يكمن خلف النقاش الدائر حول التغيير السياسي في العالم العربي السؤال عن طبيعة الأنظمة الحاكمة حالياً وكيف يمكن ان نتوقع منها تغيير نفسها عبر هذه المرحلة أو تلك من الزمن. واذ يمكن القول جدلاً بأن هذه الأنظمة ديكتاتورية، فالتوصيف الأنفع هو انها تسلطية، بمعنى انها أنظمة سياسية تتجمع فيها السلطة في قمة الهرم، وحيث تتعرض المعارضة للحظر أو السيطرة القوية، وتمارس الحكومة احتكاراً على كل نشاط سياسي، العملي منه والفكري. مفهوم"التسلطية"نفسه تم تطويره في سياق أوضاع أميركا اللاتينية، وبدأ المحللون باستعماله في ما يخص الشرق الأوسط أواخر السبعينات. ومن بين ميزاته إمكان استعماله للتفريق، من جهة، بين الأنظمة العسكرية وأنظمة الحزب الواحد التي جاءت الى السلطة في دول مثل مصر وسورية والعراق، ومن الجهة الثانية الأنظمة السابقة عليها، التي كانت، على علاّتها، تقود مجتمعات ذات مؤسسات مدنية مستقلة نسبياً، مثل الكلّيات والصحف والنقابات. كما يمكن استعمال المفهوم لتحديد تلك الفضاءات العامة، مثل المساجد والمصانع الكبيرة والجامعات، التي احتاجت الأنظمة التسلطية الى فترة من الزمن للسيطرة عليها. كما يشير الى فجوة مهمة بين الرغبة في السيطرة والقدرة الفعلية عليها، التي لا تتوفر في الكثير من الدول العربية إلا بنشر أجواء الرعب، المدعومة باستعمال التعذيب والسجن فترات طويلة. استعمال بنى التسلطية مفيد أيضاً لتفسير قدرة هذه الأنظمةالعربية الرئيسية على البقاء، حيث أن الكثير منها يستمر منذ أربعين الى خمسين سنة. لكن المفهوم فقد جزءاً من فاعليته بمرور الزمن، اذا بدا أنه يفشل في تحديد فروق مهمة بين مختلف أنواع التسلط، وكذلك بالتكهن بكيفية تطور كل منها. وبرزت أهمية هذا النقص في التسعينات، عندما ساد الافتراض بأن الضغوط من أجل فتح الاقتصاد كانت ستؤثر بالنتيجة على النظام السياسي. من بين سبل معالجة هذه المشكلة استعمال ما تقدمه الأدبيات السياسية المتوفرة من تصنيفات أولية للأنظمة التسلطية المعنية - من الحكم العسكري الى الرئاسي الى البيروقراطي الى حكم الحزب الواحد. إذ تشير هذه الى امكان ترسيم منطق معين يحكم تحولاتها، عندما يقوم نظام عسكري بمأسسة نفسه بمساعدة حكم الحزب الواحد وتوسيع البيروقراطية قبل التحول في الأخير الى نظام يغلب عليه طابع الحكم الرئاسي، وذلك بفعل حكّام يطمحون الى تجاوز القيود على سلطتهم المتفردة، التي يفرضها اعتمادهم على حزب حاكم. لكن ما هي المرحلة التالية؟ من جهة، يمكن النظر الى تركيز السلطة في موقع واحد على انه آلية جوهرية لاستمرار قابلية النظام التسلطي على التكيف. ومن الجهة الثانية، يخلق هذا التركيز مشاكل حقيقية لنفسه. فإذا وضعنا في الاعتبار ان ليس من رئيس عربي، كما يبدو، يقبل باختياره تسليم أي جزء من سلطته فإنه يجد نفسه ملتزماً في شكل كامل ليس التعامل مع تشابكات المصالح في بيروقراطيته واقتصاده ومجتمعه فحسب، بل أيضاً قسماً كبيراً من العلاقات الخارجية بين دولته والعالم. ويشير هذا الى واحدة من الحقائق الجوهرية في المنطقة العربية اليوم، وهي أن ممارسة الحكم الرئاسي أصعب بكثير مما كانت عليه، وانها تقود في حالات كثيرة الى نتائج عكسية. فإذا نظرنا الى الصعيد الداخلي، حيث التزايد والتشعب الدائمين في المصالح، والجهد الكبير المستهلك في محاولة التوفيق بينها، نجد ما يشبه الجمود الذي يعيق التحرك الحاسم في اي من الاتجاهات ويجعل طرح سياسات جذرية جديدة ضرباً من المستحيل. ويترافق هذا على الصعيد الخارجي مع التعدد والتضارب المستمر بين الأولويات التي لا بد من الجهد المستمر للموازنة في ما بينها. هناك نتيجتان ممكنتان لذلك. فإما ان يدرك الرئيس الحاجة الى تفريع قسط من السلطة من أجل تحسين الادارة الاقتصادية والاجتماعية، أو أن تجبره على ذلك متطلبات داخلية وخارجية لا ردّ لها. وهنا نجد أن للمفهومين القديمين عن القدرة على الاختيار وحقيقية التناقضات فائدة في مجال التحليل. أي انهما يطرحان السؤالين: الى كم يمكن تأجيل البت في خيارات مهمة؟ والى كم، على سبيل المثال، يمكن احتواء التناقض بين النمو الاقتصادي الداخلي والتركيز على التصدير؟ هذا عن التناول السائد لمفهوم التسلط، الذي يحصر التركيز بمؤسساته التكوينية. الطرق الأخرى للتقدم تتمثل بطرح أسئلة جديدة عن الفكرة، مثل التي بدأ بطرحها الكثير من علماء السياسية في انحاء العالم. من بين ذلك تفحص الفروق في البدايات لدى كل من الأنظمة التسلطية الجديدة: مثلاً، السؤال عن مدى تأثير خلفيات مؤسسيها على مسيرتها بعد ذلك، وتوزيعها للثروة، وعلاقاتها بالقطاع الخاص المتواجد أصلاً أو بدوائر الأعمال التي سهّلت تلك الأنظمة ظهورها. والسؤال عن طريقة تعاملها مع معارضيها، سواء من النخبة الحاكمة السابقة أو اليسار المنظم أو الحركات القومية العربية أو مختلف المنظمات الدينية. أو عن قدرتها على تمويل نفسها، سواء من الخارج، أي من الدول العظمى أثناء الحرب الباردة، أو من النفط، أو من خلال المواقف المتخذة من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. أخيراً يمكن ان نتفحص دوافع المسؤولين عن الأنظمة التسلطية العربية في التركيز على السرية والاحتكار والسيطرة، حيث لا يبدو أن الأجوبة الجاهزة المعهودة - الخوف من المعارضة المحتملة، عدم القدرة على تقبل النقد الخ - كافية لتعليل الظاهرة. كما لا يمكن القول ان هناك علّة أصلية في ما يسمونه"الثقافة السياسية العربية"لأن هذه التوجهات تبرز في دول كثيرة في العالم. البداية الصحيحة قد تكون في دراسة تأثير الغاء الأنظمة التسلطية للتوازنات والضوابط السابقة التي منعت الأنظمة السابقة عليها، التي كانت أكثر انفتاحاً وتعددية منها، من التسلط والتصرف الاعتباطي. * مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة هارفرد.