قدمت دول اميركا اللاتينية الديموقراطية حتى اليوم أنموذجاً متوازناً يربط بين الثقافة والسياسة معاً. هذا النموذج عبر عنه في شكل خالص اختيار سفراء دول القارة وممثليها في الهيئات الدولية. لا يبدو هذا غريباً اليوم في أعين مواطني القارة الذين يجدون في كتابهم وشعرائهم سفراء"قبل التعيين"لقارة مثّل الادب فيها"صناعة"قابلة للتصدير مثلها مثل ثروات القارة. والتاريخ الاستثنائي الذي يجعل من القارة حلماً، ليس بحسب الشعراء مثل الفرنسيين انتوانا ارتو أو بروتون أو بيرس أو الاميركي همنغواي وآخرين، بل مواطنين عاديين يجدون في زيارة بلدان القارة فرصة أو"حجاًً ميسوراً"لاستكمال ثقافتهم بخصوص الحضارات الانسانية المؤسسة ومعرفتهم بعالم اليوم. القارة اللاتينية التي بدأت دخولها المشهد العالمي بعد ثورات التحرر من المستعمرين الاسبان والبرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والبريطانيين طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر دشنت عهد صلاتها الديبلوماسية مع العالم عبر سفراء من مثقفي الطبقة البرجوازية المحلية ومن الشعراء والكتاب الذين ساهموا في الثورات التحررية لدول القارة. ولا يبدو ذلك غريباً إن عرفنا ان أهم قادة تحرير القارة كسيمون بوليفار الفنزويلي الذي حرر فنزويلا والاكوادور وكولومبيا كان شاعراً. ولم يكن الصحافي خوسيه مارتيي محرر الجزيرة الكوبية من الاحتلال الاسباني أقل شعرية منه. أما اسان مارتين محرر تشيلي والارجنتين فكان مثقفاً من طراز خاص ومؤرخاً تربوياً معروفاً. في النصف الاول من القرن العشرين شهدت الديبلوماسية الاميركية اللاتينية دفقاً هائلاً من السفراء الادباء في اتجاه اوروبا خصوصاً. اذ ان العلاقة مع القارة الأم كانت ثقافية بالدرجة الاولى تمتد جذورها الى قرن الاكتشاف الكولومبوسي أواخر القرن الخامس عشر. لقد أعطت الدول الأكثر تقدماً في القارة، تشيلي والارجنتين، النموذج الافضل في هذا السياق. فالدولتان كانتا حينذاك تقطعان شوطاً متميزاً في اتجاه التقدم الاقتصادي وخطوات كبيرة في اتجاه الديموقراطية. ولعل حال الشاعر بابلو نيرودا الحائز جائزة نوبل للآداب في العام 1970 سفير تشيلي في اسبانيا قبل الحرب الاهلية وأثناءها خير أنموذج. فالشاعر الشاب حمل سفارة بلاده ولم يتجاوز عمره الثلاثين. في وظيفته سفيراً جعل نيرودا بلاده في قلب اوروبا، ثقافياً على الأقل، وإليه تعزى مئات المنح التي حصل عليها طلاب بلاده في الجامعات الأوروبية. في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم وصلت الظاهرة الديبلوماسية - الادبية الى مديات نادرة. فثلاثة من سفراء القارة في اوروبا سيصيرون من حملة نوبل في الاعوام اللاحقة، هم: الغواتيمالي استورياس الذي كان سفيراً لبلاده في باريس، والمكسيكي اوكتافيو باث الذي كان سفيراً لبلاده في الهند. ونيرودا الذي صار لمرة ثانية سفيراً للتشيلي لكن هذه المرة في باريس. في الوقت نفسه كان الروائي الكوبي اليخو كاربونتييه سفيراً لبلاده في باريس والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس سفيراً لبلاده في لندن... من دون ذكر سفراء - أدباء آخرين أقل شهرة من عمالقة الأدب