ليس كلام المسؤولين الفلسطيني واللبناني، محمود عباس وفؤاد السنيورة، على"مبدأ حصرية السلطة الأمنية بالدولة اللبنانية على كل أراضيها"بيانهما المشترك وپ"العباريسي"في 18 تشرين الأول/ أكتوبر، كلاماً لبنانياً خالصاً، على رغم التصريح به في معرض لبناني. فما تشكو منه السلطة اللبنانية، وتعلنه على الملأ غداة اعلانها ضبط سلاح مهرب ومقاتلين مهربين على مقربة من الحدود اللبنانية - السورية الشرقية والشمالية، وغداة المشادة مع"القيادة العامة"، فصيل أحمد جبريل المسلح والأمني - تشكو منه السلطة الفلسطينية أضعافاً مضاعفة. وأصل العلة أو الداء هو"ازدواج"السلاح، والسلطة تالياً، على أرض اقليمية متصلة تعود السيادة عليه، وعلى سكانها، الى سلطة واحدة تحتكر السلاح والعنف"حصراً". والرئيسان يشكوان، كل في"دولته"، طعناً حاداً في حقه في الحصرية. والذريعة في الحالين واحدة. وهي تقدم"الحق في المقاومة"على"حق المواطنين في الأمن". وهي ذريعة قوية في دولتين ضعيفتين، على هذا القدر أو ذاك. وليس عسيراً على القوى المعارضة، الوطنية البلدية أو العربية، التذرع بعجز الدولة عن ردع الضربات الاسرائيلية والأعمال العسكرية الانتقامية، الى تسويغ الأمن الذاتي المنفصل، والحق في البندقية و"المقاومة". وطوال الأربعين سنة المنصرمة، وهي عمر الكفاح الفلسطيني"بحثاً عن الدولة"الوطنية، على قول مؤرخ فلسطيني، رفع التذرع بپ"العجز العربي"وتسويغ"المقاومة"، الذاتية بالبندقية المستقلة جراءه ورداً عليه، الى مرتبة المبدأ الأدنى والأصلي. ولا يستقيم المبدأ هذا، ولا يتمتع ببداهته ويقينه، الا اذا أغفل وجهه الآخر والمضمر: وهو"الحق"الفلسطيني في المبادرة الى استدراج العمل العسكري الانتقامي، الاسرائيلي غالباً والوطني المحلي في كثير من الأحيان، ودعوته الى الرد. ويفضل أن يكون الرد في وسط المدنيين، حيث يلجأ المسلحون ويخزنون ذخيرتهم ويقتتلون ويقتلون. وينسب النضال الفلسطيني، أعمالَ الضبط الداخلية والقانونية، اذا هي صدرت عن السلطات الأردنية أو اللبنانية أو الكويتية أو الفلسطينية"الذاتية"، الى التواطؤ مع العدوان الاسرائيلي وظهيره الأميركي المفترض. وصورت أعمال الضبط هذه في صورة الخطوة الأولى على طريق"إبادة"مؤكدة وثابتة. وكان لبنان مضماراً خصباً لمثل هذه الانشاءات المحمومة، ولا يزال، وعاد مضماراً لها ومنبتاً بعد انحسار"الضمانة"السورية. وهذا عود على بدء. فالحكم البعثي بسورية استعمل"حرية العمل الفدائي"على الأراضي اللبنانية، منذ 1966 وحادثة جلال كعوش الغامضة، في تحريض الشطر العروبي من اللبنانيين وجماعاتهم على السلطة. وعقد اتفاق القاهرة في 1969 تحت وطأة التحريض هذا. يسير في بلد أهله منقسمون على أنفسهم، وعلى دولتهم. والعروبة فيه ليست صفة قومية أو تاريخية أو ثقافية، بل هي صفةٌ عصبية وسياسية عنيفة يُنفى منها، ابتداءً، شطر من اللبنانيين يحملون على