"هل توافق على مشروع القانون الذي يجيز اقرار المعاهدة المؤدية الى دستور لأوروبا؟"انه السؤال الذي عمم على الناخبين الفرنسيين ليتسنى لهم التمعن به والاجابة عليه بنعم ام لا خلال الاستفتاء الذي دعيوا للمشاركة بعد غد الاحد. وطغت على صياغة هذا السؤال بساطة فائقة ومتعمدة بحيث يكون مضمونه بمتناول الجميع وبحيث يسهل على الناخب حسم موقفه سلباً ام ايجاباً من معاهدة تهدف الى ترتيب البيت الاوروبي ونقله من حال التكتل الاقتصادي بين مجموعة ارتفع عدد اعضائها الى 25 دولة، الى حال التكتل الاقتصادي والسياسي المتماسك. وعلى رغم ان الاستحقاق اوروبي بحت ولا صلة له على الاطلاق بالسياسات الداخلية المعتمدة فإنه اغرق فرنسا في بلبلة وانقسام بدت الطبقة السياسية عاجزة عن لملمتها. فاستغل الفرنسيون الاستفتاء حول المعاهدة الدستورية الاوروبية لتفجير كل مواضيع النقمة والاستياء التي يعانون منها، فانكشف مجدداً مدى التفاوت القائم بين همومهم وهموم سياسييهم. والصورة التي تتولد من خلال متابعة الحملة من اجل الاستفتاء توحي بأن اهتمام الفرنسيين منصب على الانهيار الحاصل في سقف بيتهم فيما سياسيوهم منشغلون بترتيب حديقة هذا البيت. فخاض السياسيون الحملة مركزين على ضرورة عدم احباط اوروبا وعرقلة مسيرتها نحو التطور، وأجمعت غالبية من الفرنسيين باتت تقارب ما نسبته 54 في المئة وفقاً للاستطلاعات، عن مسايرتهم في هذا التوجه وأصرت على تحويل الاستغناء الاوروبي الى مناسبة لمحاسبة الطبقة السياسية. وخرجت الحملة من اجل الاستفتاء عن اطار التوزع التقليدي للمواقف بين اليمين واليسار، وأشاعت على كلتا الجبهتين اصواتاً مؤيدة وأصواتاً معارضة للمعاهدة الدستورية، وأدت الى تقارب غير مألوف في المواقف بين اطراف فرق بينهم التنافس على الدوام. ويتزعم الجبهة المؤيدة للدستور الاوروبي الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي وضع كامل ثقله في اطار حملة الاستفتاء التي افتتحها في شكل مبكر في 20 شباط فبراير الفائت عقب مصادقة اسبانيا على المعاهدة بقوله ان النعم الاسبانية"تفتح الطريق امام الدول الاخرى التي ستدخل المعاهدة في الاشهر المقبلة". ويؤيد شيراك الذي يتزعم حزب"الاتحاد من اجل الحركة الشعبية"، حزب"الاتحاد من اجل الديموقراطية الفرنسية"الذي يتزعمه فرانسوا بايدو، ويقف الى جانبهما الخصم الدائم وهو الحزب الاشتراكي الفرنسي بزعامة فرانسوا هولاند الذي استعان بالزعيم السابق للحزب ليونيل جوسبان، على رغم اعتكافه عن السياسة املاً باضفاء المزيد من الزخم على الحملة لمصلحة الدستور الاوروبي، وأيضاً حزب انصار البيئة"الخضر". وفي مواجهة النعم لأوروبا ودستورها وتطورها التي لم يكف هؤلاء وأعوانهم عن تكرارها على مسامع الفرنسيين، هناك اللا الصادرة عن مجموعة اخرى من الشخصيات المتقاربة ظرفياً في حين ان ليس ما يجمع بينها في الظروف الاعتيادية. فينضوي ضمن جبهة رافضي الدستور، الحزب الشيوعي الفرنسي بزعامة ماري جورج بوفيه، ورموز اليمين المتطرف وفي مقدمهم زعيم"الجبهة الوطنية الفرنسية"جان ماري لوبن وزعيم حزب"التجمع من اجل فرنسا"فيليب دوفيلييه، وأيضاً اليسار المتطرف ممثلاً بأرليت لاغييه واوليفييه بيزانسنو، ووزير الداخلية السابق جان بيار شوفنمان المنشق منذ سنوات عن الحزب الاشتراكي. ويقف ضمن جبهة الرفض هذه سياسيون رافضون لموقف احزابهم، وأبرزهم رئيس الوزراء الاشتراكي السابق لوران فابيوس والنائب الاشتراكي جان لوك ميلانشون ورئيس البرلمان الاشتراكي السابق هنري ايمانويلي والنائب عن حزب"الاتحاد من اجل الحركة الشعبية"نيكولا دوبون - اينيان. وانطلاقاً من ادراكهم لأهمية موقع فرنسا التقليدي في اطار مسيرة الوحدة الاوروبية، حرص مؤيدو الدستور من يمينيين ويساريين، على اقناع الناخبين بعدم الخلط بين مشكلاتهم الداخلية والموضوع الاوروبي، وكرسوا جهداً لا يستهان به لتوضيح النتائج التي تترتب على رفض فرنسا للمعاهدة الدستورية وتلك التي تترتب على اقرارها. وأبدى هؤلاء تفهمهم للمصاعب المعيشية التي يواجهها الشعب الفرنسي ولخوفه على المستقبل في عالم مفتوح على المنافسة والتجارة