الأميركي اللاتيني. بعيداً من الديبلوماسية، وفي السياسة الداخلية لبلدانهم كان لأدباء أميركا اللاتينية قسط كبير في المشاركة في خلق ديناميكيات ثقافية - سياسية من نمط جديد تربط قدر القارة بمصير شعوبها ثقافياً. الشاعر نيرودا اوشك ان يصبح رئيساً لجمهورية بلاده في أوائل السبعينات. اذ رشحه الحزب الشيوعي التشيلي لمنصب رئيس الجمهورية عشية انتخابات العام 1970. لكنه تنازل عن ذلك تاركاً الفرصة لصديقه القديم الطبيب سلفادور اليندي مرشح الحزب الاشتراكي الذي فاز بالمقعد ليقتل ثلاث سنوات بعد ذلك في انقلاب الجنرال اوغستو بينوشيه. انتصار الثورة الساندينية في نيكاراغوا نهاية السبعينات جاء بوزير الثقافة القس ارنستو كاردينال، الذي تحول الى رمز لهذه الثورة وأحد رسلها الى العالم جعل مثقفي اوروبا يقفون الى جانبها في كل المحافل الثقافية والسياسية لحظة انتصارها على ديكتاتورية سوموزا، على رغم قوة الريغانية وشراستها في محورة العالم في ذلك العقد. في اواسط التسعينات رشح الكاتب البيروفي المقيم بين باريس وبرشلونة فارغاس ليوسا نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية وكان ذلك حدثاً عالمياً وموضعاً لنقاشات اسالت الكثير من الحبر. لم يفز الكاتب بالرئاسة على رغم الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها في بلاده. اذ فضل الناخبون رجل اقتصاد في بلاد كانت تهزها ازمة اقتصادية عاتية لم يسبق لها مثيل. على رغم ذلك فقد كان مؤلف"حرب نهاية العالم"و"المدينة والكلاب"قاب قوسين او أدنى من الفوز بمقعد رئيس جمهورية البيرو ديموقراطياً. كتّاب القارة الاميركية اللاتينية انغمروا منذ وقت مبكر في السياسة وذلك أمر طبيعي في قارة تمثل هجيناً ثقافياً خصباً لحقب تاريخية دامية ولثقافات أعراق متعددة لا يفصلها، جغرافياً، عن الولاياتالمتحدة غير البرزخ الوهمي في بنما. فالثقافة هي التي انقذت القارة من حقبة الديكتاتوريات التي هيمنت خلال عقد الستينات والسبعينات في شكل خاص وقادتها الى البدايات الجديدة للديموقراطية التي يتوقع البعض ان تفرض"ساعة اسبانيولية"في مسار القرن الجاري. يعرف مثقفو اميركا اللاتينية ان مشكلات القارة الاقتصادية ذات جذر ثقافي متشابك بحكم تعدد الاجناس وعزلة قطاعات واسعة من العمال والفلاحين ذوي الاصول الهندية، في شكل خاص، عن الحداثة بما تعنيه اليوم من افكار ومعتقدات وطرق عيش وانماط انتاج. وهم في ذلك اتبعوا استراتيجية اتصال ثقافي بين شعوب القارة من جهة ومع اوروبا من جهة اخرى. فالقارة حاضرة في الخريطة الاوروبية ثقافياً في شكل خاص والتبادل مع اوروبا يتطور في شكل متزايد، وعبر الثقافي يجد الاقتصاد مكاناً له ذا وجه انساني. ولسوق مثال على ذلك لا بد من الاشارة الى تجربة كوبا التي على رغم ديكتاتورية كاسترو والحصار الاميركي عليها منذ أكثر من عقدين، فإن دولاً اوروبية عدة، في الغرب الاوروبي، الحاضن الثقافي التاريخي، تواصل مساعدتها للجزيرة ولم تتخل اسبانيا، حتى خلال حكومة خوسيه ماريا اثنار اليمينية، عن مساعداتها ومواصلة برامجها المتبادلة مع كوبا! لأسباب تتعلق بسطحية الثقافة السياسية وعصبويتها النادرة لدى رجال السياسة العراقيين وفي