سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
العراق في 2004 وعلى أبواب سنة يفترض ان تكون حاسمة لمصلحة الاستقرار والنظام الجديد لدولة ما بعد صدام تلاحم شيعي يضاهيه تماسك كردي و"البعث" يصادر ارادة الوسط السني وانتخابات حاسمة على الأبواب و... أمور أخرى
مع دخول العام 2003 مرحلة الاحتضار، تحديداً في 13 كانون الأول، أعلن الحاكم المدني السابق للعراق بول بريمر في مؤتمر صحافي في بغداد اعتقال الدكتاتور السابق الفار صدام حسين. العثور عليه في حفرة وعرض مشهد اعتقاله عبر شاشات التلفزيون في اليوم التالي، شكلا صدمة للعراقيين وللعالم كله. ليس فقط بسبب رمزية المشهد المتمثل في تلك النهاية الحقيرة لمن كان مالىء الدنيا وشاغل الناس بجرائمه وسلوكه الجنوني، بل لأن اعتقاله شكل، كما اعتقد الكثيرون، بداية النهاية لمرحلة ما بعد إطاحة النظام الصدامي والعمليات الارهابية، الأمر الذي عزز أمل العراقيين بأن الاستقرار قادم وأنهم سيحتفلون بعد أيام بالعام 2004 الجديد السعيد. لاحقا، في الأول من تموز، مثل صدام أمام المحكمة الخاصة في بغداد حيث وُجهت اليه رسميا تهما عدة منها ارتكاب جرائم حرب وغزو الكويت. ما حدث بعد اعتقال صدام كان العكس تماما إذ شهد العام 2004 تصعيدا متواصلا لأعمال العنف، سواء عبر المواجهة مع قوات التحالف أم بالارهاب المستهدف للمدنيين والبنية التحتية العراقية. وبينما كان بريمر والقادة العسكريين الاميركيين ومعهم بعض السياسيين العراقيين في مجلس الحكم وخارجه يواصلون القول إن عمليات المواجهة والارهاب يقودها وينفذها أجانب ابرزهم شقي اردني إسمه أحمد الخلايلة تحول "مجاهدا" باسم أبو مصعب الزرقاوي، فإن القيادة المابعد صدامية أصدرت أول بيان لها للعام 2004، تحديدا في الثالث من كانون الثاني، إعتبرت فيه أن من السذاجة الإعتقاد بأن وقوع"الأمين العام"صدام حسيم في"الأسر"سينهي"المقاومة"وأعلنت أن حزب البعث هو الذي يقود ويدير"المقاومة". يُشار الى أن الإصرار على ربط اعمال الارهاب والمواجهة بقيادة الزرقاوي حصراً استمر حتى معركة الفلوجة الأخيرة تقريباً. ومنذ فترة قريبة فقط أخذت القيادات العسكرية الأميركية والسلطات العراقية تركز على الدور الرئيسي للبعث الصدامي الذي يشمل النخب المتمرسة في الحزب والحرس الجمهوري والحرس الجمهوري الخاص وفدائيو صدام والأجهزة الأمنية والأستخباراتية السابقة. ولعل أبرز دليل على الدور القيادي للبعثيين تمثل في التطورات التي أحاطت معركة الفلوجة الاولى في نيسان ابريل الماضي إثر الجريمة البشعة التي راح ضحيتها أربعة أميركيين في المدينة المتمردة. يومها فشل الأميركيون وناصحوهم من العراقيين في فهم الواقع إذ اعتبروا ان الاستعانة بضباط بعثيين سابقين من الحرس الجمهوري ممن ينتمون الى عشائر الفلوجة من شأنه أن يهدىء سكانها ويقنعهم بالنيات الحسنة للقوات الاميركية التي ظلت تعتقد ان الخطر الأكبر يأتي من الزرقاوي. وتوقع الأميركيون بسذاجة بالغة أنهم ربما يستيطون بذلك كسب عقول وقلوب الفلوجيين. وكانت النتيجة أن"لواء الفلوجة"البعثي حول المدينة حصناً عسكرياً، وبالتالي قادت التطورات اللاحقة بعد ثماني شهور الى كارثة الهجوم المدمر على الفلوجة في مطلع تشرين الثاني الماضي. ولعله بات تحصيل حاصل تاكيد أن الكادرات البعثية والعناصر