السعودية ترحب باتفاق تبادل الأسرى والمحتجزين في اليمن    FIFA يرفع عقوبة النصر    المملكة تسجل رقمًا قياسيًا في "غينيس" ب 95 طنًّا من البذور الموسمية    فيصل بن مشعل: كرنفال بريدة للتمور حقق نجاحات عكست امكانات القصيم الاقتصادية الكبيرة    إنزاغي يرسّخ حضوره الدولي.. مدرب الهلال بين أعمدة التدريب في 2025    تعليم الطائف يختتم المسابقات الصحية المدرسية    "الشؤون الإسلامية" تنفّذ ورشة تدريبية حول توظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة المنبر والخطابة    الصناعة تطلق دليلًا إرشاديًا لحماية الملكية الفكرية    برعاية سعودية.. توقيع اتفاقية لتبادل 2900 أسير في اليمن    زين السعودية تعلن شراكة استراتيجية مع بنك التنمية الاجتماعية    مجلس الوزراء يوافق على قواعد ومعايير أسماء المرافق العامة    تعديل نص المادة 58 من اللائحة التنفيذية لنظام مراقبة شركات التأمين التعاوني    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير جمهورية فرنسا لدى المملكة    أمير الجوف يرأس اجتماع اللجنة العليا لدعم تنفيذ المشاريع والخدمات للربع الثالث 2025    عندما تنمو الصناعة ينمو الوطن    الأفواج الأمنية بجازان تقبض على شخص لترويجه نبات القات المخدر    أمير الرياض يرعى الاثنين المقبل حفل الزواج الجماعي التاسع بجمعية "إنسان"    أمير المنطقة الشرقية يستقبل سفير جمهورية باكستان الإسلامية لدى المملكة    جدة تستضيف نهائيات دوري أبطال آسيا للنخبة 2026    الجولة 13 تنطلق الأربعاء.. الإثارة متواصلة في دوري يلو    أصدرت أمانة منطقة تبوك، ممثلةً في وكالة التراخيص والامتثال    كونتي بعد التتويج: تجربتنا في السعودية رائعة.. ومدينة نابولي سعيدة بهذا اللقب    المدينة المنورة تحتضن افتتاح مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي    إطلاق مهرجان جازان 2026 تحت شعار «كنوز الطبيعة».. فعاليات متنوعة وتجربة سياحية على مدار العام    جامعة الأميرة نورة تفتح باب التسجيل في برنامج التسجيل المزدوج لطالبات الثانوية    نيمار يخضع لجراحة ناجحة في الركبة    إصدار طابع تذكاري لقصر الفيحاني في دارين    تجمع تبوك الصحي ينجح في إجراء عملية تغيير مفصل الركبة    ضوء النهار يضبط مستويات الجلوكوز في الدم لدى مرضى السكري        مفردات من قلب الجنوب 34    الرئيس ترامب يطلق مشروع بناء سفن حربية من فئة جديدة تحمل اسمه    اندلاع حريق بمنشأة صناعية في ستافروبول الروسية    الوقت كالسيف    افتتاح المتنزه سيشكل نقلة نوعية.. الداود: القدية وجهة عالمية للترفيه والرياضة والثقافة    تخريج دفعة جديدة بمعهد الدراسات للقوات الجوية بالظهران    وصول الطائرة السعودية ال 76 لإغاثة الشعب الفلسطيني    100 فلسطيني بلا مأوى بسبب الهدم الإسرائيلي    ب "علينا"… علي عبدالكريم يستعيد عرش الأغنية الطربية    استعراض التخلي    الذكريات.. أرشيفنا الذي لا يغلق    الكلام    «نسك حج» المنصة الرسمية لحجاج برنامج الحج المباشر    الاستعداد للامتحان    «النيابة»: يحظر ترك الحيوانات خارج الأماكن المخصصة لها    أوميغا- 3 والحوامل    18 ألف جنيه إسترليني تعويضاً عن ركل سائح    «التخصصي» يحقق جائزة «أبكس» للتميز    «قسد» تستهدف أحياءً سكنيةً ونقاطاً لقوى الأمن الداخلي والجيش السوري    الملحق العسكري في سفارة مصر بالمملكة يزور التحالف الإسلامي    أمير جازان يستقبل رئيس جامعة جازان الدكتور محمد بن حسن أبو راسين    بين الملاحظة و«لفت النظر».. لماذا ترتاح المرأة للاهتمام الذي لا يُطلب !!    انطلاق تصفيات مسابقة الملك سلمان لحفظ القرآن في جازان    خطط «الصحة» على طاولة أمير القصيم    «الشؤون الإسلامية» في عسير تنفذ 30 ألف جولة رقابية    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    إنفاذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين.. سمو وزير الدفاع يُقلِّد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    في كل شاب سعودي شيء من محمد بن سلمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسار الديموقراطية وآفاقها في سورية . الصعوبات الخارجية تؤكد الحاجة الى الانفتاح واطلاق قوى الشعب 2من2
نشر في الحياة يوم 10 - 08 - 2001

تحدث الأمين العام ل"الحزب الشيوعي - المكتب السياسي" في حلقة أمس عن مسار الديموقراطية وآفاقها في سورية الخمسينات والستينات والسبعينات. وتتناول حلقة اليوم الديموقراطية في المرحلة الراهنة.
