في تناول العراق اليوم، تنتصب وجهة نظر تحكّمت بالصادقين من أصحابها الثنائيةُ الإطلاقية إياها، ذات المصدر الديني. فهي تضع الاحتلال في خانة الشر، والمقاومةَ في خانة الخير، لمجرد كونهما احتلالاً ومقاومة. وهذا لا يُقال لإثارة أي إيحاء مقبل، كأن يكون الاحتلال خيراً والمقاومة شراً، بل لاستبعاد هذه الثنائية القطعية كُلاً، والانكباب على درس الوضع المعني، مطلق وضعٍ، بعينه وشروطه. والحال أن موقّع هذه الأسطر إذ يميل الى رفض الحرب التي نجم عنها الاحتلال الأميركي للعراق، ويستبعد أن تكون لأي احتلال حظوظ وديمومة بعد انقضاء عشرات السنين على الاستقلالات، وبعد تحولات ديموغرافية مصحوبة بشيوع أفكار شعبية وشعبوية عن المساواة، استبعاده وجود نيات جدية في التحديث والديموقراطية عند الادارة الأميركية الحالية، لا يمكنه افتراض أن حالة كالاحتلال الراهن قابلة للعلاج بافلوفياً بهذه المقاومة. وهذا، بالتأكيد، ليس من قبيل سعي خبيث الى تجميل الأول، بل بهدف موضعته في منطقة من الجدّ والتعقيد اللذين ينقلان المسألة برمتها من الإدانة والتمجيد الى المأزق: مأزق استحالة الاحتلال وبؤس المقاومة. ذاك أن مناقشة أي منهما لا ينبغي أن تعفّ عن ربطهما بالشروط التاريخية والاجتماعية التي تحفّ بهما إنتاجاً وفعلاً وتأثيراً، فتنأى عن النظر اليهما بذاتهما كمجرد احتلال شرير تعريفاً، ومجرد مقاومة خيّرة بقوة التعريف نفسه. وتناول كتاب جون دبليو دوير، الذي ربما كان الأهم في دراسة يابان ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي يابان الخضوع للاحتلال الأميركي، محكوم بغرض واحد هو محاولة تحرير المعنى الذي يرتديه الاحتلال والمقاومة استطراداً. فالفارق، على ما سوف نرى، بين اليابانوالعراق أكبر من أن يوحّده "الاحتلال"، أنظرنا اليه نظرة إيجابية على ما فعل "المحافظون الجدد" الأميركيون فاستغلق عليهم الفارق بين البلدين، أو بين أي مجتمع ومجتمع آخر، أم نظرنا اليه نظرة سلبية على ما يفعل خصوم الاحتلال الأميركي، لمجرد أنه احتلال أميركي، بحيث يستحيل عليهم إدراك السبب وراء تحقيق اليابان الإفادة التي أفادتها من احتلال كهذا. إذ كيف يفضي الاحتلال، لا سيما متى كان أميركياً، الى تقدم ومنافع؟! لقد صدر كتاب "معانقة الهزيمة: اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية" نورتون/ ذي نيو برس، 1999، ليقول، بين أمور أخرى، إن البلد الذي ضُرب بقنبلتين نوويتين أميركيتين من دون أن يكون لهما، بالضرورة، غرض عسكري، إنما "عانق" هزيمته شرطاً للخروج منها. وعناق كهذا قصته مديدة ومعقدة ومتناقضة. ففي البداية جادل بعض الرسميين اليابانيين المحافظين من بيروقراطيين وسياسيين وديبلوماسيين وأساتذة قانون "ليبراليين"، بأنه لا بد من إصلاحات صغرى تتعايش مع التقاليد المحلية القديمة، إذ لا بد من ان تفضي سياسات الاصلاح الراديكالي الى كارثة. وقد ربط هؤلاء بين تغيير من هذا الصنف وبين الشيوعية وبقية اليسار: ففي رأي بعضهم، وفي