المهمة في الأجهزة الأستخباراتية والأمنية السابقة التي لم تتعرض عمليا لأي قمع بعد إطاحة صدام هي التي تقود"المقاومة"فعلياً وتنسق مع الجماعات الارهابية الوافدة. ولعل أهم نجاح لهذه"المقاومة"هو انها استطاعت مصادرة ارادة الوسط السني العربي واستقطاب أهله وبالتالي عزلهم عن العملية السياسية في العراق التي ستجسدها العملية الانتخابية. وواضح أن الحسابات مبنية على اساس أن الحكم في بغداد سيبقى مشلولاً طالما ظل"المثلث السني"خارج هذه العملية اياً تكون نتائجها. بروز دور البعثيين لكن هذه الحسابات قد ترتد في النهاية على من يراهنون عليها بكل ما يمكن ان يسفر عنه ذلك عواقب وخيمة على العرب السنة، وأقلها تكريس عزلتهم عن مراكز الحكم لسنوات طويلة، خصوصا إذا أخذ في الأعتبار أنهم لا يشكلون سوى نسبة صغيرة قياساً الى الشيعة الذين يشكلون غالبية السكان في العراق. في غضون ذلك وحتى الان سقط آلاف القتلى والجرحى في مواجهات وتفجيرات انتحارية وعمليات ارهابية استهدفت كل شيء: مدارس ومستشفيات ومراكز للشرطة ومقرات احزاب ومكاتب شركات أجنبية وعراقية وانابيب للنفط ومحطات للكهرباء ووزارات ومؤسسات أخرى ومداخل المنطقة الخضراء التي تضم في قلب بغداد رئاستي الدولة والوزراء والمجلس الوطني برلمان غير منتخب والسفارة الأميركية. والواقع أن بروز دور البعثيين في قيادة المواجهات والعمليات الارهابية جعل كثيرين يعتبرون انهم ربما انتزعوا المبادرة، وهو اعتقاد تعززه حقيقة أن استراتيجية قوات التحالف باتت تعتمد مبدأ رد الفعل. والحقيقة الأخرى هي أن قوات التحالف لا تمتلك العدد الكافي للانتشار في مناطق شاسعة من البلاد. ومن الواضح ايضا أن البعثيين يستغلون غياب قوة عسكرية عراقية يرافقها نقص أكيد في القدرات الاستخباراتية واللوجستية الوطنية التي لا يمكن بدائلها في قوات التحالف أن تعوض عنها للسبب البسيط الذي يعبر عنه تماما المقولة التقليدية"ما حك جلدك مثل ظفرك". تدهور الوضع الأمني اتخذ اشكالاً عدة تمثل في استهداف قوات التحالف والسفارات الاجنبية والمنظمات الدولية غير الحكومية، وتفجير السيارات المفخخة، وتنفيذ عمليات اغتيال لمسؤولين وناشطين سياسيين ومدنيين بذريعة تعاونهم مع قوات الاحتلال، وتفاقم ظاهرة خطف الأفراد، أجانب وعرب وعراقيين وذبحهم على الطريقة"الإسلامية"وتصويرها في أشرطة فيديو كي تعرض لاحقا عبر فضائيات عربية وعلى الإنترنت. في غضون ذلك بدأ مع مطلع العام 2004 تنشيط العملية السياسية من خلال مجلس الحكم الموقت تنفيذاً لقرار مجلس الأمن نقل السلطة وتشكيل حكومة عراقية موقتة. ومع قرب انتقال السلطة شهد مجلس الأمن توترا بين أعضائه من جهة، وبريمر من جهة أخرى، حتى بلغ الذروة عشية انتهاء مهمته بحلول الثلاثين من حزيران يونيو. هنا احتدم الجدل الداخلي عبر مناورات سياسية وبروز استقطابات وتحالفات في الطريق نحو نقل السلطة الى العراقيين في تزامن مع مهمة الأخضر الإبراهيمي مبعوثاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة. وهي مهمة اسفرت عن نتائج غير متوقعة تماماً أعتبرت في حينها تحدياً من جانب مجلس الحكم للابراهيمي وبريمر. من بين هذه النتائج صعود نجمي الرئيس غازي الياور ورئيس الوزراء أياد علاوي، وفي المقابل أفول نجم رئيس المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي