يقدم الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا في روايته القديمة الجديدة "ساعي بريد نيرودا" مجموعة مصادفات شعرية تفيد أن صحافياً تضطره ظروف العمل للرضوخ إلى سلطة صاحب الجريدة التي يعمل فيها، فيدخل في دوامة عمل يقلل من حماسه لإصدار روايته الأولى التي لا يعرف هو نفسه ما الذي ستتضمنه، ويتأجل المشروع مرة وراء أخرى حتى تأتيه الفرصة مع طلب صاحب الجريدة منه أن يجري حواراً مع بابلو نيرودا. هنا يخرج الصحافي من الحدث، ليصبح راوياً لحكاية صبي البريد الذي ليس لديه سوى زبون واحد، هو الشاعر نيرودا، حيث إن قرية الصيادين التي يسكن الشاعر على أطرافها لا يتلقى أفرادها أي رسائل، أو أنهم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون. تتدحرج العلاقة بين الفتى ابن السابعة عشرة "ماريو خيمينيث" والشاعر، حتى يجد الفتى نفسه مستدرجاً كي يصبح شاعراً وراوياً لأشعار نيرودا لفتاته التي أغرم بها؛ والفتاة "بياتريث غونثالث" بدورها تقع أسيرة جمل شعرية لا قبل بفتاة السادسة عشرة على مقاومة سحرها.. "قال لي إن ابتسامتي تمتد مثل فراشة على وجهي.. قال لي إن ضحكتي وردة، حربة تتشظى، ماء يتفجر. قال إن ضحكتي موجة فضة مباغتة.. قال لي: يلزمني وقت طويل لأحتفل بشعرك، يجب أن أعده وأتغزل به شعرة شعرة..".. وحين تجادلها الأم في أن الفتى يخادعها بمعسول كلام بلا رصيد، ترد الفتاة "لا يا أماه! إنه ينظر في وجهي فتخرج الكلمات من فمه كأنها العصافير". لكن الحدث في الرواية لا يقف عند حدود قصة حب واستعارات شعرية، فالحدث السياسي يشكل الحامل الأساسي للحبكة الروائية، عند صعود الحزب الديمقراطي المسيحي للحكم، وفوز إيزابيل الليندي بالرئاسة كأول رئيس ماركسي يُنتخب ديموقراطياً، ليتشابك حدث زواج ماريو وبياتريث، بعدما تلاشت ممانعة أمها، مع تعيين بابلو نيرودا سفيراً لبلده تشيلي في باريس، ليصل الأمر حتى الانقلاب العسكري للجنرال أوغوستو بينوشيه برعاية المخابرات الأميركية، حيث لا يُستحب وجود حكومة شيوعية في أميركا اللاتينية، الحديقة الخلفية للبيت الأبيض الأمريكي. ولا تقتصر الرواية على منمنمات من أشعار نيرودا، فالروائي نفسه صاحب نفس مسرحي مذهل، وتظهر براعته في تسكين لحظات الحوار الصاخب بقرع صنوج صادم يكتم قرقعة ضجيج الكلام بنوع من الذكاء اللماح، الذي يتبارز في أحيان كثيرة مع الإيقاع العالي للمقاطع الشعرية التي تتواشج في النصف الأول من صفحات الرواية مع الكلام العادي لناس عاديين لا تنقصهم خبرة كلام الحياة، حيث البلاغة هي ميراث الأيام عند الشعوب في أبرز ممثل لها، وهي الأمثال الشعبية العابرة للألسن والقارات والأجناس. إذاً، فالرواية مزيج من تاريخ حقيقي صنعته تشيلي، في السياسة، ومن تاريخ شفاهي عبر تفاصيل قصة ساعي البريد الذي يحمل يومياً كيلوغرامات من الرسائل والبرقيات لزبونه الوحيد الشاعر بابلو نيرودا، ومن تاريخ أدبي تلفظه ألسنة كلمات الشاعر التي حازت جائزة نوبل للآداب عام 1973، ومن خيال روائي مسرحي موسيقي جعل الرواية وصاحبها هدفاً لكل مقتبس ذكي. ومن هنا ضجت مسارح العالم، بما فيها العربية، بعروض متكررة للمسرحية المقتبسة من الرواية.