لم تكن الجبهة الشعبية - القيادة العامة - بزعامة احمد جبريل في السابق رقماً صعباً في معادلة العلاقات اللبنانية - الفلسطينية كما تحاول ان تكون اليوم من خلال انفلاشها العسكري في مواقع عدة خارج المخيمات الفلسطينية وتحديداً في الناعمة القريبة من مطار بيروت الدولي وفي بلدتي قوسايا والسلطان يعقوب في البقاعين الأوسط والغربي. ويأتي الانفلاش العسكري لپ"القيادة العامة"، في اعقاب انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان ابريل الماضي للدخول على خط التوتر السياسي والإعلامي بين بيروتودمشق الذي يتصاعد مواكباً مجريات التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومتزامناً مع التقرير الذي اعده ممثل الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن المكلف بمتابعة تنفيذ القرار 1559 لجهة نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. وبطبيعة الحال فإن التمدد العسكري لپ"القيادة العامة"وپ"فتح - الانتفاضة"في عمق الأراضي اللبنانية لم يكن معزولاً عن التوترات المتنقلة من حي التعمير المجاور لمخيم عين الحلوة في صيدا الى منطقة باب التبانة في طرابلس مروراً بحال الاحتقان السائدة على طول الحدود اللبنانية - السورية وكان آخرها تعرض منطقة الدبوسية الحدودية في منطقة الشمال الى اطلاق نار من داخل الأراضي السورية من دون ان تبادر السلطات اللبنانية الى اصدار بيان توضيحي او الى تسليط الأضواء على الحادث رغبة منها في فسح المجال للجهود العربية الهادفة الى التهدئة. وطرحت الاشتباكات التي شهدها حي التعمير علامة استفهام حول القوى المشاركة فيه وبالتالي الأغراض السياسية لها، خصوصاً أنها دارت بين تنظيمات"منفوخة"بالمعنى الفعلي للحضورين السياسي والعسكري لها في عين الحلوة وقد اعتاد الرأي العام على تصنيفها في خانة القوى التي تعمل من حين الى آخر على توتير الأجواء بين الفلسطينيين والحكومة اللبنانية لدى أي استحقاق يطرح على الساحة المحلية. وفي نظرة على خريطة القوى التي شاركت في شكل او في آخر في اشتباكات حي التعمير وفي مقدمها"جند الشام"وپ"عصبة الأنصار"وپ"انصار الله"بقيادة جمال سليمان المتواري عن الأنظار وتردد اخيراً انه لجأ الى مخيم برج البراجنة، يكتشف فوراً ان هذه القوى ليست خارجة عن سلطة منظمة التحرير فحسب وإنما هناك من يدفعها باتجاه الإطاحة بالحوار المتقطع الذي بدأ بين الفصائل الفلسطينية والحكومة من خلال رئيسها فؤاد السنيورة. وفي هذا السياق علمت"الحياة"ان معظم الذين شاركوا في اشتباكات حي التعمير هم على لائحة المطلوبين للقضاء اللبناني سواء أكانوا في"عصبة الأنصار"أم"جند الشام"أم المجموعة اللبنانية المتهمة بافتعال الحوادث في جرود الضنية ضد الجيش اللبناني. ويتقاطع هؤلاء المطلوبون مع آخرين في طرابلس كانوا استغلوا قيام مجموعة رمزية من التيارات الأصولية في الشمال بمحاولة لاسترداد احد الجوامع الكائن في حي باب التبانة من جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية الأحباش بعدما كانت وضعت يدها عليه بدعم مباشر من الاستخبارات السورية. وبحسب المعلومات فإن مجموعة من المطلوبين للمحاكمة امام القضاء اللبناني استغلوا تحرك المجموعة الإسلامية المتشددة، وحاولوا افتعال اشتباك لكن قوى الأمن الداخلي بالتعاون مع الجيش اللبناني نجحت في تفويت الفرصة عليهم ومنعتهم من الاقتراب من باب التبانة