وتدهور علاقاته مع الادارة الاميركية وأصدقائه في أوساط المحافظين الجدد في واشنطن. ومن النتائج الأخرى فشل الأكراد في مساعيهم من أجل الحصول على أحد المنصبين السياديين، رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. كما أدت المناورات في اللحظة الأخيرة الى إحباط مساعي المرشح الأقوى للرئاسة عدنان الباجه جي لمصلحة الياور. لكن على رغم ذلك لم تكن مكاسب الاكراد في السلطة الجديدة قليلة. فكان لهم النائبان، لرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، ووزارة الخارجية إضافة الى المجلس الوطني الذي يعتبر بمثابة برلمان موقت غير منتخب. وكان الأكراد حصلوا قبل ذلك على مكاسب أهم تمثلت في قانون ادارة الدولة الذي يعتبر بمثابة الدستور الموقت للعراق ونص على اعتبار الكردية لغة رسمية الى جانب العربية، واعترف بالوضع القائم في المناطق الخاضعة للادارتين الكرديتين في شمال البلاد. وأخيرا، وهو الأهم في نظر الأكراد، تضمن القانون فقرة منحت الأكراد عمليا حق النقض الفينو لرفض أي دستور دائم يضعه مجلس تأسيسي منتخب حتى إذا تم اقراره في استفتاء عام. هذه الفقرة الأخيرة في القانون لم تمر بسهولة. فقد هددت اعتراضات قوية من جانب الشيعة بزعامة أكبر مراجعهم، أية الله العظمى علي السيستاني، بإحباط مرور القانون جملة وتفصيلاً. لكن الجماعات الشيعية الممثلة في مجلس الحكم تراجعت في النهاية ووافقت على القانون من دون أن يعني ذلك نهاية للجدل في شأنه. الفقرة المعنية 58 في القانون تمنح سكان أي ثلاث محافظات الحق في رفض الدستور الدائم في حال صوت ضده ثلثا المقترعين في هذه المحافظات. والأرجح أن الجدل الكردي - الشيعي سيتجدد بقوة أشد من السابق في المجلس الوطني الذي من المقرر انتخابه في الثلاثين من كانون الثاني عام 2005. السيستاني لاعب ومحرك ليس مبالغة القول إن التطورات السياسية خلال العام 2004 ابرزت الى مقدمة المسرح شخصية السيستاني لاعباً ومحركاً رئيسياً للاحداث ليس في نطاق الطائفة الشيعة فقط، بل على صعيد العراق كله. الحدث الذي رسخ بقوة نفوذ السيستاني تمثل في دوره احتواء عالم الدين الشاب، المتطرف والمتقلب، مقتدى الصدر الذي خاض مواجهات مسلحة مع قوات التحالف في مدينة الصدر في بغداد والنجف ومدن أخرى في الجنوب الشيعي. المواجهة في النجف سبقها قرار مدروس اتخذه السيستاني بمغادرة المدينة المقدسة عند الشيعة والسفر الى لندن ل"العلاج الطبي". وقبل ذلك وبعده لم ينتقد السيستاني التحرك العسكري الاميركي ضد الصدر، بل فضل أن يحمل الأخير مسؤولية العواقب الخطيرة التي كان يمكن ان تنجم عن هجوم وشيك على على مسجد الإمام علي ابن ابي طالب الذي تحصن فيه الصدر. وإذ كانت القوات العراقية الحكومية تتهيأ لشن الهجوم بالفعل قرر السيستاني فجأة العودة الى النجف لحل الأزمة سلماً. وما ان وصل الى النجف حتى تحركت الامور بسرعة مؤدية الى رضوخ الصدر، الذي كان قد استنفد عملياً كل خياراته، للامر الواقع فوافق على انهاء المواجهات العسكرية ومغادرة النجف. ومنذ ذلك الوقت تعين على الجماعات الشيعية كلها أن تعترف، راغبة أم مكرهة، بان السيستاني أصبح راعيا دون منازع للبيت الشيعي العراقي. وكان"البيت الشيعي"تشكل في عهد مجلس الحكم وضم الجماعات الممثل للطائفة في المجلس. وبعد نقل السلطة