الحرة، لكنهم اكدوا في الوقت نفسه ان رفض الفرنسيين للمعاهدة الدستورية لن يحل هذه المصاعب وان لا بد من ارجاء محاسبة المسؤولين عنها الى استحقاقات اخرى منها الاستحقاق الرئاسي المقبل سنة 2007. وغلب على حجج ومواقف الداعين لتأييد الدستور منطقية وبراغماتية من النوع التالي:"لا يحق لنا نحن الفرنسيين ان نقول لا لأوروبا"، و"اوروبا القوية تعني التقدم للجميع"، واقرار الدستور يعني"فرنسا حديثة في اوروبا قوية ومتضامنة"و"اوروبا المتماسكة حصانة في وجه العولمة الهوجاء"، و"اوروبا تعني اسرة موحدة من اجل السلام ورفاهية الشعوب". واختارت رموز الحملة المعارضة، اللعب على مخاوف الفرنسيين وتأجيجها، فقالوا مثلاً ان الدستور الجديد يعني"المزيد من التقليص للسيادة لمصلحة التوجهات الاوروبية"، و"المعاهدة الدستورية تكريس لا عودة عنه لأوروبا الليبرالية على حساب المكاسب الاجتماعية"، و"اقرار الدستور يعني فتح الباب امام منافسة غير عادلة مع عمالة الاعضاء الجدد في الاتحاد"و"الدستور الجديد يعني التمهيد لانضمام تركيا الى اوروبا التي ستصبح على تماس مع ثلاث بؤر للارهاب هي سورية وتركيا وايران". وبغض النظر عن مدى الديماغوجية التي اتسمت بها حملة المعارضين من خلال تعمدهم استغلال مواضيع ليس بالضرورة على صلة بجوهر الاستفتاء، فإن المواقف التي صدرت عنهم اكثر قدرة على تحريك مشاعر الناخبين. ولا بد هنا من الاشارة الى انه باستثناء لوبن ودوفيلييه وشوفنمان الذين كانوا دائماً من مواقعهم المختلفة من السياديين المناهضين لأوروبا الموحدة، فإن الرافضين للدستور يتحركون من منطلق تعزيز مواقعهم السياسية المهمشة الى حد ما. وبالتالي، في حال رفض الفرنسيون المعاهدة خلال الاستفتاء، فإن رفضهم لا يعبر عن تأييدهم الجارف لرموز الرفض بقدر ما يهدف للتعبير عن القطيعة القائمة بينهم وبين الفريق الحاكم وبديله التقليدي المتمثل بالحزب الاشتراكي. واذا صدقت الاستطلاعات ولم يطرأ تحول جوهري لمصلحة الدستور في موقف المترددين الذي تقدر نسبتهم ب22 في المئة، فإن فرنسا ستجد نفسها في وضع مشابه للوضع الذي شهدته في 21 ايار سنة 2002. ففي ذاك اليوم، اكتشف السياسيون بهول مدى ابتعاد الناخبين عنهم، عبر اقتراع عبثي في الدورة الاولى لانتخابات الرئاسة، اخرجت المرشح الاشتراكي في حينه ليونيل جوسبان من السباق، وفرضت على شيراك التنافس في الدورة الثانية مع لوبن. فرفض الدستور سيدخل الطبقة السياسية عموماً في نفق يصعب هذه المرة الخروج منه بوعود فضفاضة ويفرض عليها مراجعة معمقة لحساباتها وتوجهاتها وعلاقتها بقواعدها. مثل هذا الرفض سينعكس ايضاً على الموقع القيادي الذي تحتله فرنسا الى جانب المانيا على المستوى الاوروبي وسيضطرها الى خفض صوتها على الساحة الاوروبية وربما الدولية. وهنا سيكتشف الفرنسيون الذين توهموا بأن بامكانهم القول لا للمعاهدة الدستورية املاً بمعاودة المفاوضات في شأنها وادخال تعديلات عليها، احتمال غير قائم على رغم ما اوصى به البعض وان عليهم تحمل تبعات تعطيل مسيرة لا تعنيهم وحدهم بل تعني عشرات الملايين من الاوروبيين سواهم. والآثار المترتبة على مثل هذا الموقف لن تقتصر على فرنسا وحدها بل تشمل مجمل دول الاتحاد التي ستجد نفسها مضطرة للاكتفاء بمعاهدة نيس لسنة ألفين، لتنظيم العلاقات وتسيير الامور في ما بينها، علماً بأن هذه المعاهدة تتسم بثغرات كان من الصعب تجاوزها عندما كان الاتحاد الاوروبي مكوناً من 15 دولة، ومن المتعذر ان تشكل قاعدة مرنة للتعامل بين الاعضاء الحاليين وعددهم 25 دولة. فالمعاهدة المطروحة على الاستفتاء، تسهل آلية اتخاذ القرارات الاوروبية، وتسهل التعاون بين اعضائها وتستحدث منصب رئيس للمجلس الاوروبي الذي ينتخب من قبل زعماء الدول الاعضاء لمدة سنتين مما يضفي على عمل اوروبا المزيد من الاستقرار كونه يلغي التناوب الدوري على رئاستها كل ستة اشهر. وتعزز المعاهدة صلاحيات البرلمان الاوروبي، كما انها تؤمن لأوروبا الموحدة حضوراً سياسياً على الساحة الدولية باستحداث منصب وزير للخارجية الاوروبية يتولى الحديث باسمها في المواضيع السياسية الخارجية وأيضاً الامنية.