Philippe Pelletier. Japon: Crise d'une Autre Modernitژ. اليابان: أزمة حداثة مغايرة. Belin, Paris. 2004. 208 pages. إذا كانت المعجزة هي بالتعريف القاموسي ما لا تفسير عقلاني له، فإن الكلام عن "معجزة يابانية" لا محل له، حتى وان تكن اليابان قد اجترحت ما لا يمكن وصفه إلا بأنه "معجزة". فهي، أولاً، وابتداء من عهد الامبراطور ميجي 1867 - 1912، قلبت المعادلة الجغرافية الحضارية. فمن موقعها في أقصى الشرق، احتلت موقعاً جديداً لها في أقصى الغرب، فتحولت من جارة شرقية لروسيا الى جارة غربية للولايات المتحدة الأميركية. وقد تم هذا التحول في أقل من نصف قرن منذ أن قرر الامبراطور ميجي ادخال الحضارة الغربية الى "بلد الشمس الشارقة" - وهذا هو معنى "اليابان" باليابانية - مما مكّن اليابانيين من أن يربحوا الحرب ضد الجار الصيني عام 1895، ثم ضد الجار الروسي عام 1905، ثم ضد المانيا في حرب 1914 - 1918، فاستولوا بذلك على جزيرة مورفوزا، ثم على شبه الجزيرة الكورية، وأخيراً على الممتلكات الألمانية في المحيط الهادي. وحتى في حرب 1939 - 1945 لم يهزموا، بعد طول انتصار لهم على الحلفاء في منشوريا والفيليبين وسنغافورا وبرمانيا واندونيسيا، إلا على إثر ضربهم بقنبلتين ذريتين أميركيتين. وقد قلبت اليابان ثانياً المعادلة الاقتصادية، فما كادت تستعيد سيادتها الوطنية عام 1952 وتستبدل الاحتلال الأميركي الموقت بنفوذ أميركي شبه دائم، حتى ضربت أرقاماً قياسية، غير مسبوق اليها، في التنمية الاقتصادية للبشرية قاطبة، بمضاعفتها ناتجها القومي أكثر من خمسين مرة خلال خمسين سنة، إذ ارتفع هذا الناتج، بالأرقام المطلقة، من أقل من 80 مليار دولار عام 1952 الى أكثر من 4240 ملياراً عام 2002. كيف السبيل الى تفسير هذا الزلزال الجغرافي الحضاري الذي أتاح لليابان أن تنجز تحولها في قرن واحد من بلد شرق أقصوي في تخلفه الى بلد غرب أقصوي في تقدمه؟ هذا الكتاب الجديد عن "بلد الشمس الشارقة" لا يحاول أن يتقدم بتفسير كلي. فكما أن اليابان عبارة عن فسيفساء من 6852 جزيرة، غير مأهول منها سوى 434 جزيرة، كذلك فإن تفسير نجاحها الاستثنائي في تحقيق حداثة غربية خارج المهد الغربي يحتاج الى فسيفساء من أسباب جزئية تكون بمثابة رتوش اضافية تزاد على الصورة الكلية، غير المكتملة الرسم بعد، للحداثة اليابانية. في طليعة هذه الأسباب طبيعة علاقات اليابانيين بالمكان. فاليابانيون، المحاصرون بين البحار والجبال التي تؤلف ثلاثة أرباع مساحة اليابان، لا يعرفون الاستقرار في المكان الذي هو من أولى قسمات المجتمعات الزراعية التقليدية. وباستثناء زراعة الأرز، فإن البحر هو المزرعة الحقيقية لليابانيين. واقتصاد البحر، بما يتطلبه من دينامية خاصة وحركية دائمة، هو أسهل اندماجاً بالاقتصاد الرأسمالي العالمي منه بالاقتصاد الاقطاعي المحلي الذي تختص به المجتمعات الزراعية التقليدية. يضاف الى ذلك الضيق النسبي لمساحة الأرض القابلة للزراعة 70 ألف كم2 من أصل اجمالي مساحة اليابان البالغة 378 ألف كم2 مقابل وساعة مناطق الصيد البحري المعترف بها دولياً لليابان والبالغة 4.5 مليون كم2. وإذا كان اقتصاد البحر يتطلب دينامية تدخلية من قبل المعتاشين اليه، فإن اليابانيين قد عرفوا أيضاً كيف يوجهون ديناميتهم التدخلية هذه نحو العمران البري للبحر، إذ استطاعوا في الفترة ما بين 1945 و1980 أن يكتسبوا، عن طريق الردم البحري، مساحة 1100 كم2 خصصوها للتوسع العمراني والصناعي. وعلاوة على علاقتهم الخاصة بالمكان، فإن لليابانيين علاقتهم الخاصة بالزمان أيضاً. فنقص المكان الذي عانوا منه جعلهم أكثر حرصاً على التحكم بالزمان الذي هو، في الوعي الجمعي الياباني، مكان مميّع. وضبط زمان الري هو