أبرز ما في انتخابات الرئاسة التي تشهد فرنسا دورتها الأولى يوم الأحد المقبل، صعوبتها. فهي صعبة على المرشحين، وتحديداً الرئيس الفرنسي جاك شيراك، مرشح اليمين الديغولي، ورئيس الحكومة ليونيل جوسبان مرشح الحزب الاشتراكي، نظراً للتقارب المستمر في نسب التأييد التي يحظى بها كل منهما. وهي صعبة ايضاً على الناخبين نظراً للتقارب الشديد في مضمون برنامجي شيراك وجوسبان، ما يجعل من الصعب تفضيل احدهما على الآخر، بناء لقيم اليمين او اليسار التي يتضمنها كل منهما. بخلاف الانتخابات التي شهدتها فرنسا منذ اقرار الاقتراع الشعبي المباشر لاختيار رئيس الجمهورية سنة 1965، تبدو الانتخابات الحالية شبه خالية من اي تجاذب او تنافس بين مشروعين وبرنامجين لواقع فرنسا ومستقبل تطورها. والمنافسة تدور بين شخصيتين متفقتين على مجموعة واسعة من المسلمات، وإنما لكل منهما اسلوبها الخاص في صوغها والدفاع عنها. فشيراك لم يصغ برنامجه بطريقة تجعله يجسد ايديولوجيا اليمين التقليدية، كما حرص جوسبان على تنقية برنامجه من اي طرح يساري قاطع، ربما نتيجة التحول التدريجي الذي طرأ على صعيد اليمين واليسار الفرنسيين. فالمتغيرات الدولية حملت اليسار الفرنسي عموماً والحزب الاشتراكي تحديداً، على التخلي عن مبدأ تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاقتناع بفوائد اقتصاد السوق، فيما تخلى اليمين من جانبه عن النزعات الليبرالية المفرطة. ونتيجة لهذه التحولات يقف شيراك وجوسبان اليوم على ارضية واحدة هي الوسط، وينطلقان منها لطرح الحلول التي يعتبرانها مناسبة لمعالجة هواجس الفرنسيين ومشكلاتهم. يتصدر التدهور الأمني الذي يعم فرنسا منذ مدة لائحة الهواجس المسيطرة على الفرنسيين، ويقترح شيراك في هذا الإطار معالجته عبر انشاء "مجلس امن داخلي" يترأسه رئيس الدولة ويشرف عليه وزير الداخلية، ويتعهد بتعزيز الأجهزة الأمنية والقضائية وباعتماد برنامج بناء مكثف للقضاء على الأحياء الفقيرة التي تشكل مصدراً لهذا التدهور. ويقر جوسبان ان السبب الأساسي وراء العنف المتفشي في المجتمع الفرنسي مرده الى الهوة القائمة بين الفئات الاجتماعية والتي يتوجب معالجتها، وإرفاق هذا العلاج "بعقد امني وطني" مدته خمس سنوات هدفه تعزيز اجهزة القضاء والشرطة لتمكينها من اداء عملها بفاعلية اكبر. اما الهاجس الثاني، بالنسبة الى الفرنسيين، فهو الضرائب المرتفعة المفروضة على مداخيلهم، المباشرة وغير المباشرة، فيتعهد شيراك بخفض ضريبة الدخل بنسبة 33 في المئة على مدى خمس سنوات وبخفض الضرائب على السكن بنسبة 5 في المئة وبخفض ضريبة القيمة المضافة على عدد من السلع وبتعديل الضرائب على المؤسسات حتى تتجانس مع النسب المعتمدة في دول الاتحاد الأوروبي. ويعد جوسبان من جانبه بمواصلة التخفيضات الضريبية، من اجل تشجيع سوق العمل وتعزيز العدالة الاجتماعية، وبتقليص ضريبة السكن بنسبة 50 في المئة، وبالاستمرار بتقديم المكافأة المالية للعاملين من ذوي الدخل المخفوض، والتي استحدثها