موالاة الاستعمار الغربي، ويسكت عن النفي والحمل شطر آخر أو هم سكتوا الى وقت قريب. وكان من أوائل قرارات الرئيس السوري الراحل، في 1971 غداة قصف اسرائيلي عنيف أصاب مخيمات فلسطينية بسورية وأوقع عشرات الضحايا، انشاء"ضابطة فدائية"سورية. ولم تقتصر مهمة الضابطة على تقييد عمل المنظمات الفلسطينية، المسلحة على الأراضي السورية، وتعداه الى"ترحيل"المسلحين، ومكاتبهم ومخازنهم ومعسكراتهم، الى الأراضي اللبنانية. وسمى صلاح خلف "أبو اياد" هذه السياسة، في 1973 غداة اغتيال القوات الاسرائيلية ثلاثة من قادة منظمة التحرير،"تخزيناً". وقصد به تعريض منظمات المسلحين والمقاتلين للقصف الاسرائيلي ولثورة الأهالي معاً أو تباعاً. وتسترت السياسة السورية، منذ 1973 على أبعد تقدير، بقوات"جيش التحرير الفلسطيني، وهي أقرت القمة العربية في أواخر 1963 وأوائل 1964، انشاءه مع انشاء المنظمة - الدولة، تسترت بها على تسللها الى لبنان تسللاً مشروعاً وپ"عربياً". وتكشف بعض جنود الجيش العتيد عن جنود سوريين بلباس فلسطيني أو عن موظفي استخبارات. فدواعي"المقاومة"أو"الثورة"أو"حرب التحرير"، وذرائعها، سوغت تحصين دولة سرية لدواعي الأمن داخل الدولة الوطنية. وتمتعت هذه الدولة بسلاحها ومنظمات المسلحين الكثيرة، وبهيئاتها المدنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وبعلاقاتها الخارجية، وأحلافها الأهلية في البلد المضيف والدولية. فوسع مقاتلي هذه"الدولة"وعملاءها انتهاك حصانة الدولة المضيفة، تجنيداً واغتيالاً وتهريباً، من غير رقيب. ومكن نزول الفلسطينيين ضواحي المدن اللبنانية الكبيرة بيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعلبك وعلى طرق مواصلاتها الى الداخل، مسلحي المخيمات، حين شاؤوا وشاءت قياداتهم، من تقطيع أوصال لبنان، وتغذية بؤر الخروج على الدولة. فحالوا بين الدولة المضيفة اللبنانية وبين بسط سلطتها السياسية العسكرية والمدنية والجنائية على أراضيها الإقليمية ومواطنيها. ونسجوا شبكة كثيفة من المصالح والولاءات والخوات والاعفاءات والأحلاف ألحقت بهم بالمسلحين وبمنظماتهم لبنانيين كثراً، أفراداً وجماعات، من أهل الهوامش الاجتماعية الفقراء والضعفاء ومن"النخب"الأهلية والعائلية والثقافية. واستطاعوا جراء ارتباطهم بپ"دول"مثل سورية والعراق وليبيا وايران، وجراء تعويلهم على"ثورة"أو"مقاومة"خارجة على الدولة وعلى العلاقات الدولية وهي تحملها على عدوان صرف، اقتطاع"قواعد محررة"من دواعي السياسة وضوابطها. فإذا اضطر"حزب الله"بمحاذاة حدود اسرائيل، الى لجم رغبته في قصف مواقع اسرائيلية بمزارع شبعا أو خارجها، تولت"أطراف مجهولة وغير منضبطة"، يرجح انها فلسطينية هي"القيادة العامة" القصف الشارد بالكاتيوشا، مقذوفات"حزب الله"المسجلة. ولا يعلم الحزب العتيد شيئاً عن الأمر، هو الذي لا تفوته حفلة سمر شاردة ولا تعصاه زيارة