تاركة امر معالجة استرداد الجامع للاتصالات السياسية التي باشرت فيها دار الفتوى في بيروت. وهكذا، فإن كل هذه الحوادث لم تكن بريئة بل مفتعلة لتعريض الاستقرار الى انتكاسة وإقحام العلاقات اللبنانية - الفلسطينية في إشكال امني - سياسي يتناغم مع تمادي"القيادة العامة"وپ"فتح - الانتفاضة"في إصرارهما على الاحتفاظ بقواعد لهما خارج المخيمات. التصعيد والتحقيق ولم تستبعد مصادر سياسية ان يكون للتصعيد الإعلامي والسياسي الفلسطيني المباغت علاقة بتصعيد آخر كانت لجأت إليه دمشق وبلغ ذروته عشية استعداد المحقق الدولي ديتليف ميليس لرفع تقريره الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان ليل الخميس - الجمعة الماضي. ووضعت السلطة اللبنانية خطة استيعاب التصعيد الفلسطيني في ضوء ضبط القوى الأمنية اللبنانية مجموعات فلسطينية تنتمي الى"القيادة العامة"وپ"فتح الانتفاضة"حاولت التسلل من داخل سورية الى الأراضي اللبنانية. ولقيت الحكومة تأييداً من الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير ومن حركتي المقاومة الإسلامية حماس وپ"الجهاد الإسلامي"مع انهما شاركتا في الحوار مع السنيورة في وفد مشترك مع"القيادة العامة"وپ"فتح - الانتفاضة". لكن"حماس"وپ"الجهاد"ابقيتا على عدم تضامنهما مع"القيادة العامة"وپ"فتح - الانتفاضة"قيد الكتمان ولم تظهرا موقفهما الى العلن مراعاة منهما لحليفيهما في قوى التحالف الفلسطينية. كما ان الحكومة لم تعرف أسباب لجوء"القيادة العامة"وپ"فتح - الانتفاضة"الى التصعيد السياسي والإعلامي، سوى ما تسرب من معطيات بأنهما مضطرتان الى رفع صوتهما عالياً بناء لتنسيق مباشر مع دمشق التي لم تخف - بحسب اوساطها - عدم ارتياحها الى موقف الغالبية في مجلس الوزراء من تقرير ميليس. لذلك فإن استحضار ملف التمدد العسكري الفلسطيني في عمق الأراضي اللبنانية لم يكن بالصدفة وإنما جاء من ضمن مخطط لإرباك الساحة المحلية والتسبب بمزيد من الإزعاج السياسي لها بسبب موقفها من النظام السوري. وتؤكد مصادر رسمية لبنانية لپ"الحياة"ان لا مبرر لهذا الانفلاش الفلسطيني وأن ذرائع"القيادة العامة"وپ"فتح الانتفاضة"، واهية لا سيما بالنسبة الى توفير الحماية للمخيمات ازاء أي عدوان اسرائيلي من جهة والضغط لتنفيذ القرار 194 المتعلق بحق عودة الفلسطينيين الى ديارهم. وتضيف ان جبريل يتحدث في اتصالاته مع المسؤولين اللبنانيين والسياسيين بلغة هادئة تنم عن رغبته في الحوار خلافاً للغة التي يستخدمها في لقاءاته المتلفزة التي يغلب عليها العنف والتصعيد وكأنه يتبع مثل هذا الأسلوب عن قصد بغية إرضاء النظام السوري. وترى في تصعيد جبريل رسالة سورية الى لبنان تريد ان تقول من خلالها انها لا تزال تمسك ببعض الأوراق السياسية وأنها قادرة على استخدامها في وجه الحملات التي تتعرض لها، على رغم ان دمشق تدرك قبل غيرها ان لا دور فاعل لجبريل في المعادلة السياسية الفلسطينية، نظراً الى ان حضوره كان ولا يزال متواضعاً، وبالتالي لن يكون في مقدوره الدخول في صدام مسلح مع الجيش. التمدد الحدودي وتضيف المصادر ان النظام السوري يريد ان يهز العصا في وجه لبنان مستخدماً الحال الانفلاشية لپ"القيادة العامة"، اضافة الى انه يعتقد بأن الاهتمام الإعلامي بجبريل والأنفاق والمغاور التي اقامها في الناعمة وقوسايا والمنطقة الممتدة ما بين لوسي والسلطان يعقوب من شأنه ان يصرف الانظار عن