وزير ماليته لوران فابيوس. اما بالنسبة الى البطالة، فيطرح شيراك سلسلة من التسهيلات المالية والضريبية لتشجيع دخول الشباب الى سوق العمل، ولتشجيع انشاء المؤسسات الإنتاجية بمعدل مليون مؤسسة جديدة في غضون خمس سنوات، وبالإبقاء على تخفيض عدد ساعات العمل الأسبوعية الى 35 ساعة، الذي اعتمدته حكومة جوسبان، مع إضفاء بعض المرونة عليها. ويذكر جوسبان من جانبه عزمه على خفض البطالة بإيجاد 900 ألف فرصة عمل جديدة على مدى خمس سنوات وتعزيز فرص العمل امام الشباب، وتسهيل امكان العودة الى سوق العمل بالنسبة الى العاطلين الذين تفوق اعمارهم الخمسين سنة. ويجمع المرشحان على ضرورة اصلاح نظم تمويل تقاعد المسنين، وعلى ضرورة تنظيم مشاورات واسعة النطاق في هذا الشأن في فترة ما بعد الانتخابات، كما انهما يتفقان على رفض تحويل نظم التمويل التي تتولاها الدولة حالياً، الى مؤسسات خاصة على الطريقة الأميركية. وعلى غرار شيراك يخصص جوسبان حيزاً من برنامجه لقضايا البيئة، فيدعو الأول الى إعداد ميثاق للبيئة وإدراج المواضيع البيئية في البرامج التعليمية والدفاع عنها في اطار المفاوضات الدولية وسياسات التنمية المستدامة. ويقدم جوسبان مجموعة اجراءات على الصعيد الوطني والأوروبي لمكافحة مسببات التلوث البيئي، ونسب آمنة في ما يخص النفايات النووية والكيميائية. وكذلك الأمر على صعيد اوروبا حيث يقترح كل من شيراك وجوسبان تعزيز الجهود لتحويل اوروبا الى فيديرالية لدول سيدة وتزويدها دستوراً موحداً. وعندما اراد جوسبان مسايرة منتقديه من داخل حزبه بسبب غياب النفس اليساري الواضح عن برنامجه فإن اخص ما ابتكره هو التعهد بالقضاء على التشرد ومساعدة الشباب على الاستقلال مادياً عبر برنامج تقديمات خاص بهم. والواضح من كلا البرنامجين انه سواء كان الرئيس المؤمل لفرنسا شيراك اليميني ام جوسبان اليساري، فإن حياة الفرنسيين لن تشهد اي تحولات او انقلابات جذرية، وأن التغيير المرتقب لن يتعدى بعض التعديلات لهذا الجانب او ذاك من الشؤون الحياتية والاجتماعية. فالحملة الانتخابية خالية من أي افكار قوية كفيلة بإنشاء ديناميكية وتجاذب فعلي بين الناخبين الفرنسيين، والبديهي اذاً ألا تثير اية حماسة لديهم. والنتيجة ان نسبة 60 في المئة من الفرنسيين لم تعد تميز بين برنامج اليمين وبرنامج اليسار ما حوّل المعركة الى منافسة بين شخصيتين وأسلوبين لكل منهما خصوصياته، وأصبح الاهتمام في اطارها مركزاً على الثغرات والسلبيات التي تحكم اداء الآخر، وعلى إبراز آفاته الشخصية. وهذا ما حاول جوسبان استغلاله في بداية حملته إذ شن وأوساطه هجوماً شخصياً على منافسه بالتركيز على المسائل التي تنال من صدقيته ونزاهته، وصولاً الى التهكم على سنه 69 عاماً، علماً ان الفارق في السن بينهما لا يتجاوز اربع سنوات. لكن هذا التوجه العدواني ارتد سلباً على رئيس الحكومة الذي بدأت شعبيته تتراجع لدى الرأي العام، فارتأى العدول عنه ليستقر ضمن اطار طرحه التكنوقراطي البارد والجاف. في المقابل