أهلية وغير مرغوبة واردة. فقوة المخيمات العسكرية، ويربطها المسلحون وأنصارهم المحليون وآخرهم كلاماً هو حسن نصرالله في 20 تشرين الأول بپ"حق العودة"والقرار 194 ومقاومة التوطين وپ"استقلال البندقية الفلسطينية المقاتلة"، جاهزة على الدوام لإحراج الدولة المضيفة واضعافها، في الداخل وبإزاء الخارج، اذا شاءت قوة اقليمية، أو قوتان، الاحراج والاضعاف هذين. فعلى خلاف زعم أمين الجميل، الرئيس اللبناني الأسبق، تكاد تكون العلاقة بين سلاح"حزب الله"وما بقي من سلاح"أمل"والحزب القومي السوري وحزب البعث وبين سلاح المنظمات الفلسطينية"السورية"والاسلامية بلبنان، عضوية، على ما يذهب اليه ضمناً قرار مجلس الأمن 1559. ويصدر السلاحان، مستقلين واحدهما عن الآخر أو متلاحمين، عن تعاطٍ سياسي واحد يجمع بين"حماس"وپ"الجهاد"وپ"القيادة العامة"وپ"شهداء الأقصى"الفلسطينية وپ"حزب الله"والأحزاب"السورية"اللبنانية وپ"جيش المهدي"العراقي وأجنحة من الحرس الثوري والباسيج الايرانيين. فهذه القوى والمنظمات والأجنحة، على مقادير متفاوتة وبمواقع تتباعد أو تتقارب بحسب الظرف، تشترك في نصب نفسها وصية وقوامة على أي"انحراف"قد يؤدي الى انتهاج الاطار الوطني أو القومي الجامع ما يشبه سياسة دولة، ويقر بمعايير حقوقية أو ديبلوماسية دولية مشتركة. فعدو"القيادة العامة"و"فتح الانتفاضة"وهذه من مخلفات 1982 والحرب السورية على ياسر عرفات، وغيرهما من حلفائهما الظرفيين، هو محمود عباس، وفؤاد السنيورة"المتفرع"عنه سياسةً. ويذهب الحلف العريض من المنظمات والمسلحين والأجنحة، وهو مذهب الدول التي يأتمر بأمرها ويصدر عنها وعن تمويلها وتسليحها وارشادها الى ان دور سلطات الدول الوطنية، غير القومية ولا المؤمنة، يقتصر على حمايتها الجزئية من العدوان، والتنديد به في أي ظرف وتحت أي ذريعة. ويقضي الوجه الآخر في هذا الدور بالتضامن مع"القلاع"وپ"الحصون"القومية الصامدة بوجه الغزو والتهديد. واذا لم تمتثل جاز، أي وجب توريطها في حرب لا قبل لها بها ولا طاقة عليها، شأن"القلاع"وپ"الحصون"نفسها وانما من غير مزاعمها أو دعاويها. ويستقوي هذا النهج بآلام الفلسطينيين وبؤسهم وتعاستهم وحقوقهم المهدورة. ويلقى الاستقواء صدى في أوساط عريضة منهم. فهم كذلك يحملون كرامتهم وهويتهم وتماسكهم على"بندقيتهم". ويحسبون ان"اتفاق القاهرة"1969، أيام عزهم، صان الكرامة والهوية، وأن مقتلة صبرا وشاتيلا 1982 كان السبب فيها تجريدهم من السلاح، وأن إخراجهم من مخيمات بيروت والضاحية 1985 - 1986، وحصارهم في صيدا وشرقها وجنوبها 1986 - 1990، نجما عن قلة العتاد والسلاح. وهذه تعليلات تزينها أسطورة"المقاومة"غير المقيدة بدولة وسياسة ومنازعات سياسية واجتماعية وتمثيل. وتنفخ في هذه الأسطورة أشباه دول تحاول انكار انفصالها انفصال الدولة عن أجسام شعوبها، واسكات انقسامات الشعوب ومنازعاتها بعصا الأمة الغليظة.