مع وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد ومجيء الدكتور بشار الأسد الى سدة الرئاسة دخلت سورية مرحلة جديدة.
لعل اهم ما يسجل على هذا العهد تغير شبه نوعي على طبيعة النظام الرئاسي المشخصن. إذ جرى نقل السلطة من الأب الى الابن. فأصبحنا امام نظام هجين لا هو بالنظام الجمهوري تماماً، ولا هو بالنظام الملكي تماماً. هو بين بين، او ما اصطلح على تسميته بالنظام الجمهوري الوراثي.
جاء الرئيس الى سدة السلطة العليا نتيجة توافق ثلاث ارادات في ظروف عدم وجود تعبير عن ارادة الشعب: الاولى ارادة الرئيس الراحل والثانية ارادة اصحاب النفوذ او اصحاب مراكز القوى الفعلية في السلطة، وأخيراً رغبة الابن. اما الحديث عن قيام توافق اجتماعي ادى الى تلك النتيجة، فهو محض ادعاء غرضه التبرير والدعاية.
لقد كثر الحديث عن هذا الموضوع في الاوساط الصحافية والسياسية المعارضة ولعل اهم تعليق على هذا الحدث ما جاء في بيان الجتمع الوطني الديموقراطي "ان تعديل الدستور ... على مقاس شخص واحد ... يتنافى مع ابسط مبادئ الديموقراطية ... وهذا ما جعل الناس يشعرون ... ان الرئاسة يمكن ان تنتقل بالوارثة. وهذا لا يخالف فقط نظامنا الجمهورية الذي أسس ... قبل استلام الرئيس الراحل حافظ الاسد، وإنما يتناقض مع تقاليد الأحزاب الساسية بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي وحتى مع تقاليد الانظمة العقائدية والشمولية التي حكمت معظم سنوات القرن العشرين".
الفكرة الثانية هي ان الاوضاع الحالية تراوح في مكانها، وليس هناك تغيير، على رغم الوعود الكثيرة التي اطلقت خلال العام الماضي.
لكننانسجل لخطاب القسم نكهته المختلفة ولغته الجديدة بالمقارنة مع اللغة السابقة، وأيضاً ذلك الاعتراف الواضح بوجود الأزمة بعد طول انكار لها، وبوجود المعارضة السياسية في شكل غير مباشر من خلال الاعتراف بالرأي الآخر، وبالعجز عن مواجهة الأزمة الشاملة من خلال التصريح بعدم وجود عصا سحرية ... هذه المسائل كلها تضمر الحاجة الى مساهمة الآخرين، خارج الأطر السلطوية التي ثبت قصورها عن الخروج من الأزمة بجهودها وحدها. الاستنتاج الوحيد والبديهي هو ضرورة الانفتاح والاصلاح السياسي، الأمر الذي تم التنكر له والتهرّب منه لاحقاً وحتى الآن.
