم يكن خياراً مطروحاً". ويشير مانينغ الى رايس قائلاً:"كانت حماسة كوندي لتغيير النظام لا توصف". وكان مقرراً أن يلتقي بلير بوش في مزرعته في كراوفورد - تكساس في 8 نيسان ابريل، وقال مانينغ لرئيسه:"لا شكّ في أننا بحاجة الى ابقاء النظرة المستقبليّة، لكن محادثاتي مع كوندي أقنعتني بأنّ بوش يريد سماع رأيك حول العراق قبل اتخاذ أي قرار، كما يريد دعمك، وهو لا يزال يتألم بشدة للتعليقات الصادرة عن القادة الاوروبيين في شأن سياسته في العراق". وتشير رسالة قصيرة مؤرخة في 21 تموز يوليو وزّعت على المسؤولين، تحضيراً للاجتماع مع بلير في 23 تموز الى أنّه على المسؤولين"ضمان أنّ فوائد التحرّك تفوق المجازفات ... علينا التأكد من أنّ نتائج العمل العسكري ستتلاءم وأهدافنا، وأن احتلال العراق بعد الحرب سيشكّل تطبيقاً مطوّلاً ومكلفاً لاعادة بناء الدولة. وكما أوضحنا، بقيت الخطط العسكريّة الاميركية غامضة". وفي مذكرة 22 آذار المرسلة من ريكتس الى سترو، أشار الأول الى السبيل للفوز بالدعم الشعبي والبرلماني في بريطانيا للحرب، وقال:"علينا الاقتناع بأنّ التهديد خطير جداً وأنّها قضيّة تستحقّ أن نرسل قواتنا للموت من أجلها، وبأنّه مختلف كليّاً عن التهديد الذي تطرحه دول أخرى قريبة من إنجاز قدرات نووية". وواجهت حكومة بلير انتقادات بسبب نشرها تقريراً استخباراتيّاً حول العراق قبل الحرب، حذّر من أن صدام قد يطلق أسلحة كيماوية أو بيولوجيّة بإنذار لا يتعدّى 45 دقيقة. وفي 25 آذار كتب سترو مذكرة الى بلير جاء فيها أنّه قد يجد صعوبة في إقناع حزب العمال الحاكم بشرعيّة اجتياح العراق تحت غطاء القوانين الدوليّة. وأضاف سترو:"لو لم تحصل أحداث 11 أيلول، لكنّا شككنا الآن باجتياح أميركي للعراق، كما أنّه لم تكن لتتوفر المعطيات التي تربط العراق بأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة". وتساءل سترو عن الاستقرار في العراق بعد صدام، وقال:"علينا ايضاً أن نطرح السؤال الأهمّ ألا وهو ماذا ستنجز هذه المهمّة؟ في الجواب على هذا السؤال تبدو فجوة كبيرة".