عدادهم نافذون، ان اليابانيين ليسوا مُعدّين لأن يحكموا أنفسهم، فيما القول بعكس ذلك دعاية يسارية. وبإسهاب يصف دوير تلك الجدالات التي توخّاها المحافظون لكبح الاصلاح الديموقراطي. فهم، مثلاً، رفضوا النص على حقوق مدنية في الدستور كما أشاعوا نظرية ان الديموقراطية لا تعمل في اليابان. وكانت المفاجأة أن الجنرال دوغلاس ماكآرثر، القائد الأعلى للقوات الحليفة، وهو الجمهوري والمحافظ، اختار أن يتجاهل الكثير من هذا ملتفتاً الى دعم الليبراليين واليساريين ومؤيدي "النيو ديل" لخططه في جعل اليابان ديموقراطية مسالمة. وبالفعل، فخلال أشهر على استقرار قيادته في طوكيو، أُطلق سراح المساجين الشيوعيين، ما دفع الرجعيين الى التشكيك بحكمة الأميركيون وحصافتهم. لكن ما يرسخ، في آخر المطاف، أن الديموقراطية الدستورية تحققت، تحديداً، في ظل ديكتاتورية عسكرية أميركية. ففي ذروة التألّق الديموقراطي والانجازي، كانت اليابان تخضع لسيطرة أميركية كاملة شاملة لا تناقضات في داخلها، ولا تتيح فرصة للتعبير عن تناقضات القوى المحلية معها. ولم يختر العسكر الأميركي الأحزاب السياسية واجهة لحكمه، فاكتفى بالحصول على تأييدها بعدما أتاح لها فرصة النشاط الشرعي، بل يمّم بصره شطر البيروقراطية اليابانية المدنية التي جمعت الكفاية الى ضيق الأفق، فجُعلت أقوى مما كانت في عز الحرب. ذاك أن الحرب لم تمسسها، وجاءت تصفية وزارتي الحرب، أي الجيش، والبحرية لتخدمها. صحيح أن تبعية من نوع ما فرضت نفسها، فتخلت اليابان عن حقها السيادي في الذهاب الى الحرب، او حتى الاحتفاظ بقوات مسلحة على نحو يسمح لها بحماية نفسها وجيرانها، مما تولته الولاياتالمتحدة بطريقة لا يسع اليابانيين أن يراقبوها أو يتدخلوا في مجرياتها. لكنْ، وبما يجافي الثنائيات المقدسة البسيطة، أمكن إنفاذ الاصلاح الزراعي سريعاً فنُزعت ملكيات واسعة من الملاّك الزراعيين، وألغيت ألقاب النبالة وامتيازاتها. كذلك أعطيت المرأة حق الاقتراع، وسُن دستور جديد يعتمد مبدأ السيادة الشعبية، كما نُص في القانون على مأسسة حقوق الانسان والمساواة بين الجنسين، وتم تغيير المناهج التعليمية فنُظّفت الكتب الدراسية من كل الفقرات المعتبرة اقطاعية أو ذات نزعة عسكرية، وخضع رموز الحرب للتطهير، فيما حظيت الحركة النقابية بتشجيع ملحوظ وحُلّت "الزايباتسو" أو الاحتكارات الصناعية. ومعانقة الهزيمة لم تتجلّ في السياسة فحسب. فدوير وضع يده على المزاج الياباني الملوّث، إنما الدينامي بطريقة استثنائية، لسنوات ما بعد الحرب، فدرسه في الأدب والأفلام السينمائية والأغاني وأشكال التعبير التي يمكن إدراجها في الثقافة الشعبية والسُفلية. ذاك ان الحقبة المذكورة كانت زمن "الكتّاب الهوليغانيين الذين انغمسوا في السينيكية وكانوا يسكرون من مشروب قاتل يسمى كاسوتوري شوشو، وهو زمن مسارح الستريبتيز والفرق الراقصة الدوّارة والخليعة، وكان الوجه الأكثر رمزية في دلالته على المرحلة الأولى للاحتلال ما عُرف بفتاة