من ناحية اخرى، واضح ان هناك تعقيدات خارجية في الوضع السياسي اضيفت مع الدخول في المرحلة الراهنة، يرتبط بعضها بالعلاقات الدولية للنظام، وبعضها باسرائيل منذ ايام باراك وبخاصة في ايام شارون، وبالعلاقات العربية التي من اهمها ايجاد حل للوجود السوري في لبنان، خصوصاً بعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوبه. ومع ان السلطة تراجعت قليلاً باعادة انتشار الجيش اخيراً، لكن هذا التراجع المحدود غير كاف. فالمجتمع اللبناني وغالبية قواه السياسية لا يرى للوجود السوري اي مسوغ وهو يرفض التدخل في شؤونه الداخلية. لقد آن الأوان لتصويب العلاقة السياسية والعسكرية بين بلدينا بما يخدم مصلحةا لتصدي لاسرائيل ودعم المقاومة وحماية الجنوب، بوما يحافظ للشعب اللبناني سيادته ودعم التدخل في شؤونه السياسية، وبخاصة تدخل الاجهزة الامنية السورية، كذلك من الضروري انتهاج سياسة متضامنة مع الشعب العراقي قوامها عدم الاعتراف بقرارات مجلس الامن الجائرة وفك الحصار، والصمود في وجه الضغوط الأميركية التي تسعى الى جعل السلطة تتراجع عن التدابير والاتفاقات التي عقدت معه. نحن نرحب بعودة العلاقات هذه وندعمها وهي في مصلحة البلدين.
تأتي هذه الصعوبات الخارجية لتؤكد ايضاً الحاجة الى الانفتاح وإطلاق قوى الشعب حرة تفعل وتسهم، وهي المسألة التي تلقى آذاناً صماء حتى الآن. في حين ما زالت القوى القديمة بنهجها السابق ومصالحها وأسلوبها في العمل، اذ تعمل على مواجهة هذه المشكلات من طريق المساومات، وتجهد من اجل تحييد المؤثرات الخارجية، حتى تنفرد بالداخل.
ولكن صحيح ايضاً ان هناك ثلاث مسائل تطورت، نرى فيها شيئاً جديداً لكنه صغير وباهت الى هذا الحد او ذاك، بالمقارنة مع ما كان ينبغي:
الاولى في دائرة الخوف. ذلك الخوف الذي اصبح جزءاً مكوناً وملازماً للحياة الاجتماعية والسياسية في بلادنا. يمتنع المواطن في ظله عن قول ما يفكر فيه، بل يقول غير ما يفكر. يخشى الاهتمام في الشأن العام، ويرى في اي شخص لا يعرفه مخبراً سوف يودي به الى ظلمة الأقبية المعروفة. يسجل ان هذا الخوف قد تراجع خطوة الى الوراء في العام المنصرم. صحيح ان هذا التراجع لم يشمل الا اوساط النخبة الثقافية والسياسية بعد، ولم يصل الى الحد الادنى اللازم لعودة الحياة العامة الى الجسم الاجتماعي، ولكنه شيء مهم بالمقارنة مع ما عشناه لأعوام طويلة وقاسية. مدلول هذه النقطة ان حرية التعبير قد انتقلت خطوة صغيرة الى امام.
الثانية مرتبطة بالأولى، ولكنها لأهميتها القصوى تأخذ استقلالها الخاص. وهي تغيّر اساليب عمل ونشاط الاجهزة الامنية وتدخّلها الفظّ في الحياة اليومية للمواطنين، وبخاصة غياب ما كنا نسمع به او نعانيه بكثافة في السابق، وهو عمليات الاعتقال وحجز الحرية. ما يلاحظ في عمل هذه الاجهزة حالياً هو تكثيف الاستخبار عن البشر من خلال المراقبة والاسئلة والاستدعاء، وربما كان هذا التكثيف تعويضاً عن الامتناع عن الاعتقال، ليقوم ببعض وظيفته القمعية، من خلال الضغط النفسي على الافراد والمجتمع عموماً. او ليكون جاهزاً لتوجيه ضربة اذا عادت الاوضاع الى مسيرتها الاولى كما يحلم اصحاب الرؤوس الحامية.
