باشارة عائمة إلى"المقاومة كحق مشروع للشعوب كافة"وبنص يطالب"بجدولة انسحاب القوات الاجنبية من العراق"رفع الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى اعمال مؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي التأم في القاهرة هذا الشهر بمشاركة ممثلين عن معظم القوى والتيارات السياسية المحلية، وبحضور لافت لديبلوماسيين عرب واجانب، واهتمام اعلامي واسع، على ان يلتقي المشاركون تضاف اليهم قوى اخرى في مؤتمر بغداد نهاية شباط فبراير أو بداية آذار مارس المقبلين تسبقه اجتماعات تحضيرية ل"لجنة الحكماء"المنبثقة من المؤتمر والمكلفة متابعة قراراته. وبين انعقاد مؤتمر جدة لوزراء خارجية الدول العربية الثماني المكلفة متابعة الملف العراقي واعلان البيان الختامي للاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق المنعقد في مقر الجامعة العربية، فاصل زمني لا يمتد سوى بضعة اشهر شهدت صراعاً سياسياً عربياً ودولياً كان يشير عموماً إلى دعم واضح لعقد المؤتمر في موعده المقرر بعد الاستفتاء على الدستور العراقي وقبل الانتخابات العامة منتصف كانون الاول ديسمبر المقبل. وعلى رغم المهمة المعقدة التي تصدت لها جامعة الدول العربية عبر موفدها إلى العراق السفير احمد بن حلي ومن ثم موسى، الا ان النتائج اثمرت سريعاً رغبة الاطراف جميعاً بالمشاركة مع تحفظات هنا وهناك عن مشاركة ممثلين عن البعث العراقي واطراف مسلحة، وافرزت في النهاية موقفين متباينين لم يكن لهما ان يلتقيا على اي ارضية مشتركة، عكس كل منهما طروحاته قبل التوجه إلى القاهرة وخلال جلسات المؤتمر وفي الاروقة الاعلامية الموازية. المقاومة... والبعثيون التساؤل الاكثر حيوية تعلق بمشاركة بعثيين او ممثلين عن المجموعات المسلحة في جلسات المؤتمر. وكانت القوى الشيعية التي شكلت الحيز الاكبر من الحكومة واضحة في رفضها لمثل هذه المشاركة، اذ اشترط رئيس الوزراء ابراهيم الجعفري لمشاركته شخصياً أو مشاركة قائمة الائتلاف منع اشراك بعثيين سابقين او ممثلين عن مجموعات مسلحة. وكذلك فعل زعيم قائمة الائتلاف الشيعية عبدالعزيز الحكيم الذي تراجع في النهاية عن المشاركة في المؤتمر على خلفية شكوك انتابت الوسط الشيعي قبيل انعقاده عن اغراضه الحقيقية وامكان ان يتحول منبراً لادانة حقبة ما بعد الاحتلال ومنح شرعية للمجموعات المسلحة التي لا تعتبرها القوى والشخصيات الشيعية وجهاً اخر للارهاب الذي يستهدف المدنيين والحكومة. اما القوى السنية المعارضة فلم تكن مخاوفها أقل، وان اختلفت في منطلقاتها. اذ أعربت"هيئة علماء المسلمين"التي مثلها امينها العام حارث الضاري وعدد من الشخصيات و"جبهة التوافق"التي مثلها زعماؤها الثلاثة عدنان الدليمي ومحسن عبد الحميد وخلف العليان عن الخشية من ان يتحول المؤتمر ساحة لدعم الحكومة على حساب القوى الاخرى. وركزت حواراتهم مع الامين العام لجامعة العربية خلال زيارته للعراق على ان اي حل للقضية العراقية لا يمكن ان يكون واقعياً من دون اشراك القوى المسلحة صاحبة الفعل الابرز على الارض، وعلى ان سياسة الاقصاء التي تحاول الحكومة انتهاجها تجاه البعثيين لن تقود إلى نتائج ملموسة. وبين هذين الطرفين المتناقضين في المعادلة السياسية وقفت الحركة العلمانية بزعامة رئيس الوزراء السابق اياد علاوي من جهة والاحزاب الكردية من جهة أخرى في محاولة للحصول على مكاسب سياسية وانتخابية وشعبية بتبني وجهات النظر وطرح رؤية اقل تشدداً تجاه الطروحات المختلغة وتأكيد احقيتها كعامل توازن بين الفرقاء في المشهد العراقي المضطرب. الانسحاب الاميركي... وعلى رغم ان مسألة جدولة انسحاب الاحتلال من العراق ظهرت في سياق التعليقات على البيان الختامي للمؤتمر كونها نقطة الاتفاق الرئيسية التي حصدها الحوار ونصراً لمبدأ الشرعية الوطنية، الا ان واقع الحال يشير بلا لبس إلى ان قرار جدولة هذا الانسحاب كان نقطة اتفاق بين الاطراف جميعاً قبل مؤتمر القاهرة وربما قبل المبادرة العربية ايضاً، لاسباب ذات