المقابل سطحية أكثر المثقفين سياسياً، لم يحذ العراق الجديد خطوة واحدة في اتجاه يذكر بالحال النموذجية لبلدان اميركا اللاتينية. طوال سنوات المعارضة للقوى التي تحكم العراق اليوم، دار حديث كثير وسال حبر اكثر في سجالات صحافية احتضنتها أكثر من صحيفة ومجلة عربية وعراقية، عن العلاقة بين السياسي والثقافي ومفهوم المصالحة بين الاثنين من دون تجذير واقعي للحال. اي تفعيل مساهمة المثقف في صوغ الثيمة الاساسية للخطاب السياسي العراقي وطرحه امام محترفي السياسة كتعبير عن الواقع بمستوياته المتعددة. في الوقت نفسه نظمت أكثر القوى والاحزاب التي كانت في المعارضة ندوات ونقاشات في السياسي - الثقافي، حدثت فيها تنازلات انتهازية عابرة من طرف السياسيين ولم يستلهم منها المثقفون دروساً أو فرصاً عملية تجعلهم صاغة خطاب واضح يساهم في تسيير الحدث السياسي المعقد في شكل متوازن، على الأقل بصيغة رمزية. في الحالتين لم ينجح المثقفون، لا في المشاركة الفعلية على طريقة اندريه مالرو حين تحرير فرنسا ولا في فرض استقلاليتهم تماماً عن الحدث السياسي المتوقع بطريقة بونس بيلاطس! بل ان ما حدث كان العكس حيث ظل الساسة في عزلتهم السياسية المنبثقة من الحدث الذي لم يشاركوا في صنعه بل اتبعوا نتائجه مثل كومبارس. ولم يستقل المثقفون عن هذا الحدث الا متأخراً، وربما بعد فوات الاوان، وفي شكل متناقض وعصبوي ايضاً جعل من موقفهم متاهة في أطلال بابل. هكذا حالما وصل الجميع الى سدة الحكم بطريقة سد الفراغ المعروفة اثر سقوط نظام صدام حسين وتكريس الاحتلال، وجد المثقفون انفسهم خارج المعادلات واصبحوا طابوراً هامشياً، أقلياً، في مجتمع عصفت به الأمية والعشائرية والنزعات الدينية المتطرفة، بعدما كانوا بصيغة او بأخرى لسان حال المعارضة الادبية التي لم تهدأ يوماً ضد نظام صدام حسين ومنذ بداية سبعينات القرن الماضي. المبادئ التي كانت عناوين مقالات صحف المعارضة التي حررها المثقفون في الثمانينات والتسعينات واوائل القرن الجاري تحولت الى"كعكة السيد"المشهورة، تقاسمها السياسيون بمحاصصة - غير واقعية وغير اخلاقية - لم يفهمها الكثير من المثقفين الذين بقوا في ستر منافيهم والتي اصبحت مزدوجة مذاك ومن دون هدف مقدس. حدث هذا في الشهور الذي كان ممكناً ان تمثل الحال العراقية، على الصعيد الثقافي، نموذجاً يمكن الاقتداء به في المنطقة العربية برمتها. فالمتعارف عليه عربياً، بل عالمياً، ان العراق بلد ثقافة ومثقفين وتلك حقيقة على رغم السنوات الثلاثين العجاف من حكم حزب البعث وصدام حسين، فالثقافة لا تغيب في عقود وان ضعف اشعاعها! اذ كان ممكناً ان تفتح امام المثقف العراقي صفحة مهمة في اعادة صوغ المعادلات الجوهرية التي تعيد التأسيس لثقافة اجتماعية فاعلة وحداثية في مجتمع كسرت العقود الثلاثة من القمع والتخريب عموده الفقري. لكن ما حدث كان العكس، إذ ان تجارب الكثير من المثقفين الذين عاشوا عقوداً في المنفى لم تجد لها صدى في خطوات السياسيين في ما يتعلق بالشأن العراقي الراهن ومستقبل البلاد ثقافياً او تربوياً او حتى على صعيد الصيرورة الديموقراطية ومنظمات المجتمع المدني. اللعبة السياسية في العراق جرت حتى اليوم