شابتان سحرتهما أعماق المياه وقدّمتا طفولتهما ومراهقتهما تضحية لها كي تتكرّسا ملكتين عليها. قفزتا من الأعالي وغاصتا تحت المياه بتقنية رشيقة أدهشت الاختصاصيين الرياضيين. أخضعتا جسميهما لتمارين نظامية قاسية طوال سنوات وسنوات بهدف واحد هو امتلاك ميدالية ذهب تكرس كلاً منهما في المرتبة الأولى في العالم. فو مينغكسيا، الصينية النحيفة التي دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية بعدما باتت أصغر "غطّاسة" رياضية في العالم، غابت سنتين عن الساحة الأولمبية وعادت بقوة في عمر تعتزل فيه عادةً الرياضيات، لتتحدى كل قواعد الغطس المتعارف عليها. وفيرا إليينا، الروسية التي لم تكن تملك ثمن دخولها الى الجامعة في الولاياتالمتحدة الأميركية والتي موّلت من جيبها اشتراكها في الألعاب الأولمبية العالمية. ملكة الغطس نشأت فو مينغكسيا بعد ولادتها عام 1987 في عائلة صينية أنموذجية بحياتها اليومية. تعلمت السباحة في سن صغيرة في النهر القريب من منزلها الريفي، وبدأت في الخامسة تمارين الرياضة البدنية الجيمناستيك قبل أن تتحول رسمياً الى رياضة الغطس بعد سنتين، مما جعلها تدخل في الفريق الرسمي للغطس في منطقتها. واضطرت بالتالي الى مغادرة المنزل العائلي في التاسعة من عمرها لتتابع التمارين مع رفاقها في العاصمة بيكين، وفق النظام الحكومي الصارم. بكت طويلاً ووحيدة اشتياقاً لعائلتها في الأشهر الأولى من غيابها، إلا أن التمارين القاسية التي كانت تستمر تسع ساعات يومياً كانت تفرّغها من كل إحساس لا سيما الخوف. فاختيرت لتكون عضواً في الفريق الصيني اليافع للغطس في عمر الحادية عشرة. فضاعفت جهودها لتحسين مستواها الجيد. فكانت تمضي سنة بكاملها من دون أن ترى أهلها، ولا تعرف بزيارتهم لها إلا من خلال الأغراض التي كانت والدتها تتركها لها في خزانتها الخاصة. وكانت كلما مرّت في منطقتها خلال المسابقات الوطنية، تقف صغيرة، نحيفة على خشبة القفز، لا يتعدى طولها ال150 سنتم وتبحث بعينيها عن والديها بين حشد الجمهور علّها تلمح أحداً منهما. بدأت تتميز فو عن زميلاتها يوم أثمرت تمارينها القاسية بفوزها بلقبها العالمي الأول عبر الميدالية الذهب التي حازتها في مباريات الغطس في ألعاب النيّة الحسنة عام 1990، 12 يوماً فقط قبل عيد مولدها الثاني عشر. وبعد ستة أشهر كسبت ميدالية مماثلة في بطولة العالم، ما جعل منها أصغر بطلة في العالم في فئة الغطس. وواصلت فو صعودها الناجح الى القمة حاصدة الميدالية تلو الأخرى الى أن فازت عام 1992 بالميدالية الذهب للغطس من علو عشرة أمتار، فدخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية بعدما باتت أصغر بطلة أولمبية في تاريخ هذه الألعاب. وقالت مرة في حديث صحافي: "أعتقد بأن الفتاة تستطيع أن تصل الى القمة في رياضة الغطس قبل سن الخامسة عشرة. لكن بعد هذا العمر فإن الأمور تتعقد: يبدأ الجسم بالنمو ويكتسب الوزن فيما المطلوب أقصى درجات النحافة للحفاظ على لياقة هذه الرياضة". لذا، كانت غالباً تبكي بعيداً من رفاقها. تشعر بالجوع مباشرة بعد تناولها وجبة الطعام. جسمها يحتاج للغذاء ليزودها بالطاقة اللازمة للتمارين الرياضية القاسية... وممنوع عليها الأكل كي تحافظ على رشاقتها. ثم أتت أوجاعها لتزيد الطين بلّة بعدما بدأ جسمها الصغير يتمرد على النظام القاسي المفروض عليه قبيل الألعاب الأولمبية عام 1996، ما جعلها تتوجه نحو الموسيقى التي شكلت رفيقتها الدائمة طوال سنوات عدة. ومرة جديدة دخلت فو التاريخ الأولمبي من الباب العريض محققة إنجازاً فريداً من نوعه بعدما كسبت الميداليتين الذهب للقفز من علو عشرة أمتار ومن على منصة الأمتار الثلاثة. فكانت الرياضية الرابعة فقط التي تحقق هذا الإنجاز في تاريخ الرياضة العالمي. وفوراً بعد هذه الألعاب، أطلقت قنبلة مدوية عبر قرارها اعتزال الغطس لدخول الجامعة ومتابعة دروسها بعيداً من أي ضغوط. وتشبثت بموقفها