اذا كان مساعد وزير الخارجية الاميركي جون بولتون سيمثل وزارته في المناقشات المقررة لمشروع "قانون محاسبة سورية" في التاسع من الشهر الجاري، فان هذا يعني ان وجهة نظر "الصقور" هي المرجحة في كيفية التعامل مع دمشق في المرحلة المستقبلية وان التصريحات المتشددة التي صدرت عن وزير الخارجية كولن باول ستترجم مواقف عملية. اما مجيء المبعوث الاميركي للشرق الاوسط وليام بيرنز الى الكونغرس فيعني رغبة في تغليب "الحوار الديبلوماسي" والخيار الذي عبرت عنه مساعدة الوزير للشؤون التشريعية ايلينا روس عندما طلبت من النواب "عدم التحرك بالنسبة الى المشروع في الوقت الراهن" بسبب "المناخ الحالي والمتغير" في الشرق الاوسط، بينما يعني تمثيل نائب رئيس دائرة الشرق الاوسط ديفيد ساترفيلد لوزارة الخارجية ان "الخيارات مفتوحة" بين دمشقوواشنطن. ومنذ تقديم النائبين ريتشارد ارمي واليوت ايغل مشروع القانون الى مجلس النواب والسناتور باربرا بوكسر في مجلس الشيوخ في نيسان ابريل العام الماضي لفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على سورية اذا لم توقف دعم ما تسميه واشنطن "الارهاب ولم تنسحب من لبنان وتوقف تطويرها اسلحة دمار شامل"، اختارت دمشق تجاهله وعدم بذل جهود فعلية لتجميده الى ان تدخل الرئيس جورج بوش في ايلول سبتمبر الماضي لتجميد الاستمرار في عملية اقراره لقناعته ان المشروع "يحد من خياراتنا ويكبح قدرتنا على التعامل مع وضع اقليمي صعب وخطر في وقت حرج". ويبدو ان الموقف لم يتغير بعد احتلال العراق والتهديدات الاميركية على رغم المعلومات الاعلامية حول حصول المشروع على تأييد 51 سيناتوراً في مجلس الشيوخ من اصل مئة سيناتور، و205 نواب في مجلس النواب من اصل 435 نائبا. اذ اعلن الرئيس بشار الاسد ان المشروع ك"العصا مرفوعة لتستخدم كي تقدم سورية اول شيء وثاني شيء وثالث شيء بحيث لا تعرف اين تكون النهاية"، لافتا الى انه لم يبحث هذا الامر مع أي من اعضاء الكونغرس الذين زاروا دمشق اخيراً و"قلنا في شكل صريح ان الكونغرس مؤسسة اميركية، وهذا الموضوع هو شأن اميركي". لذلك ليس هناك "قلق" في دمشق ازاء جلسة الاستماع المقرر ان تعقدها اللجنة الفرعية للشرق الاوسط في مجلس النواب الاميركي بحيث ان اثرها لن يكون اكثر من الجلسة التي عقدت في العام الماضي بمشاركة خبراء ومسؤولين محسوبين على جماعات الضغط اليهودية في واشنطن. ويعود عدم القلق هذا اصلاً الى طريقة تعاطى سورية مع تجارب سابقة مثل ادراجها على "القائمة الاميركية للدول الداعمة للارهاب" منذ الثمانينات. ذلك ان العقوبات المفترضة اقتصادياً وسياسياً على دمشق لم تغلق ابواب الحوار بين الطرفين وعلى مستويات رفيعة، اذ ان ثلاث قمم عقدت بين الرئيس الراحل حافظ الاسد وكل من الرئيس جورج بوش الاب والرئيس بيل كلينتون الذي كسر تقليدا اميركيا لدى زيارته دمشق في تشرين الاول اكتوبر 1994. كما ان وزراء الخارجية في الادارات الاخيرة لم ينقطعوا عن زيارة دمشق ل"التشاور وربما طلب المساعدة احيانا". لكن هل يتطلب التغيير الاخير في العراق تغييرا في التعاطي على محور واشنطن - دمشق؟ الواضح ان سورية تجاوزت "مرحلة التخويف والتهديدات" التي شنتها الادارة الاميركية بعد السقوط المفاجئ - الصادم للعاصمة العراقية في 9 نيسان ابريل الماضي، فاستطاعت باسلوب "الحكمة الواقعية" نزع "الالغام" التي ظهرت اخيرا في العلاقات السورية - الاميركية، خصوصاً في خلال زيارة باول عندما كان "يمكن التذرع بفتح الحدود او المتطوعين او لجوء مسؤولين عراقيين الى سورية" لممارسة مزيد من الضغط عليها، فكان الخيار "قراءة الخريطة بدقة" واستجابة بعض الاعتبارات الاميركية طالما ان القوات الاميركية ستواجه مشاكل كبيرة في العراق بسبب ارتكابها "اخطاء جسيمة بينها تسريح نحو نصف مليون جندي تحولوا الى مقاومين خبراء في العمل العسكري دفاعاً عن ارزاقهم" وعدم الانتباه الى ان بعض اللبنانيين الذين استقبلوا الاسرائيليين بالرز لدى اجتياحهم جنوبلبنان هم نفسهم ساهموا في طرد الاحتلال. أي: المقاومة العراقية ستتصاعد من دون أي حاجة لدعم خارجي، لكن التصميم الاميركي على احتلال العراق سيتواصل لانه يتعلق بالهيمنة الاميركية على العالم وبالحملة الانتخابية الرئاسية المقرر انطلاقها مع نهاية العام الجاري. وهنا تكمن ضرورة "الحذر" لا "الخوف". وقد اثبتت كيفية تعاطي سورية في الايام الاخيرة مع هذه المعادلة حكمة خصوصا موضوع الجنود السوريين الخمسة، فنجح اسلوب "الديبلوماسية الهادئة وعدم التصعيد" و"الاحتجاج الرسمي" في استعادتهم وقطع الطريق على "دعاة التصعيد" في واشنطن. كما ان "مباركة" الهدنة التي اعلنتها المنظمات الفلسطينية مع اسرائيل "درءا لحرب اهلية" يصب في سياق موقف لافت اعلنته دمشق بانها "توافق على ما يوافق عليه الشعب الفلسطيني" باعتباره موقفاً من "خريطة الطريق" على رغم الملاحظات الكبيرة عليها وهشاشتها تجاه التزام التسوية الشاملة والتحرك الجدي على المسارالسوري - اللبناني. ومثلما سيواجه تطبيق "خريطة الطريق" مشاكل كبيرة لدى انتهاء "الهدنة" والانتقال من البعد الامني الى البعد السياسي تهدد الوحدة الوطنية الفلسطينية، فإن مشاكل الاميركيين ستتصاعد في العراق ما يعزز الرهان على الزمن، لكن المطلوب هو الرهان الايجابي والانتقال الى تعزيز دعاة الحوار في داخل الادارة الاميركية وفي الدول الاوروبية وتوسيع التحالفات العربية. الاهم هو ادراك ان النظام العالمي الذي بدأت ملامحه في بداية التسعينات تتبلور دولياً بعد تفجيرات 11 ايلول سبتمبر واقليميا بعد احتلال العراق بحيث يكون مدخلاً وحيداً للحفاظ على المصالح الوطنية على رغم الانحناء للعاصفة الاميركية في الصحراء العربية. وفي وضع كهذا تبدو "العلاقات العامة" و"الديبلوماسية العلنية" وسيلتين من وسائل الحوار والتفاوض والمقايضة من دون التنازل عن المبدئي - الوطني... في ملفات شائكة بين دمشقوواشنطن.