البانبان ]والبانبان تعني الأميركي[، وهي المومس العاملة في خدمة قوات الحلفاء". وإذ يتحدث الكاتب عن الفتاة المذكورة بصفتها رائدة النزعة الاستهلاكية الجديدة، يلاحظ العلاقة المميزة التي ربطت بين الجنود والمومسات، ما عكس، في رأيه، هزيمة اليابانيين وتوازن القوى القائم. ذاك أن الجنود الأميركيين كانوا مكروهين، لكنهم كانوا أيضاً محسودين، وللهزيمة وذلّها طعم إيروتيكي دائماً. ولئن لجأت قيادة الحلفاء الى منع هذا النوع من الاتصال بين الشعبين ما بين 1947 و1949، الا أنه، في 1946، كان قُدّر ان 40 في المئة من العاملين تحت إمرة ماكآرثر لديهم صديقاتgirl friends يابانيات، كما حصلت حينذاك آلاف الزيجات المختلطة. فبطريقة مشوبة بمرارة الهزيمة، واختلاط أحوال اليابان بعد الحرب، آثر البلد المذكور أن "يتصل" بمحتله ويسعى الى مماهاته. وأهم من هذا، ربما، أن محتله أراد، هو الآخر، أن "يتصل" به. لكن المهزومين الذين حررهم الحلفاء من اضطهاد حكومتهم، لم يكونوا متعطشين للترفيه والاستهلاك فحسب، لكنْ كذلك للسياسة والأفكار والأدب الأجنبي والمسرح والسينما. وبدا، مع احتلالهم، كأن سداً قد انفجر وراحت تفيض الأفكار الجديدة عليهم، فتبدّى الشوق للمعرفة واسعاً وشاملاً. بالطبع وُجدت رقابة في ظل الاحتلال، وكانت تراقب خصوصاً ما يُعتبر نقداً للاحتلال نفسه. مع هذا نشأت حرية تعبير أكبر من السابق بما لا يُقاس نُظر اليها، عموماً، بصفتها مكسباً يستحق بذاته التثمين. والأهم أن اليابان، وهي تستقبل الوفادة الأميركية والديموقراطية، كانت مُعدّة للتماثل مع الغرب، لا بصفته سياسة بالضرورة، بل بصفته نمط حياة أساساً. وفي الحالات التي بدا معها أن الوصفين يتناحران، كان اليابانيون يغلّبون الوصف الثاني ويتواطأون على الأول أو يداورون فيه ويساومون. فعلى سائر مستويات المجتمع تقريباً، أيّد السكان الدستور الجديد بحماسة، وكان من الأسباب حجم الألم الناجم عن سنوات الحرب، لكن الأهم كان الرغبة المعلنة في طي صفحة العنف والاعتراف بهزيمة ترتبت على عدوانية يابانية أجمع الآسيويون، قبل الغربيين، على وصفها هكذا. فالتوسع في الخارج المرفق بالقمع الداخلي، مما يؤرخ لبدايته ب1931، ساق شعبه في 1937 الى الحرب الشاملة على الصين، ثم كانت بيرل هاربر في 1941 مُقحمةً اليابان طرفاً "أصيلاً" في الحرب العالمية الثانية. هكذا بلغ مجموع ما فقده اليابانيون، قبيل قصفهم بقنبلتي هيروشيما وناغازاكي، ثلاثة ملايين نسمة، بينهم مليون مدني، هم 4 في المئة من إجمالي عدد السكان. على أن العنصر الأفعل في الإعداد الياباني، وهو ما أدى الى توفير الدعم الشعبي الواسع للاصلاحات، كان التاريخ. فقبل عسكرة المجتمع في الثلاثينات، عرف البلد الأحزاب السياسية والاقتراع الشامل للرجال وعدداً ملحوظاً من الحقوق النقابية. وترقى الجذور الاصلاحية في تربةاليابان الى مئات التحركات وأعمال الاعتراض والاحتجاج باسم العدالة الاجتماعية، والتي بدأت بالظهور في أواسط حقبة سلالة