منذ اندلاع الحرب الأميركية على العراق والأكثر أرقاً من الدول العربية في الشرق الأوسط كانت ولا تزال هي سورية. لقد اقتنعت دمشق بأن احد الأهداف الرئيسية لتلك الحرب هو إكمال تطويقها، خصوصاً بعد توقيع الاتفاق الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل، كما افترضت أن المشروع الأميركي في العراق سينجح وأن طال أمد معاناته. أمام هذين الافتراضين، تصرفت سورية لتحقيق هدفين تكتيكيين: الأول هو تفادي مواجهة مع الولاياتالمتحدة، بشكل مباشر وصدامي عن طريق تقديم بعض المساعدات الأستخبارية. والثاني إظهار عدم الرضا سورياً وإقليمياً عما يحدث في العراق. وكانت وسائل عدم الرضا متعددة، من اجتماعات جامعة الدول العربية، الى الساحة الإعلامية العربية، التي لم تكن بحاجة لكثير من الوقود للاستنهاض الكلامي ضد المشروع الأميركي. تلك الثانية في الأهداف أصبحت قاعدة لنظرة دمشق الى كل تفاصيل الأحداث اللاحقة. وفي غضون السنتين الماضيتين كان الكرّ والفرّ بين دمشقواشنطن يراوح بين ابتسامات واجتماعات، وبين إنذارات وتهديدات، منذ زيارة وزير الخارجية الأميركي في آذار مارس الماضي الى دمشق، حتى اجتماعه مع وزير الخارجية السوري في ايلول سبتمبر الحالي، والطرفان في وضع غير مريح، كلما اقفل ملف بينهما، فتح ملف آخر أكثر حساسية. كانت المطالب الأميركية من سورية لا تخرج عن أربعة: - حرية الحركة التي توفرها دمشق للفصائل الفلسطينية التي تعتبرها واشنطن مؤيدة للإرهاب. - الدعم لحزب الله في لبنان. - إيواء أفراد من جماعة البعث العراقي الموالين للنظام القديم في العراق، وتقديم التسهيلات الإعلامية وغيرها لهم، بما فيها الحدود السورية - العراقية المفتوحة. - تطوير أسلحة الدمار الشامل سواء في المعامل السورية أو شرائها من الخارج. في بعض من هذه المطالب الأربعة، قدمت دمشق بعض التنازلات، على أساس أن هناك أموراً خارجة عن قدرتها، كالقول أن الحدود العراقية - السورية هي حدود طويلة لا يمكن التحكم بها. كما أشارت الى تقليص حركة المكاتب الفلسطينية، على أنه أكثر ما تستطيع تقديمه، في قضية يعتبرها العرب أم القضايا. من الملاحظ أن الموضوع اللبناني عدا حزب الله لم يكن مطروحاً في المطالب الأولى المنشورة للأميركيين. كان الموضوع الملح هو العراق. كلما ازدادت خسائر الأميركيين هناك، كلما تصاعدت الضغوط على سورية. ففي الحادي عشر من تشرين الثاني نوفمبر من العام الماضي صوّت الكونغرس على تمرير قانون محاسبة سورية، وهو قانون يعطي الرئيس الأميركي الحق في فرض العقوبات على سورية تتناسب مع الخطر الذي تمثله على مصالح واشنطن. عطل الرئيس الأميركي تنفيذ ذاك القرار، فقرأت دمشق ذلك التعطيل باستنتاج أن هناك تيارات داخل الإدارة الأميركية متعارضة في الموضوع السوري، وان الكفّتين لم ترجح احداهما على الأخرى بين من يريد معاقبة سورية عقاباً صارماً، وبين من يتفهم الوضع السوري، خصوصاً في ضوء التعاون التكتيكي الذي تقدمه دمشق بين فترة وأخرى، مثل تخفيف الاعتراضات على ممثلي مجلس الحكم العراقي، أو تسهيل قبول ممثلي العراق الجديد بشكل ما في الأوساط العربية، إلا أن بعض أوساط دمشق سرعان ما عاد الى تفسير التورط الأميركي في العراق على انه مستنقع لذا فإن مواصلة الضغط عليه هو سياسة صحيحة، وكل تصعيد سوري يقابله تصعيد أميركي. لقد فسرت دمشق انتفاضة الأكراد السوريين في آذار مارس الماضي، وأن كانت ذات دوافع محلية، بأنها ليست بعيدة عن رغبات بعض أوساط الأكراد في العراق، وقد أثارت مخاوف حقيقية، أكدت في بعض منها المخاوف الأصلية في استهداف سورية، مما جعلها ترخي العنان لبعض العراقيين المناوئين للنظام العراقي الجديد بالدعوة الى عدد من الاجتماعات في بيروت، وردّت واشنطن التحية في الحادي عشر من ايار مايو من العام الحالي، أي بعد سبعة شهور على إصدار قانون محاسبة سورية بتفعيل ذلك القانون، وتطبيق مقاطعة منتقاة على سورية، وكذلك تم الضغط على حلفاء الولاياتالمتحدة الأوروبيين لرفض اتفاقية