منطلقات محلية ودواع انتخابية واخرى خارجية مرتبطة بظروف الاحتلال ومستقبله في العراق وفي البلدان التي اسهمت فيه ودعمته. ويرى مراقبون لتسلسل الاحداث ان ثلاثة محاور رئيسة في العراق كانت اتفقت ضمناً على المطالبة بجدولة الانسحاب الاجنبي في هذه المرحلة تحديداً، لكن اكثرها تشدداً وهو"الائتلاف الشيعي"الحاكم اختار ان تكون مناسبة مؤتمر الوفاق الوطني منطلقاً للمطالبة بجدولة الانسحاب لتوازنات سياسية داخلية. ففي مقابل القوى السنية التي رفعت شعار جدولة الانسحاب منذ الايام الاولى للاحتلال، يرفض الاكراد والشيعة والعلمانيون مثل هذه الجدولة لاسباب تتعلق بعدم قدرة القوات الامنية العراقية على تعويض الفراغ الذي ستخلفه القوات المنسحبة من جهة، ولاتفاقات سابقة الزمت القوى التي اجتمعت على معارضة حكم النظام السابق ودعم اسقاطه بعدم المطالبة بجلاء تلك القوات قبل التوافق في هذا الامر مع الجانب الاميركي نفسه. وهذا ربما يفسر التشدد في رفض الجدولة كان على الدوام موقفاً حكومياً عراقياً سرعان ما يصبح اقل حدة مع خروج القوة المعنية من السلطة ومثل ذلك حدث مع مجلس الحكم وحكومة اياد علاوي التي سارع اعضاؤها بعد الخروج من السلطة إلى المطالبة بالانسحاب بل والحوار مع"المقاومة العراقية". ويبدو ان قوى السلطة الرئيسية في العراق تلاقت مع وجهة النظر الاميركية التي عبرت عنها تصريحات مسؤولين اميركيين اظهروا أخيراً مرونة اكبر في التعامل مع قضيتي الحوار مع المسلحين وجدولة الانسحاب. وفيما بدت المؤشرات الاميركية الداخلية وتحديات مرحلة ما بعد غزو العراق اضافة إلى الخسائر المادية والبشرية المتواصلة عوامل ضغط ساعدت في اطلاق الولاياتالمتحدة اشارة الانطلاق لمغادرة العراق ربما إلى دولة اخرى، فان حلفاء اميركا المحليين ظهروا في حرج شديد امام تحديات مرحلة الانتخابات بعد تجارب لم تكن ناجحة في نظر الشارع العراقي الذي سرعان ما ربط فشلها بالمشروع الاميركي من جهة وافتقارها إلى الكفاءة. الحكومة العراقية التي كانت قدمت طلباً رسمياً لتمديد مهمة القوات المتعددة الجنسية كان مثار جدل لعدم الرجوع فيه إلى موافقة الجمعية الوطنية، كانت هي الاخرى مستعدة لتوقيع جدولة للانسحاب عبر قراءتين منفصلتين، تتعلق الاولى باشارات اميركية تشجع على ذلك والثانية لضرورات انتخابية فرضها ضعف الاداء الحكومي. فالاحزاب الشيعية الرئيسة التي حصدت حصة الاسد في البرلمان السابق وجدت نفسها امام تحد خطير تجاه شارع انتخابي لا يمتاز بالثبات، ويقيس الامور بمقاييس حياته اليومية التي لم تتمكن تلك الاحزاب في فترة حكمها من تحسينها بل زادتها سوءاً. ولا يمكن بأي حال فصل كل ذلك عن التحالف الانتخابي الاضطراري بين الاحزاب الشيعية الرئيسة في السلطة،"حزب الدعوة"و"منظمة بدر"و"المجلس الاعلى"و"حزب الفضيلة"والمستقلين، وبين التيار الصدري الذي استثمر زخمه الجماهيري الكبير غير المختبر انتخابياً وانحسار التأييد الشعبي للاحزاب القادمة للتحالف معه لفرض شروطه على حلفائه. ولم تكن الاحزاب الشيعية الحكومية بقيادة الحكيم والجعفري مستعدة لبناء مواقفها السياسية تجاه قضية حساسة كالمطالبة بجدولة الانسحاب استناداً إلى شروط الصدر، أو بعبارة اخرى، لم تكن مستعدة لتجيير رضوخها لمبدأ جدولة الانسحاب لمصلحة"الصدريين"في القائمة التي يكثر الجدل حول مستقبلها في ضوء تباعد المواقف بين اطرافها. لكن مناسبة كمؤتمر وفاق وطني تشارك فيه كل القوى ستكون اكثر قبولاً لدى الناخبين المعارضين تحقق المعادلة بين ضمان التمسك بعجلة القيادة في الائتلاف والموافقة على مطالب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر وانصاره القادمين بقوة إلى المرحلة المقبلة ما يهدد وزن الشخصيات السياسية في قائمة الائتلاف الحالية. أما الطرف الكردي الاكثر التصاقاً بالطروحات الاميركية فوجد ان متغيرات المرحلة تتطلب تحركاً يضمن مسافة متساوية من الاطراف المختلفة، وبالتالي استمرارية مكاسب الدستور التي تضمن له اقليماً يتمتع