توكوغاوا العسكرية - الاقطاعية 1603-1867، حين غدا صدّ التأثير الغربي مستحيلاً. والحال ان هذه السلالة التي وحّدت جزر اليابان، ثم رفعت شعار "إغلاق البلاد"، خاضت منذ القرن السابع عشر معركتها ضد "تغلغل" الارساليات الكاثوليكية، ما حدا بها الى تحريم المسيحية قبل أن تلجأ الى تحريم السفر الى الخارج. وفي أواخر تلك الحقبة، قام ضابط البحرية الأميركي الشهير الكومودور ماثيو بيري ب"فتح" اليابان للعالم، بعد إجبارها في 1853-54، على الدخول في علاقات تجارية وديبلوماسية مع ذاك العالم. وبُعيد 1868، حين تأسس عصر الميجي الراغب في تقليد "الغرب" ومبارحة "الشرق"، نشأت حركة "الحرية وحقوق الشعب" في سبعينات القرن التاسع عشر، ثم ظهرت حركتان عمالية ونسوية في تسعيناته. وفي الاتجاه نفسه من السعي الى التطابق مع "البيض"، اندرجت نتائج الانتصار في حرب 1904 ضد روسيا، فقرأها اليابانيون تماماً على عكس القراءة العربية لها بصفتها انتصاراً للتقدم على التخلف الآسيوي. وفي 1912، مع تولي تايشو، والد هيروهيتو، الامبراطورية، نشأ ما عُرف ب"ديموقراطية تايشو" التي دامت حتى وفاته في 1926، فتم توسيع حق الاقتراع الذكري تجاوزاً لبعض السدود الطبقية الحائلة، كما تعاظم الاعتماد على اجراءات دستورية، وإذ تعلمت النخبة عقد التحالفات وبناء الأكثريات النيابية، انعكس تحسن العلاقة بالولاياتالمتحدة وبريطانيا انفتاحاً على نظامهما الديموقراطي وإعجاباً به. وفي الفترة تلك ظهرت أصوات بورجوازية واشتراكية وشيوعية تجهر في تقديمها نفسها ومطالبها. ولئن لم تكن الحقوق السياسية والانتخابات جديدة على اليابانيين، كانت الليبرالية والماركسية من التيارات المألوفة في بعض الكليات الجامعية. وبالمعنى هذا، فالديموقراطية لم تغب عن اليابان، بل فشلت فيها، إذ انتكست مع ثلاثينات هيروهيتو والجيش. أما ثقافياً، فمع ان قلة من المثقفين هم الذين امتلكوا، في الثلاثينات، شجاعة التصدي المعلن للنزعة العسكرية، وُجدت درجة بعيدة من التأمل النقدي والشكّاك في التاريخ القومي الحديث. والى نسبة مرتفعة نسبياً من المتعلمين، فاق ما تُرجم من كتب أجنبية الى اليابانية ما تُرجم الى الفرنسية أو الانكليزية. فعندما انتهت الحرب في 1945، لم ينشغل اليابانيون كثيراً بترجمة الجسم الكلاسيكي من الفكر الغربي الليبرالي والثوري، إذ انكبوا، في المقابل، على إعادة طبع ما سبق ان ترجموه منها مما منعه عسكريو الثلاثينات. بيد أن راديكالية التغيير الذي اتبعته قيادة التحالف ظلت مضبوطة بحدود حملت البيئة الأكثر ليبرالية بين اليابانيين، كما الأميركيين، على انتقاد "المحافظة" التي تشوبها. فالمؤسسات السياسية التي تغيرت كثيراً، تغيرت أقل مما تعرضت له مثيلاتها في ألمانيا. وكان مما يُستشف من هذه الحقيقة المقارنة أن اليابان التي عرفت الحياة السياسية والمؤسسية أكثر بما لا يقاس من بلد كالصين، عرفتها أقل من ألمانيا قبل أن تستولي النازية عليها. وإذا صح أن حكومة طوكيو طُهّرت من