عنصر حاسم الأهمية في زراعة الأرز التقليدية في اليابان. ولهذا لا عجب أن يكون الامبراطور نفسه - وهو موضوع عبادة حقيقية في اليابان - هو "سيد الزمان"، ووظيفته الأولى ضبط التقويم القمري والرصد الجوي والفلكي. وقد استطاع اليابانيون، بفضل حسهم المرهف هذا بالزمن، أن ينتجوا منذ القرن السابع عشر نسخاً متقنة من الساعات الجدارية الأوروبية قبل أن يدللوا، في النصف الثاني من القرن العشرين، على قدرة لافتة للنظر على منافسة السويسريين في حقل تخصصهم التكنولوجي الأول: صناعة الساعات. ويبدو أن الديانة القومية اليابانية - وهي الشنتوية - لعبت دوراً في هذا الانفتاح على العالم التقني. فالشنتوية، خلافاً للديانات المتوسطية والأوروبية التوحيدية، ليست ديانة عمودية تنظم علاقة الانسان بالسماء، بل ديانة أفقية تنظم علاقة الانسان بالأرض. وبصفتها ديانة غير قائمة على منظومة من المعتقدات اللاهوتية، فانها تتصف بالمرونة وبدرجة عالية من التسامح والقدرة على التكيّف مع المستجدات الخارجية والتعامل التقني مع الأشياء. وهذا فضلاً عن ضمان قدر كبير من التلاحم الاجتماعي من خلال تأسيسها لعبادة الامبراطور الذي تعتبره ممثل الآلهة على الأرض. ولعل الميزة الكبرى لليابان، منذ تأسيس النظام الامبراطوري في عصر الميجي، انها لم تعرف قط أزمة شرعية. فجميع عقائد العصر الحديث من ديموقراطية واشتراكية ورأسمالية وليبرالية وعلمانية وعولمة تكنولوجية وجدت مستقراً لها في اليابان باستثناء العقيدة الجمهورية. وقد وحدت اللغة اليابانية بين مبدأ القومية وعبادة الامبراطور الى درجة أن المعترضين على دور الامبراطور يعتبرون "لا قوميين"، أي "يابانيين غير حقيقيين". والحال أن الامبراطور لعب دوراً حاسماً في النقلتين التاريخيتين الكبيرتين لليابان نحو التكنولوجيا الغربية والنظام الديموقراطي. فالامبراطور ميجي هو من كان أطلق في الربع الأخير من القرن التاسع عشر شعار: "لنترك آسيا ولننضم الى الغرب". وحفيده الامبراطور هيروهيتو هو الذي طلب من اليابانيين، عقب استسلام بلدهم في نهاية الحرب العالمية الثانية، أن يكفوا عن اعتبار الأميركان - المحتلين لليابان - أعداء وأن يتعاملوا معهم بوصفهم أصدقاء، وأن يقبلوا منهم هدية الدستور الديموقراطي. وفي الحالين تقيد اليابانيون بوصية امبراطورهم شبه المؤلّه: فمع ميجي تغربوا، ومع هيروهيتو تأمركوا. ولكن في الحالين أيضاً لم يشعروا أنهم أضاعوا هويتهم، ليس فقط لأن تحديد هذه الهوية يعود الى الامبراطور في المقام الأول، بل كذلك لأن حضارتهم، كما لاحظ الفيلسوف الياباني المعاصر ساكابي ميغومي، هي "حضارة قناع". والواقع ان جدلية "الوجه والقناع" تلعب دورها في تفسير التجلية التكنولوجية لليابانيين. فنظراً الى أن اللغة اليابانية لا تميز بين الوجه والقناع، إذ تطلق عليهما اسماً واحداً هو "أوموت"، فإن الياباني يعلق أهمية كبيرة ليس فقط على ما يبطنه =الوجه، بل كذلك على ما يظهره =القناع. ومن هنا حساسيته الكبيرة بصورته في عين الآخر. وبما ان هذا الآخر قد تكشف عن أنه، حصراً، الآخر الغربي الذي أجبر اليابان - بحكم تفوقه العسكري والتكنولوجي - على فتح حدودها أمام البضائع الغربية ابتداء من أواسط القرن التاسع عشر، فإن محاكاة هذا الآخر في تفوقه =القناع غدت الضامن والمعيار الحاسم لكرامة الوجه في نظر الياباني نفسه. وهذا الإنئسار لنظرة الآخر هو ما يجعل الياباني يفسّر الدنيا على أنها سباق وهو ما يعلل حرصه على أن يحتل المرتبة الأولى دوماً في هذا السباق، سواء عندما يطور سيارة التويوتا، أو عندما يخوض المنافسة في الصناعة الالكترونية والتكنولوجيا العالية التطور، أو عندما يتسلق جبل الافرست لا لشيء إلا لأن قمته هي الأعلى في العالم.