بدت حملة شيراك رتيبة، لكنها سرعان ما تغيرت واكتسبت بعض الوهج، بعد ان كثّف الرئيس جولاته ولقاءاته الشعبية، وجعل من مكافحة التدهور الأمني الذي يلقي مسؤوليته على حكومة جوسبان المحور الأساسي لها. واعتمد لمخاطبة الفرنسيين كلاماً مدروساً بدقة ومحدداً بعناية من قبل المشرفين على حملته الذين يصرون على رفض اي مبالغات كلامية قد تؤثر سلباً على شعبيته. ولكن، بخلاف جوسبان، لدى شيراك جاذبية شخصية وحيوية تسمح له بالتعويض عن برودة المواقف المعدة سلفاً، في حين ان منافسه لم ينجح في الخروج من طبيعته الجامدة التي تحول دون اقدامه على اي تصرف عفوي. فشيراك قد يكون وفقاً للصورة الشائعة عنه كذاباً ومتقلباً، يقول الشيء وعكسه، وفي سيرته ما يبرر الشكوك في نزاهته ومصداقيته، لكن حضوره وكلامه وحيويته لا يمكن ان تقابل بلا مبالاة. اما جوسبان النزيه والمثابر والمنطقي والنقي الذي كذب مرة واحدة في حياته عندما اخفى انتماءه لأحد الأحزاب التروتسكية عن الفرنسيين، والذي تجرأ في احدى المقابلات على الإقرار بأحد عيوبه وهو ميله المفرط للحلوى، فإنه لا يثير على رغم جهوده سوى الشعور بالملل. وهنا ايضاً يتساوى المرشحان مجدداً، بحكم كونهما معروفين جيداً لدى الفرنسيين، شيراك منذ حوالى 30 سنة، وجوسبان منذ حوالى 20 سنة، وقد استنفدا بالتالي قدرتهما على مفاجأة الرأي العام وإثارة التعبئة في صفوفه. وهذا ما عكسته استطلاعات الرأي الأخيرة. الانتخابات الفرنسية تظهر تراجعاً في شعبية جوسبان التي وصلت الى 19 في المئة، وتقدماً في شعبية شيراك التي ارتفعت الى 22 في المئة، فيما توزعت النسبة الباقية على المرشحين الثانويين. فالميزة الأخرى التي تطغى على الحملة الانتخابية تتمثل بالارتفاع القياسي لعدد المرشحين الثانويين الذي بلغ 14 مرشحاً، رغبوا جميعاً في خوض السباق الرئاسي أملاً بالافادة من ملل الفرنسيين واضفاء ما هو جديد على الحياة السياسية الفرنسية. هذا الرهان بدا في مستهل الحملة ناجماً بالنسبة لوزير الداخلية السابق المنشق عن الحزب الاشتراكي جان - بيار شوفنمان، الذي طرح نفسه مرشحاً بديلاً من شيراك وجوسبان عبر شعار "لا لدولة حزب التجمع ولا لدولة الحزب الاشتراكي". ولقي طرح شوفنمان رواجاً في الفترة التي سبقت دخول شيراك وجوسبان المعترك الرئاسي، وارتفعت نسبة مؤيديه الى حوالى 12 في المئة وأكدت وجود رغبة واضحة لدى الفرنسيين في تأييد التجديد والاختلاف الذي حاول التعبير عنه. لكن الحرص الذي ابداه شوفنمان على تجميع اكبر قدر من المستائين من القوى الرئيسة من حوله، من اليمين باختلاف اتجاهاته ومن اليسار باختلاف اتجاهاته، اغرق حملته في العموميات وعدم الوضوح وقلص من قدرته على الاقناع. فتراجعت شعبيته الى حوالى 8 في المئة، ما حد من امله في ان يخرج من الدورة الانتخابية الاولى في موقع الرجل الثالث بعد المرشحين الرئىسيين. وجاءت المفاجأة على هذا الصعيد عبر انتقال التنافس على موقع الرجل الثالث بين مرشحة حزب "النضال العمالي"، اي اقصى