وتشكيل الحكومة العراقية برئاسة علاوي بدأ مركز الجلبي يتزعزع بعدما أخذ اصدقاؤه الأميركيون يتخلون عنه نتيجة لانقلابه عليهم حتى انهم اتهموه بنقل معلومات سرية الى ايران. واصدر قاض عراقي أمراً باعتقاله في حال دخوله العراق عائداً من طهران. غير ان الضغوط عليه خفت بفضل تدخل علاوي وتحركات أخرى. لكن هذه التطورات لم تستطع ايقاف الجلبي عن مواصلة نشاطه ولو بهدوء ومن دون ضجيج هذه المرة حتى نجح في أن يلعب دورا مهما في تشكيل"المجلس السياسي الشيعي"الذي تحول قاعدة سياسية قوية للجماعات الشيعية، اسلامية وغير اسلامية، بما فيها حركة الصدر. وبات واضحاً أن على بقية الجماعات العراقية ان تتعامل مع واقع جديد يتمثل في أن الشيعة لن يكرروا الخطأ التاريخي الذي ارتكبوه في العشرينات من القرن الماضي بعدم المشاركة في العملية السياسية الأمر الذي افسح في المجال لسيطرة الأقلية السنية العربية على العراق لأكثر من ثمانية عقود ملحقة بالعراق كارثة بعد أخرى. والحق أن هذا التماسك الشيعي، الذي لا يضاهيه سوى التماسك الكردي عراقياً، لم يكن ممكناً لولا دور السيستاني الذي يعود اليه فضل اتفاق الجماعات الشيعية على خوض الانتخابات المقبل ضمن قائمة واحدة سميت"الأتلاف العراقي الموحد"، وتضم أحزاباً وحركات وشخصيات متعددة الاتجاهات والافكار، لكن يجمعها قاسم مشترك يمكن تعريفه ب"الهوية"الشيعية. بعبارة أخرى يمكن اعتبار هذا الوفاق الشيعي بمثابة"الأعلان"الثاني لشيعة العراق. وكان الأول صدر في حزيران 2002 إثر مداولات استمرت شهوراً بين مفكرين ومثقفين شيعة عراقيين في المهجر ووقعها مئات من الشخصيات الدينية والعلمانية. وكان تلك المرة الأولى التي سعى فيها شيعة العراق الى صياغة مفهوم للهوية الشيعية ورسموا رؤية لموقعهم في عراق ما بعد صدام. في مقابل التلاحم الشيعي ظهر التماسك الكردي واضحاً، وهي في الواقع ازداد قوة مع مرور الوقت منذ اتفاقهم في كتلة واحدة ضمن مجلس الحكم السابق. ويبدو ان الاكراد باتوا يدركون أن حجم التحدي الذي باتوا يواجهونه في العراق الجديد يفوق بكثير حجمه قبل سقوط نظام صدام حسين. هكذا استمر التعاون والتنسيق وثيقين بين الحزبين الرئيسيين وبدا انهما تفاهما على كل المسائل الرئيسية التي تعزز مواقعهم وقدرتهم على الدفاع عن مصالحهم بعد الانتخابات، فتقدموا بقائمة انتخابية موحدة على صعيد العراق، فيما سيتنافسون على صعيد الانتخابات للمجلس الوطني لاقليم كردستان. الى ذلك شمل التنسيق تفاهما على المطالبة بأحد المنصبين السياديين في بغداد بعد الانتخابات لأحد الزعيمين الكرديين، فيما يصبح الثاني زعيما لأقليم كردستان. الأكراد ومشكلة كركوك والواقع أن مواجهة التحديات أمام الأكراد ستكون أسهل لولا مشكلة كركوك بتركمانها وأكرادها وعربها. فكركوك تركمانية وكانت كذلك دائماً... يقول التركمان. بل هي كردية، أو لنقل مدينة للتآخي، لكنها قطعاً جزء لا يتجزأ من جغرافية كردستان... يرد الأكراد. لا، يدخل العرب على الخط، نحنالذين نشكل غالبية سكان كركوك، على حد ما صرح به أحد ممثليهم الرئيسين في مجلس المحافظة. قضية كركوك إذن ساخنة وتزداد سخونة مع اقتراب الإنتخابات. حل الأزمات في عالمنا المعاصر يكاد يصبح علما له أصوله وقواعده. لكن يمكن في الواقع القول إن هناك في النهاية ثلاثة أنواع: الأول