بميكانيكية قديمة ذات وجه مسطح خال من تضاريس الواقع العراقي المعقد الذي لم يعره اهل السياسة حيزه المطلوب ولم يدرسه اهل الثقافة في حينه الدرس المطلوب. الانكى ان المثقفين القلائل الذين شاركوا تعبوياً في صوغ"البعض"السياسي في الحقبة التي سبقت سقوط نظام صدام بوقت قصير جداً، سرعان ما ابتعدوا بعدما وجدوا انفسهم"خارج السياق"والتحقوا بجمهرة الذين فضلوا البقاء في منافيهم محبطين. لكن الذي يبدو"طبيعياً"ان البلاد في حاجة اليوم، أكثر من الماضي، الى المثقفين لصوغ خطاب واضح، وبلغة مفهومة يلخص ما حدث ويعلن الحداد على حقبة هي من اقسى حقب التاريخ الحديث للعراق، لغة تدشن حواراً مفتوحاً عراقياً وعربياً وعالمياً، وتجعل من"اجتثاث البعث"ثقافة وليست إبعاداً ادارياً وتحريضاً ضد الديموقراطية المقترحة للعراق الجديد، خصوصاً في حال التردي المتواصل للتركيبة العراقية والغموض الذي يلف مستقبل العملية السياسية كما هو حاصل اليوم. إعادة إعمار البلاد ثقافياً وتربوياً لم تبدأ بعد، ناهيك عن الإعمار العام للبنى التحتية ومؤسسات الدولة وعمليات"الكولاج"المستمرة منذ اكثر من عام لم تنجح، حتى اليوم، في خلق دولة حقيقية. الهجرة المعاكسة للمثقفين والجامعيين لم تتم بل ان هجرة العقول الباقية الى المنفى اخذت وتيرة مماثلة لعقد التسعينات، بما يعني افراغ البلاد من احتياطها الاخير. في حال التخلف الواضح للّغة السياسية والغياب شبه الكامل لسياسة اعلامية متنورة، فإن سوء الفهم للحال العراقية، عربياً وعالمياً، هو في أقصى درجاته اليوم، حداً يجعل الامركة - ذات العقال والكوفية والجولات المكوكية لرؤوس السلطة والتصريحات المتناقضة - هي المهيمنة، من دون اضاءة اضافية للمشهد العراقي الذي يكشف، يوماً بعد يوم، عن تركيبة تعددية. من جانب آخر فإن تعيينات سفراء العراق باستثناء بعض السفراء الاكراد في دول العالم وحال الاستياء التي اثارتها بين الجاليات العراقية في بلدان المعمورة ولدى بعض الحكومات تكشف ابتعاد السلطة الحالية عن فهم عقلاني لما حدث في العقود الثلاثة الماضية في العراق وما يدور اليوم عالمياً. اذ إضافة الى تحدر معظم سفراء العراق من جبة النظام السابق ووزارة خارجيته السيئة الصيت، فإن ضعف الكفايات واضح والتخلف الثقافي للحزبيين - السفراء اوضح والابتعاد عن هموم الجاليات المقيمة في اوروبا وأميركا أكثر وضوحاً، اما جهلهم بلغة البلاد وتقاليدها السياسية والثقافية ومستويات الرأي العام فيها فهو الأكثر وضوحاً.في ندوة ادبية نظمها مركز جورج بومبيدو في باريس قبل حين احتفاء بمئوية الشاعر نيرودا، سألني سفير تشيلي فرنسيسكو ريفاس، الروائي المنفي سابقاً في باريس، بعدما تحدث عن تعيينه سفيراً لبلاده اثر عودة الديموقراطية في بلاده: كم شاعر وروائي يمثلون بلادك اليوم، بلد اختراع الكتابة والآداب، بل القراءة والفنون، في السلك الديبلوماسي؟ لم أجبه صراحة وابتسمت خجلاً ثم قلت: لا أحد. غير ان للعراق سفراء كثيرين من دون تعيينات رسمية هم ذاتهم الذين كانوا قبل سقوط نظام صدام حسين. كانت المرة الاولى في حياتي التي أخجل فيها حينما أسأل عن العراق... بلاد الجمر الحارق للأخضر واليابس. كاتب وشاعر عراقي.