الثالثة في مجال الاصلاح ذاته. حيث تم التأكيد من السلطة على الاصلاح الاقتصادي، وعلى ضرورة ان ينتظر الاصلاح السياسي الى ان تتم معالجة ما هو اكثر اهمية في الاقتصاد ومعيشة المواطن ولكن الناس لم يروا شيئاً مهماً من هذا القبيل، وساد التشكيك في جدية ما يحدث. في هذا المجال نرى ان هناك نيات للاصلاح الاقتصادي، عبّرت عنها المراسيم التي صدرت او تلك التي تدرس. هذه المراسيم، وبغض النظر عن رأينا فيها، تدل الى اتجاه الى الاصلاح. هي ايضاً خطوة صغيرة، لأن شيئاً من هذه التوجهات لم ينفّذ على الأرض. ففي الوقت الذي بدا به انها مرتجلة احياناً، برز جسم النظام مقاوماً عنيداً لأي تغيير سواءً بطريقة مباشرة، او من طريق عمل الآلة البيروقراطية والتلخف الاداري وضعف الكفايات عدن اصحاب المناصب الذين اعتادوا على التسلط والانتفاع واعتزلوا المصلحة العامة.
يمكن اختصار الوضع في البلاد بكونه ازمة ركود شامل وتأخر واسنداد افق في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
يجري التعبير والدفاع عن الركود الشامل من جانب النظام باسم الحفاظ على الاستقرار وتأمين الاستمرارية. هذا النهج تجسيد لرغبة المتسلطين والمنتفعين بتأمين دوام تسلطتهم وانتفاعهم، وتجسيد لقلقهم من اي جديد لا يقدرون على تبين نتائجه، وتجسيد ايضاً لقوة العادة بعد ان تزصلت واستفحلت.
ويجري الدفاع عن التأخر باسم الخصوصية الثقافية، مثلما يجري حين يقال "ان الديموقراطية ينبغي ان تتلاءم مع الشعب الذي يمارسها"، كغطاء للفكرة التي تتملك المتسلط ان الديموقراطية ينبغي ان تتلاءم مع السلطة التي تمنح منها ما يزيد عن حاجة الاستبداد، لو زاد شيء. ومثلما يجري في تبرير عرقلة الاصلاح الاقتصادي باسم الحفاظ على المنجزات او الدفاع عن القطاع العام او المصالح الاجتماعية. في حين يكمن الجذر في المحافظة على مصالح الذين يجنون الثروات من الفساد ويحلبون البلد من طريق مراكزهم.
الازمة هي انسداد الأفق والوصول امام الجدار. ونحن وصلنا الى هذه الحال منذ زمن طويل، وتأخرنا في مواجهة هذه الازمة من طريق انكار وجودها اوصلنا الى تعقيد المخرج الآن.
في الاقتصاد هناك عجز عن توفير السيولة وتشجيع الاستثمار ومواجهة البطالة. عجز عن تشجيع القطاع الخاص الذي يشكو من هيمنة الفساد والبيروقراطية وغياب القوانين لمصلحة ارتجال السلطات والقوانين الاستثنائية. وعجز عن مواجهة اوضاع القطاع العام بالجرأة والكفاية المطلوبة، وعجز مع ارادة ملتبسة في تحسين شروط المعيشة التي اوشكت ان تصل الى حدود الكارثة الاجتماعية.
في المجتمع هناك عجز عن النشاط والاجتماع بذاته، وغياب عن الشأن العام، وتمييز وخوف وتشتّت. وفي السياسة قصور في تحقيق الاجماع حول القضية الوطنية، وضياع في الموقف من "الخارج"، فللمواجهة الناجعة للصراع العربي الاسرائيلي، وخصوصاً بعد وصول شارون الذي يدفع المنطقة وسورية بالذات في قلبها الى هاوية الحرب، يتوجب توحيد طاقات الشعب وإطلاق قوى التحديث والتغيير وإشاعة الديموقراطية والعقلانية في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وغياب لدور البعث ذي المليون والنصف إلا ما يراه الناس من سطوة قيادييه الذين صاروا من عالم الماضي. وهناك افلاس في احزاب الجبهة وتجنّب للسياسة الفعلية واستسهال للاستمرار على ما تعوّدوه وعوّدوا عليه الناس، الأمر الذي افتقدت من خلاله هذه الاحزاب ارادتها السياسية ووصلت الى حال لا تسر موالياً ولا معارضاً. مثالها الحي ما يتعرض له تنظيم الاشتراكيين العرب اخيراً بعد وفاة المرحوم عبدالغني قنوت.