بصلاحيات واسعة في كردستان وآفاق مفتوحة لضم محافظة كركوك إلى ذلك الاقليم اضافة إلى تمثيل حكومي رفيع المستوى لا يقل عن منصب رئيس الجمهورية، في ظل برلمان يتوقع له ان يكون اقل تمثيلاً للاكراد من سابقة. معركة الصياغة الجلسة الاولى لمؤتمر القاهرة لم تكن تبشر باتفاق قريب، بسبب خطبة الجعفري المرتجلة التي اثارت حفيظة الشيخ حارث الضاري وعدد من الحضور وتباين كلمات الافتتاح تجاه القضيتين الاكثر حساسية: المقاومة وجدولة الانسحاب. لكن المداولات المغلقة التي تلت جلسة الافتتاح اثبتت ان بنود البيان الختامي كانت مثار اتفاق بين الاطراف كافة وان الخلاف تركز على طريقة الصياغة ودلالاتها. وأثارت الصياغة الاولى الخاصة بتعريف المقاومة لتؤكد انها"حق مشروع للشعب العراقي في ظل الاحتلال، الا ان الارهاب لا يمثل المقاومة"الطرفين الكردي والشيعي في جلسة اليوم الثاني، وكانت طروحات ممثليهما تركز على ان الاعتراف بالمقاومة سيخلق مشكلة قانونية وسياسية واخلاقية للحكومة العراقية التي طلبت تمديد بقاء القوات المتعددة الجنسية، ولم يكن في مقدورها عملياً ان تدعم العمليات التي تستهدف تلك القوات او تعترف بها او تباركها. معركة الصياغة التي استمرت اكثر من سبع ساعات، وتخللتها اجتماعات مغلقة جمعت الاقطاب الرئيسة للكتل العراقية المشاركة، كادت ان تقود اكثر من مرة إلى انسحاب احد الاطراف من المؤتمر. لكن الصياغة النهائية التي تصدى لها الامين العام للجامعة العربية ومستشار الرئيس الجزائري عبد العزيز بلخادم انتجت نصاً قابلاً للتأويل والتفسير من دون ان يثير حفيظة احد يؤكد"ان المقاومة حق لكل الشعوب، لكن الارهاب لا يمثل المقاومة"بما انقذ المؤتمر من فشل كان متوقعاً حتى اليوم الاخير لانعقاده. والصياغة تداخلت ايضاً في النص المتعلق بجدولة الانسحاب بعد خلاف على طبيعة تناول المطالبة وآلياتها والاسس القانونية المستندة لها قبل الاتفاق على احلال كلمة"الاحتلال"في النص الأول المقترح محل"القوات المتعددة الجنسية"، إضافة الى ربط الجدولة الزمنية ببناء القوات الأمنية العراقية. وبصرف النظر عن الصياغات فان نقطة التحول التي شهدها المؤتمر تمثلت في جدولة الانسحاب والإشارة الى المقاومة إضافة الى تكريس الحوار وتعهد المشاركين تجنب الاتهامات ناهيك عن اعتراف رسمي حكومي بضرورة مكافحة عمليات القتل والخطف ذات البعد الحكومي واعتراف الجهات المعارضة بأن الإرهاب أمر واقع في العراق يجب مكافحته. المقاومة ويجمع المراقبون على ان المداولات الجانبية التي حفل بها الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي كانت على قدر كبير من الأهمية مع انها جرت بقدر مشابه من السرية. ويرى قريبون من الاحداث ان التقاليد السياسية ليست على قدر كبير من النضوج لدى الاحزاب والقوى العراقية وان اللقاءات الشخصية والمبادرات القبيلية والالتزامات الدينية لها دور مؤثر في تحديد مواقف القوى من بعضها بعضاً، وهذا ما عكسته جلسات الصلح بين عدد من المشاركين. اما الحضور الأكثر سرية فكان لممثلين عن مجموعات مسلحة عراقية اختاروا فنادق بعيدة عن مركز المؤتمر لمراقبة ما يجري واجراء اتصالات تشمل طرح وجهات نظرها وشروطها للدخول في العملية السياسية. وعلى رغم ان الواقع الفعلي على الارض داخل العراق كان منفصلاً عما يجري في القاهرة من خلال استمرار العمليات العسكرية وتواتر العنف، الا ان خيوطاً للاتصال كانت تجري في الواقع لتربط بغدادبالقاهرة على موجة واحدة كانت المجموعات المسلحة هذه المرة احد اطرافها. ولم يعترف ممثلو هذه المجموعات، بصرف النظر عن الجهات التي يمثلونها او وزنها العسكري الفعلي على الارض، بمؤتمر القاهرة ولا بمقرراته ووصفوا وجودهم بأنه للمراقبة وليس للمشاركة. لكن هذا الوجود، وان بصورة غير رسمية، كان ذا دلالات خاصة وأضفى على المؤتمر ابعاداً اكثر عمقاً ما عد مدخلاً لحصول توافق حقيقي على اسس التنازلات المتبادلة بين الاطراف كافة، وهو ما كان في باب المستحيلات خلال المرحلة الماضية.