التفات اللبنانيين الى تقرير ميليس وبالتالي يدفع باتجاه تراجع الحكومة عن مواقفها المبدئية ازاء ما تتطلع إليه من تقرير ميليس وصولاً الى الطلب منها بأن تتصرف وكأن شيئاً لم يحدث. وتؤكد ان اصرار النظام السوري على استخدام ورقة جبريل في الدرجة الأولى ومن ثم"فتح الانتفاضة"التي اخذت تتمدد بصورة مفاجئة في المنطقة الحدودية ما بين بلدتي حلوى ودير العشائر في البقاع الغربي. لن يحقق له ما يريده على رغم ان"القيادة العامة"اخذت تطور موقفها وتقدمه الى الإعلام على انه مناهض للقرار 1559. وتعتقد المصادر ذاتها بأنه لن يكون في مقدور جبريل ان يتصرف كضحية جراء التدابير الاحترازية التي لجأت إليها قيادة الجيش والتي لن تتراجع تحت ضغطه الإعلامي والسياسي مشترطة عليه، وبناء لتوجيهات السلطة الرسمية، التسليم بعدم جدوى التحصن في قواعد عسكرية في العمق اللبناني وبالتالي الرضوخ لدعوة الحكومة الى الحوار انطلاقاً من البحث الجدي في الحقوق المدنية للفلسطينيين وإعادة النظر في وظيفة السلاح الفلسطيني داخل المخيمات لجهة تنظيمه ومنع استخدامه لتوتير العلاقات اللبنانية - الفلسطينية ورفض الموافقة على أي وجود عسكري فلسطيني خارج المخيمات. وعلى هذا الأساس فإن المزاج الفلسطيني اللبناني لا يتقبل الدور الجديد المناط بجبريل نظراً الى ان ما يطرحه من شأنه ان يعيد البلد الى ما كان عليه قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، كما انه سيكتشف عاجلاً او آجلاً ان وجوده العسكري في العمق اللبناني لن يجعل منه الأقوى بين المرجعيات الفلسطينية المولجة بمتابعة ملف العلاقات الثنائية، اضافة الى انه يتحمل تأليب الرأي العام اللبناني ضد الفلسطينيين الذين يحق لهم المطالبة بالحد الأدنى من الحقوق المدنية التي يفترض بالحكومة ان تبادر الى تشريعها على قاعدة بدء حوار فعلي لا يقتصر كما في السابق على تبادل المذكرات او على المناسبات التي تستدعي استئنافه لتطويق إشكال طارئ هنا او هناك. لكن يبقى الموقف الملتبس للثنائية الشيعية المتمثلة بحركة"امل"وپ"حزب الله"اللذين لم يبادرا الى مصارحة جبريل بموقفهما السياسي بعيداً من المراعاة، لما سيكون له من دور ضاغط لإنهاء ما يسمى التمدد الفلسطيني خارج المخيمات. وكان لافتاً امس ان امين عام"حزب الله"السيد حسن نصر الله تجنب في خطابه لمناسبة يوم القدس العالمي اتخاذ موقف من السلاح الفلسطيني الموجود خارج المخيمات وحصر كلمته بالدعوة الى تنظيمه في المخيمات. واعتبرت اوساط سياسية ان عدم تطرق نصر الله الى السلاح الفلسطيني المنتشر في مناطق لبنانية عدة يعود الى وجود شعور لديه بأن أي موقف مؤيد له لا يتمتع بتأييد شعبي وبالتالي حصر اهتمامه في السلاح الفلسطيني في المخيمات في سياق انتقاده لتقرير لارسن حول القرار 1559. وفسرت هذه الأوساط موقف نصر الله بأنه ينطلق من ان عدم المساس في الوقت الحاضر بالسلاح الفلسطيني يشكل له خط الدفاع الأول عن سلاح المقاومة الإسلامية لأن التأخر في فتح ملف السلاح الفلسطيني من شأنه ان يؤخر الحديث عن نزع سلاح المقاومة الذي يفترض ان يعالج في اطار الحوار الداخلي اللبناني. لذلك فإن الإبقاء على السلاح الفلسطيني في المخيمات سيحول حتماً دون تجاوزه الى سلاح المقاومة علماً ان"حزب الله"لا يدعم الانفلاش العسكري الفلسطيني خارج المخيمات لكن لا شيء يمنعه دون استخدام هذه الورقة لتوفير الحماية لسلاح المقاومة.