أكثر دعاتها الحربيين فظاظة، ظلت البيروقراطية الى حد بعيد على ما كانت عليه، فغيّرت الوزارات أسماءها الا ان الطرق والكيفيات، لا سيما تلك التي كان فرضها اقتصاد الحرب، بقيت على حالها. ووُجدت هناك أسباب عقلانية، أو أقلّه واقعية، لسياسة كالتي اتبعها ماكآرثر في رسم حدود للتغيير. فاليابان التي لم تعرف أي معادل للنظام النازي، لم تكن مشكلتها إزاحة عدد من القادة الحزبيين من الحياة العامة، أو حتى من الحياة برمتها. لكن كيف تمكن محاسبة الموظفين الحكوميين، ووحدهم القادرون على تسيير شؤون البلد، حين تستحيل تصفية الحساب مع الرجل المسؤول عن كل شيء: الإمبراطور هيروهيتو نفسه؟ وما العمل، تالياً، بالثقافة اليابانية، لا سيما موضوعتها المحورية في "الطاعة والتراتُب"، مما أريد تحويله واستخدامه لمصلحة تمتين الوضع الجديد، وهو ما أثمر نجاحاً بيّناً؟ وكيف التعاطي مع الديانة الشنتوية التي تدور من حول الامبراطور ودوره، في ما لو حُمّل هذا الأخير المسؤولية التي ينبغي أن يتحمّلها، على ما تقتضي الحقيقة الفعلية؟ وأخيراً، واستطراداً، ماذا سيقول فارض الديموقراطية الأميركي لأكثرية شعبية قبلت ما لا يُعدّ من الاصلاحات، الا أنها لم تُطق المساس بالامبراطور؟ وكتاب دوير، في هذا، منحاز لنهج أكثر راديكالية وأشد نزولاً عند ما تقتضيه الحقيقة. ومن هنا يروح يكشف بالتفصيل كيف أن قيادة الحلفاء بحمايتها الامبراطور، زوّرت التاريخ الياباني واستغلت السياسات وتلاعبت بها، مثلما زوّرت العدالة ومحاكمات جرائم الحرب. فموقف ماكآرثر من امبراطور اليابان عكس، في رأي الكاتب، نوعاً من شيزوفرينيا سياسية أربكت اليابانيين. فقد أتاح لليبراليين نشر الديموقراطية وإشاعتها، لكنه أنصت أيضاً الى بعض أكثر أعضاء إدارته رجعية ممن شابهت آراؤهم آراء الرجعيين اليابانيين، ناصحين بحماية الامبراطور ورعايته. وكان مفاد فكرتهم توسيع الفجوة بين هيروهيتو وبين أصحاب النزعة العسكرية عبر تقديمه بصفته ضحيتهم البريء المحبّ للسلام. هكذا أمكن توجيه اللوم للجنرالات "السيّئين" وحدهم على المشروع التاعس الذي كانته الحرب. فهم، بحسب الرواية هذه وهي الرواية التي كُتب لها النصر، لم يكتفوا بتضليل الشعب الياباني المسالم بل ضللوا الامبراطور الباسيفي كذلك. وأغلب الظن أن تحليل دوير يمنح الأولوية لتأثير الآراء الرجعية الأميركية داخل سلطة الاحتلال، علماً أن السلطة نفسها، وكما رأينا، هي التي أقدمت على بعض أكبر الانجازات التقدمية في التاريخ الياباني. لكن الكاتب، في المقابل، يرفض الإقرار بحدود التغيير التي يمكن أن يصل اليها المجتمع الياباني بصفته مجتمعاً يقع في الوسط بين الصورة العنصرية الغربية عنه وبين حاله كمجتمع محافظ وغير أوروبي. وإقرار كهذا، وكما يسهل التقدير، يبدو تنازلاً لا يقرّه الصواب السياسي المسوّي بين قابلية أي مجتمع وقابلية أي مجتمع آخر. صحيح أن أحدهم، سكرتير ماكآرثر العسكري بونّير فيلّرز، أصدر خريف 1945، مذكرة تعلن ان "شعب