الشراكة السورية مع الاتحاد الأوروبي. ثم انتقل عض الأصابع المتبادل الى لبنان وتصاعد، ولبنان لم يكن أولية قصوى في السياسية الأميركية، قبل تصاعد الموقف الأخير، والانتقال الى الساحة اللبنانية جاء بناء الى حسابات سورية منها: - أن لبنان بطوائفه المختلفة غير راغب في العودة بأوضاعه الى أيام الحرب الأهلية، جسد ذلك نائب رئيس الحكومة اللبنانية في الأسبوع الماضي في نيويورك، حيث قال لا يمكننا أن نغامر بوضعنا الحساس بعد ما عشنا الاستقرار والأمن واحسب أن ذلك هو هاجس معظم اللبنانيين، وعدد من الدول الكبرى. - القوة المعنوية والمصالح المتشابكة، التي بنيت بين لبنان وسورية في كل تلك السنوات، تمنح دمشق غالبية لبنانية واضحة في المنشط والمكره! - أن المواجهة لم تعد على ارض أو ضع سورية، بل لبنان، أي نقل المعركة وملفاتها الى مكان تجد الدول الغربية، وخصوصاً أميركا حرجاً في فتح صندوق بندورة قابل للاشتعال. بناء على هذه القراءة، قررت دمشق أن تمدد للرئيس أميل لحود على خلفية انه الشريك المؤتمن لتأكيد عدم الأضرار بدمشق من خاصرتها الليّنة، أن أصبحت المواجهة ضرورية في المستقبل. طبعاً لم يرق الأمر لواشنطن، اذ أن التمديد بتوقيته وشكله إضرار بالمشروع الذي تبشر به الولاياتالمتحدة في الإصلاح العام في الشرق الأوسط، وخصوصاً تطبيق الديموقراطية، وتغيير الدستور اللبناني فيه الكثير من تعطيل المشروع معنوياً، خصوصاً قبل شهور من أجراء انتخابات حاسمة في الولاياتالمتحدة، تخاض أجندتها جزئياً على نجاح أو فشل الديموقراطية في الشرق الأوسط، وبسبب العلاقات التاريخية بين لبنان وباريس، انضمت الأخيرة للمشروع الأميركي، بإصدار قرار من مجلس الأمن يطالب بانسحاب سوري من لبنان واضح وبيّن. وكالعادة قُرأ قرار مجلس الأمن وفسّر، كما يشتهي الفرقاء، بل قال بعض الأوساط إنه انتصار لسورية، لأنه لم يذكرها بالاسم! هذه القراءة تذكرنا بقراءة قام بها النظام العراقي السابق مع التسليم بالفوارق، وفي الحقيقة ساعده في الاعتقاد بها بعض العرب، والكثير من المذكرات والدراسات المنشورة اليوم يؤكد لنا أن بعض العرب، وبعض التحليلات، قد ساعد النظام العراقي السابق على القراءة الخاطئة، وبعضهم يفعل ذلك مع سورية اليوم. بالتأكيد في دمشق عقول أكثر قدرة واستقلالاً من أن تسقط في قراءة مبتسرة لقرارات دولية مهمة كالقرار 1559، إلا أن بعض أصدقائها في لبنان وخارجه سيزيّنون تلك القراءة الخاطئة، فهم لن يخسروا كثيراً. المقارنة بصدام ليست موضوعية، ولكن هناك هوامش لا يمكن لعاقل أن يتجاهلها... انسحبوا من الجولان ننسحب من لبنان! ألا يذكرنا هذا بمقولة صدام حسين انسحبوا من الضفة انسحب من الكويت! أو القول أن لبنان قام باختيار رئيسه من خلال مؤسسات دستورية! وكل متابع عاقل يعرف كيف تمت التسوية، وفي أي أجواء! ترديد مثل هذا الكلام الآن لا معنى له، فثلاث سنوات للرئيس لحود"بركات"، السؤال كيف يمكن ترميم الأجواء لبنانياً ومن ثم دولياً؟ القضية ليست سهلة، ويمكن تجنب الأصعب وهو التجاهل للمطالب والتصعيد باتجاه كسر الرؤوس، تلك سياسة قصيرة الأجل، وقد تفاقم الموقف أكثر مما هو متفاقم، وقد تؤدي الى شقاق في لبنان، تتعرض سورية بعده الى مخاطر أكثر من الشاخصة، فيكون خلفها مشتعل في العراق، وأمامها مشتعل في لبنان. العقل هو المطلوب الآن وبشدة، هو عقل يبدأ من دمشق، فالعرب ليسوا في وارد تقديم أيةمعونة، والوضع الدولي ضاغط، ومطلوب من سورية أن تتذكر حكمة المرحوم حافظ الأسد، فتقول"ثلاث سنوات بركات"، وبعدها انتم اللبنانيون أدرى ببلادكم، تقوله عن حقيقة واقتناع، وترفق ذلك القول، وهو الأهم، ببرنامج إصلاحي داخلي حقيقي يمتص عدم الرضا الداخلي ويكون جبهة باتجاه الإصلاح السياسي والانفتاح الاقتصادي، مصحوباً بخريطة طريق زمنية سقفها السنوات الثلاث المقبلة. تلك المبادرة هي التي تنقذ سورية، ليس من تدهور الوضع في لبنان فقط، ولكن من اجل دفع الضغوط عن دمشق، وتكون السنوات الثلاث لإميل لحود مبررة. * كاتب كويتي.