على رغم كل الاعتراضات التي واجهتها... لأنها أرادت حياة كما كل الفتيات، بعيدة من الضغط اليومي الذي سلبها طفولتها ومراهقتها. وبقيت سنتين بعيدة من خشبة الغطس، الى أن بدأت تحنّ الى صوت الماء لدى اختراقها سطحه والى ملامسة الماء لبشرتها فور دخولها الى الأعماق. وقررت العودة الى حلبة السباق على عكس كل التوقعات، متمردة مرة جديدة على ما كان مفروضاً عليها من قبل. تركت شعرها الطويل يتدلى في ظهرها على عكس كل الغطّاسات. ارتدت الملابس الملونة وأقراط الأذن الكبيرة ووضعت الماكياج القوي. فتمرنّت هذه المرة حباً بالرياضة وليس بحثاً عن تحقيق رقم قياسي. ولما استعادت لياقتها البدنية خاضت المباريات الوطنية ومن ثم الأولمبية، وهي في عمر الثانية والعشرين... أي عندما يكون غيرها من الأبطال بدأ يفكر في الإعتزال. حققت رقماً لا بأس به، وقررت المتابعة في الألعاب المقبلة في سيدني حيث حققت ميادليتين، فضية وذهبية "لأنها كانت تغطس من أجل نفسها فقط". فظهرت بمظهر الفتاة الصينية المعاصرة، كي يرى الجميع أن الرياضة تتماشى مع الأناقة. اعتزلت حينها رسمياً الغطس الأولمبي، وتزوجت بعد سنتين من السكرتير المالي في هونغ كونغ، وأنجبت طفلة أوائل العام 2004. وبقيت تغطس للذة ممارسة هذه الرياضة التي تأمل في أن تعشقها ابنتها كما فعلت هي عندما اكتشفت جمالها الحقيقي. من موسكو الى أميركا أما فيرا إيليينا فكانت مسيرتها الرياضية شبيهة بمسيرة زميلتها الصينية... وبكل الرياضيات الصغيرات في البلدان الشيوعية في ذلك الوقت. ولدت في موسكو في عائلة شبه فقيرة. والدها موظف حكومي يعمل في مرأب قريب من المنزل ووالدتها تحبك السترات الصوفية للمساعدة في مصروف البيت فيما شقيقاها وشقيقاتها يقاسمونها غرفتها الضيقة. توجهت نحو الرياضة منذ صغرها لأنها علمت أنها الوسيلة الوحيدة لمساعدة عائلتها مالياً وللخروج من روسيا حيث لا مستقبل لها. وكانت ترسل الى والدها كل مبلغ يدفعه لها الاتحاد الروسي للغطس، مهما كان ضئيلاً. تخطت بنجاح كل المباريات الوطنية وهي تبقي هدفها الأول والأخير الألعاب الأولمبية التي ستحقق حلمها بالاستقلال المادي. ذهبت الى الألعاب الأولمبية في أطلنتا عام 1996، وهي ترتجف خوفاً. خجولة، رقيقة، تحمر وجنتاها في المقابلات الصحافية وتتلعثم في الإجابة عن الأسئلة. بدت متوجهة في البدء نحو الميدالية الذهب قبل أن تقضي على حظوظها في قفزة وحيدة فاشلة أعادتها الى المرتبة السابعة. فوقفت حينها وقررت الإمساك بزمام حياتها الخاصة في الولاياتالمتحدة وليس في موسكو. قدمت طلبا ًللانتساب الى جامعة تكساس التي قبلتها. وتخطت سريعاً حاجز اللغة مما سمح لها بأن تلمع في دراستها إدارة الأعمال وفي تخرجها بتفوق... مع استمرار عينها على الألعاب الأولمبية التي تتطلب الكثير من المال للتحضير لها. فقدمت لها الغطّاسة السابقة في فريق البرتغال لعام 1984 جين فيغوريدو منزلاً وتدريباً مجانياً... لأن قفزاتها هي أجمل ما رأت، كما قالت. واضطرت لأن تموّل شخصياً رحلاتها للاشتراك في المباريات العالمية. فدفعت من جيبها ثمن تذكرة الطائرة التي أقلتها الى موسكو للاشتراك في المباريات الروسية الوطنية حيث فازت بالمرتبة الأولى في قفز الأمتار الثلاثة. ولما جرت المباريات الأوروبية في تركيا، ساهمت اللجنة الأولمبية الروسية في دفع مصاريف رحلتها الى هناك. حيث كسبت فيرا الميدالية الذهب في التصنيف نفسه. فتبرعت بمبلغ ثلاثة آلاف دولار من قيمة الجوائز التي حصلت عليها، الى مستشفى سانت جود للأمراض السرطانية بعدما ماتت زميلتها ومدرب روسي من داء السرطان قبل سنة. ودخلت فيرا تاريخ الرياضة الأولمبية بعدما حققت للمرة الأولى حلمها الرياضي الذي لم يفارقها يوماً في طفولتها، مشكلاً الدافع الأساسي الذي زودها بالطاقة يوم كانت عضلاتها اليافعة تئن تعباً من جراء ساعات التمارين الطويلة... تماماً كما نجحت في تحقيق حلمها الثقافي الجامعي.