اليابان، ممن يظنون أنفسهم إلهة، غير مدركين للديموقراطية ولا للمثالية السياسية الأميركية، كما أنهم لا يستطيعون فهمهما بالمطلق". وكان رأيه، كذلك، أنه "إذا ما حوكم الامبراطور على جرائم الحرب، فلسوف تنهار البنية الحكومية، فيما تغدو الانتفاضة العامة حتمية". وصحيح أيضاً أن التشاؤم بالديموقراطية وحظوظها هو ما وسم المزاج السائد لدى "الخبراء" الأميركيين بالشأن الياباني. بيد أن صياغة هذه التقديرات بلغة جوهرية وثبوتية لا تنفي المخاطر التي كان يمكن ان يرتّبها تجاوز السياسة الاصلاحية عتبة الامبراطور، والمادة التي كان سيوفّرها سلوك كهذا لدعاة الكرامة القومية المصطادين في مياه "ذل الاحتلال" الشعبوي. وقد يقال، وهو صحيح بمعنى ما، ان التعاطي مع هيروهيتو بتنزيهه عن الشوائب، بل تسمية ماكآرثر له "جنتلمان اليابان الأول"، يثيران امتعاضاً يقارب الغثيان. الا أن السلوك هذا بدا أشبه بضريبة تُدفع لتمرير برنامج إصلاحي واسع وعميق. فالموقف الايجابي من الإمبراطور أريد له أن يتبدّى إسباغاً ل"الاستمرارية"، وهي في صلب التكوين الثقافي التقليدي لليابانيين عهدذاك، على تغييرات مهولة حوّلت بلادهم تحويلاً نوعياً. غير أن انتصار الثورة الصينية في 1949 بما وتّر أجواء آسيا، ثم نشوب الحرب الباردة، انطلاقاً من كوريا، بعد عام واحد، شرعا يُحلان سياسات الصقور حيث حلّت قبلاً سياسات "النيو ديل". وبالمعنى هذا، جعل كثير من اليساريين والليبراليين ممن رحبوا بالأميركان كمحررين، يراجعون أنفسهم. وبالفعل ابتدأ فصل آخر لا يُحاكَم بموجبه الفصل السابق، فغدت الإضرابات العمالية تتعرّض للسحق فيما بوشرت تنحية اليساريين عن المناصب العامة، مثلما سُمح لبعض من كانوا مُصنّفين مجرمي حرب بالعودة الى وظائفهم. وحُوّلت الأمة التي كان نُزع سلاحها وأُعلنت أمة مسالمة، قاعدة عسكرية لقوات الحلفاء في كوريا. وبتغاضٍ ملحوظ أبدته الحكومة الأميركية، بدأ يتشكّل نظام محافظ جديد وظيفته فرض الاستقرار وتهميش اليسار. هكذا حُكمت اليابان على يد نخبة رجعية محاطة ببيروقراطيين يرشدونها، وبزعران يُخضعون النقابات على نحو شبيه بما عرفته ايطاليا في الفترة نفسها، في ظل المسيحيين الديموقراطيين والمافيا. وهنا، في هذه اللحظة، بدأ يتأسس نقد ديماغوجي هو من بعض العدّة الديماغوجية للحرب الباردة بطرفيها. فدُمج، مثلاً، بين نقد الاحتلال لأنه احتلال، وبين نقد رجعيته لأنه، كذلك، احتلال. والحق أن تلك الرجعية كانت من علامات صعود الوطنية، بمعنى إخراج القوميين من الخزانة وإبرازهم في الصدارة. أما الاحتلال عهدذاك، فلو لم تتلبّد سماء آسيا بالحرب الباردة، لكان أكثر ما يمكن تقدمياً أن يطمح اليه. وإذا قيل إن مسؤولية التردي والانجراف في الحرب الباردة تكمن في أن ماكآرثر قد صادر السيادة في حقبة الانجازات، وهو قول صحيح، فالأصح أن صيرورة اليابان ديموقراطية، مهما كانت منقوصة، واقتصاداً ثانياً في العالم، مهما كان مأزوماً، هي جوهر المسألة. * كاتب ومعلّق لبناني.