اكتملت حلقات المسلسل الأميركي لضرب أحد أهم مبادئ حرية الصحافة، وهو حق الصحافي في أن يحمي مصدر أخباره. هذا أيضاً من تداعيات زلزال 11 سبتمبر والحرب على الارهاب، فالحرب على العراق. وأطلق سراح الصحافية في"نيويورك تايمز"جوديث ميلر، إحدى أبرز"المناضلات"من أجل تأكيد وجود أسلحة دمار شامل في العراق. كانت ميلر سجنت بعدما رفضت كشف المصدر الذي سرب لها معلومات عن هوية عميلة لوكالة الاستخبارات الاميركية. وبعدما أمضت 12 أسبوعاً في السجن، وبعد أكثر من سنة ملاحقة واستجوابات، تبرع المصدر بالسماح لها بكشفه. وكان صحافي آخر هو ماثيو كوبر من"التايم"خضع للضغوط وأفصح عن مصدره، انه كارل روف المستشار الأهم للرئيس جورج بوش. في حال ميلر كان المصدر لويس ليبي، أحد مساعدي نائب الرئيس ديك تشيني. والمفارقة ان كوبر نشر ما أبلغ اليه، اما ميلر فلوحقت على ما لم تنشره، وانما عُرف انها كانت تعرف. المفارقة الأخرى أن العميلة فاليري بلايم لها حق قانوني في أن تبقى"سرية"، أي ان المستشارين العظيمين خرقا القانون، وليس معلوماً بوضوح اذا كانا سيُدانان ويعاقبان ام ان رئيسيهما سيواصلان حمايتهما. يذكر ان الأمر يتعلق ب"فضيحة"اليورانيوم الذي قيل ان الرئيس العراقي السابق اشتراه من النيجر، وتبين في تحقيق أجراه زوج بلايم السفير جوزف ويلسون انه يورانيوم خيالي. كان هناك تكالب على اعتماد المعلومات الخاطئة حتى لو أدى ذلك الى مخالفة القانون، وحتى لو أدى أيضاً الى المسّ بعميلة هي مواطنة اميركية في النهاية وليست من عملاء ما كان يعرف بالمعارضة العراقية. لكن سياق تحطيم المبادئ استمر على رغم ان المهووسين بالحرب حصلوا على حربهم. فقبل يومين أعلن الحكم على المجندة ليندي انغلاند، صاحبة أكثر الصور شهرة لوقائع التعذيب والإذلال في سجن أبو غريب العراقي. حكمت بثلاث سنوات سجناً فقط، أي أنها حوسبت على مجرد مسلك خاطئ في عملها. ليندي انغلاند محظوظة لأنها حوكمت ونالت حكماً، لكنها تعلم أو لا تعلم ان هناك سجناء عراقيين في أبو غريب وغيره اعتقلوا منذ أكثر من سنتين ولم يحاكموا ولا يعلمون ما هي التهم الموجهة اليهم، وقد يكون بينهم من حظي بالمعاملة الانسانية جداً التي كانت انغلاند تتقنها. ثم ها هي المديرة الأميركية السابقة لسجن أبو غريب تنبئنا ان التعذيب لم يقتصر على سجنها، بل ان الكولونيل جانيس كاربينسكي التي كانت جنرالاً وعوقبت بخفض رتبتها تطالب بنشر صور التجاوزات في كل السجون لتكون هناك"عدالة". في أي حال، تعرف كاربينسكي وانغلاند لماذا تحاكمان ولماذا تعاقبان. لكن عملية تطويع القوانين آخذة في التعولم، خصوصاً في سبيل الحرب على الارهاب، بدليل ان الصحافي تيسير علوني حكم على ما لم يستطع الادعاء اثباته ضده. لم يكن هناك مصدر سري طلب من علوني كشفه، ولم تكن هناك صور سرية تطلب الأمر مؤامرة داخل الادارة الاميركية لكشفها، بل كان أمام الكاميرا وأمام الجميع، ولم يكن وحده من أجرى مقابلة مع أسامة بن لادن اذا كان هذا ما يؤخذ عليه. وليس معروفاً حقاً لماذا ارتضى القضاء الاسباني مثل هذا الأسلوب للاقتصاص من هذا الصحافي. الأرجح أن القضاء اراد تكريس سوابق فرنسية وبريطانية تقوم على وجود"حدس"استخباري أو مجرد شك يبرر سجن المتهم من قبيل التحوّط. ثم ان معاقبة صحافي، سواء كنت تحب جريدته أو محطته أم لا، لا بد ان تعني ان عمله نفسه لا يعجبك. وهذا جديد على"دولة القانون". وهو يعني، استطراداً، ان دول القانون تصبح شيئاً آخر في زمن الحرب، وسيأتي اليوم الذي يكشف فيه أن دول القانون هذه أمرت عساكرها بقصف مقار الفضائيات العربية في بغداد بعد كابول، خصوصاً ان كبار المسؤولين في هذه الدول، ولا سيما في الادارة الاميركية، أطلقوا تصريحات موتورة ضد هذه القنوات. بعد عودة كارين هيوز من جولتها الأولى في المنطقة كسفيرة ل"تحسين"صورة الولاياتالمتحدة في الخارج، لا بد ان تكون قد حصلت على فكرة أكثر وضوحاً عن الأمراض العضال التي تعاني منها هذه الصورة. ولعلها أدركت ان ما يحصل من أخطاء وتجاوزات وطمس حقائق في الولاياتالمتحدة آخذ في نشر السرطان الارهابي أكثر مما يساهم في مكافحته. أما تلميع الصورة فهذا قصة أخرى.