جيد والثاني سيء لا بد منه والثالث أسوأ. الجيد هو أي حل تتفق عليه أطراف النزاع وترضى به حتى لو كان سيئا. والسيء هو حل يفرضه الخارح وتقبله الأطراف على مضض لأن البديل كارثة وإراقة دماء. أما الأسوأ فهو حل يمر عبر العنف والحرب الأهلية بعدما يتمسك كل طرف بمبدأ "كل شيء أو لا شيء". لكن فيما المتنازعون يحذرون من العواقب الوخيمة لعدم التوصل الى حل لكركوك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل استطاعت أطراف النزاع تقديم أي مشروع لحل عملي وواقعي لكركوك؟ هل قدم أي طرف حتى الآن "خريطة طريق" أو أفكارا للحوار، كي لا نقول للتفاوض، في إطار "عملية سلمية" مثلا؟ هل دعا أحد من التركمان أو الأكراد أو العرب الى مؤتمر جدي للبحث في حل للمشكلة؟ ومع الانتخابات تأخذ المشكلة بعدا جديدا يتمثل في اتجاه الأكراد الى مقاطعة انتخابات مجلس المحافظة في حال لم يتم تأجيلها كما طلبوا. وهم يقولون إن الغالبية الساحقة من عرب كركوك مستوطنون وبقاؤهم يعني أن التوازن الديموغرافي يبقى متخلخلاً لمصلحتهم على حساب الأكراد الذين لم يعد حد الآن عشرات الألاف منهم الى كركوك التي رحلهم منها نظام صدام خلال العقدين الأخيرين. ويعتبر الأكراد أن مشاركتهم في انتخابات مجلس محافظة كركوك سيكون بمثابة الاعتراف بالأمر الواقع، الأمر الذي يستحيل أن يفعلوه. ها هو إذن العام 2004 يقترب من نهايته المحتومة. وقد يقول لسان حال بعض العراقيين إن هذا العام سيمضي غير مأسوف عليه لكثرة ما شاهدوا خلاله من مآس وكوارث. هذا صحيح. لكن عراقيين آخرين سيقولون إنه أيضا العام الذي مثل فيه صدام حسين أمام قاض عراقي شاب وجه اليه تهما بارتكاب جرائح حرب وهو يقبع في السجن انتظارا لمحاكمته بموجب هذه التهم. ويضيفون أنه كذلك يمكن اعتبار 2004 العام الذي شهد انتقال السلطة، ولو منقوصة، الى العراقيين أنفسهم في شراكة بين جماعاتهم لم يعرف العراق مثلها منذ تأسيسه قبل ثمانية عقود. وهو أيضا العام الذي شهد ميلاد حكومة ائتلافية انتقالية إعترفت بها الأسرة الدولية على رغم كل شيء. إنه العام الذي عقدت فيه مؤتمرات دولية واقليمية للبحث في سبل دعم العراق اقتصاديا وامنيا، وهو العام الذي قرر فيه نادي باريس شطب 80 في المئة اميركا شطبتها 100 في المئة من الديون التي تسبب فيها النظام السابق. إنه العام الذي انتظمت فيه أمور مهمة أخرى كثيرة، لكن أخبارها ضاعت في غبار الخبر الأمني. العمل انتظم في مكاتب الجوازات وأصبح كل عراقي قادر الآن، للمرة الأولى في تاريخ البلد، على أن يحصل على جواز سفر خلال 48 ساعة من دون تزكية من حزب البعث وأجهزة المخابرات. يسافر متى شاء والى اين يشاء. علما أن نسبة القادرين على السفر تزداد في استمرار مع التحسن المتصاعد الأوضاع المعيشية بعض موظفي الدولة ارتفعت معاشاتهم مقارنة بعهد صدام نحو عشرين ضعفا. إنه العام الذي لم تستطع حكومة عراقية أن تقمع العراقيين وحرياتهم وصحافتهم وإذاعاتهم وتلفزيوناتهم وأحزابهم. وهو أخيراً، لا آخراً، العام الذي لم تقع فيه حرب أهلية في العراق، كما تمنى كثيرون، لكن بدلاً من ذلك أكمل العراقيون استعداداتهم لأجراء أول انتخابات تعددية حرة في تاريخهم سيخوضونها مباشرة بعد انتهاء مراسم التوديع للعام 2004 الذي تبقى، في محصلته، حسناته تفوق شروره. * كاتب سياسي عراقي.