اليسار، ارليت لاغييه ومرشح "الجبهة الوطنية الفرنسية" اي اليمين المتطرف، جان ماري لوبن. فلاغييه التي تخوض السباق الرئاسي للمرة الخامسة لم يسبق ان تجاوزت نسبة مؤيديها حوالى خمسة في المئة، في حين ان التوقعات الحالية تشير الى انها ستحصل على ما يفوق نسبة عشرة في المئة من الاصوات. اما لوبن، الذي كان يعتبر مهمشاً وشبه منته، خصوصاً بعد الانشقاق الذي قاده معاونه السابق برونو ميغريه داخل الجبهة، فإنه استعاد حيويته ومؤيديه الذين قدرت نسبتهم بحوالى 12 في المئة، ما حمله على الافراط في المزايدة والتعهد لناخبيه بالبقاء في السباق الرئاسي حتى الدورة الثانية من الانتخابات في 5 أيار المقبل. ويركز لوبن نقمته في شكل اساسي على شيراك وحزبه، بعد ان كان اتهمه بالتآمر عليه لمنعه من تجميع التواقيع اللازمة لترشيح نفسه للرئاسة، ويتوعد باخراجه من السباق حيث تنحصر المنافسة في الدورة الثانية بينه وبين جوسبان. ويدرك لوبن ان لا خطر عليه من جراء ترشيح ميغريه للرئاسة اذ ان شعبيته تصل بالكاد الى 3 في المئة. وتركز لاغييه عموماً نقمتها على اليسار عموماً وعلى الحزب الشيوعي ومرشحه للرئاسة روبير هو تحديداً، وتعتبر نفسها منذ الآن في موقع المنتصر نظراً لنسبة التأييد الهزيلة التي يحظى بها وتقتصر على حوالى 5 في المئة. في غضون ذلك، ادى تلاقي المرشحين الرئىسيين على ارض الوسط، الى تعطيل حملة زعيم "حزب الاتحاد من اجل الديموقراطية" فرانسوا بايدو الذي يفترض ان يمثل تيار الوسط، الذي لم يتمكن بعد جهد جهيد من تجاوز نسبة 4 في المئة من التأييد. وأدى توافقهما على ايلاء قضايا البيئة حيزاً مهماً في برنامجيهما الانتخابيين، الى سحب البساط من تحت اقدام مرشح حزب انصار البيئة "الخضر"، الذي تراوح شعبيته عند 5،6 في المئة. وتعثرت حملة مرشح حزب "الديموقراطية الليبرالية" آلان مادلين، ولم تتجاوز نسبة مؤيديه 5،3 في المئة لأن طروحاته الليبرالية المفرطة واعجابه المطلق بالنموذج الاقتصادي والسياسي الاميركي، لا يتطابق مع مزاج الفرنسيين. اما المرشحون الباقون فتراوح نسب التأييد العائدة لهم بين 5،. في المئة و2 في المئة في احسن الحالات، وهم يمضون في السباق، معتبرين الدورة الاولى من الانتخابات بمثابة اختبار شعبي لأدائهم ومواقفهم. وفي انتظار ما ستسفر عنه هذه الدورة من نتائج وربما مفاجآت، يسعى كل من شيراك وجوسبان لتحقيق تقدم حاسم على الآخر عبر الدورة الاولى، حيث يجتاز بنوع من الارتياح المرحلة الفاصلة بين الدورتين. لكن التوقعات المختلفة تشير الى عكس ذلك تماماً، وتظهر ان نسبة كبيرة من الناخبين ستقدم في الدورة الانتخابية الاولى على اقتراع احتجاجي، يفسر الارتفاع في شعبية لاغييه ولوبن والى حد ما شوفنمان، في حين ان نسبة قياسية منهم ستمتنع عن التصويت او تقترع بورقة بيضاء. وهذا ما يدعو للتكهن باتجاه الحملة نحو قدر من الشراسة بعد الدورة الاولى، نتيجة الجهد الذي سيبذله شيراك وجوسبان في مسعى لكسب اصوات المحتجين والممتنعين والمترددين.