هناك ايضاً موقف ملتبس من المعارضة، او موقف مختلف ما بين رجل سلطة وغيره احياناً ... مع حذر وتثمير لحال القمع والترهيب الطويلة، استبعاداً لمواجهة الحال السياسية الطبيعية التي تتطلب وجود سلطة ومعارضة، ولمصلحة البلد الملحّة. في حين ما زالت هذه المعارضة اسيرة ماضيها الطويل الراكد هو ايضاً في شكل من الاشكال، مستسلمة لحال الضعف وعاجزة عن تجاوزه، سواء كان ذلك بالأساليب ام بالفكر والسياسة والممارسة.
احس الناس ان هناك جديداً ممكناً، وأحسوا بالحاجة الى الحراك والتململ ومحاولة العودة الى النشاط العام. فبادرت نخب الى اصدار البيانات التي تبحث وتدل الى ابواب الخروج من الحال الراهنة. ثم مارسوا الاجتماع اللازم حتى يكون المجتمع حياً، واستنبطوا المنتديات حتى يتداولوا في شأنهم الثقافي - الاجتماعي، وابتدأ الشعب السوري بالفرجة على ما يجري في اوساط المثقفين غير مصدق بعد ان الأبواب قد انفتحت. ثم جاءت مواقف النظام في منع المنتديات لتؤكد للقلقين قلقهم وللمتشككين شكوكهم.
لم تظهر في الفضاء الاجتماعي - السياسي في سورية قوى تعبّر بفعلها ومستوى نشاطها عن الحاجات الملموسة للبلاد. فلا الفئات ذات المصلحة في تأمين وتطوير الاقتصاد ذي الطبيعة الرأسمالية تقدمت ببرامجها ونظمت قواها، إلا في محاولات فردية ومحدودة حتى الآن. ولا القوى الاسلامية قامت بمراجعة طروحاتها وممارساتها وعادت الى المساهمة الجديدة، على رغم الأهمية الخاصة لمشروع ميثاق الشرف الذي طرحه الأخوان المسلمون من الخارج، والذي يشكل انتقالة نوعية وواعدة. ولا القوى المعارضة الديموقراطية استنفرت قواها على المستوى المقبول، من اجل برنامج وضمن نشاط يلتقي عملياً مع اسئلة وطموح الشعب، ويحوّل قلقه على واقعه ومصيره الى فعل مغيّر خلاّق.يمكن توصيف الحال الراهنة من الناحية السياسية على انها "توازن الضعف" القائم في جزء منه على الخوف المتبادل استعادة من تعبير توازن القوى. فالقوى الموجودة جميعها ضعيفة، في النظام وقواه المتعددة من جهة، وفي المعارضة وقواها المختلفة من جهة اخرى. مثل هذه الحال تستدعي جهداً اضافياً، وانعطافاً في المواقف الثابتة المتخشبة، للبحث عن مخرج من المأزق الكبير.
وصل موقف نيربية الى سؤال لم يعد الجواب عليه سهلاً: هل العام الماضي هو العام الأول في عهد يحاول ان يكون جديداً ومختلفاً، ام انه مجرد عام يلي الأعوام الثلاثين الماضية ويحمل الرقم الحادي والثلاثين، ويحسبون انه سوف يؤمن للاستمرار على الحال ذاتها اعواماً وعقوداً اخرى من حياة شعبنا؟!
4 آفاق الخروج من حال الاستبداد الى الديموقراطية
بداية، ينبغي القول انه اصبح من الواضح استحالة تحقيق الاصلاح والتغيير بالاعتماد على قوى السلطة الذاتية، او بتحقيق "الثورة من فوق"، أو بما يسمى بالاصلاح الرئاسي، هل نستطيع القول ان السيد الرئيس استلم منصباً ولم يستلم سلطة. فجميع القوى التي تُعلن انحيازها الى الاصلاح في السلطة عاجزة لضعفها او لتركيبتها ان تنهض بهذا الاصلاح، وتجربة العام الماضي ماثلة للعيان. فللاصلاح رافعته اللازمة التي لا تتحقق الا بتوفير قواه، وهذا غير ممكن الا بالانفتاح على القوى التي لها مصلحة في التغيير، والسير قدماً بالاصلاح السياسي ذاته. تعقيد الازمة الداخلية يكفي وحده للتوصل الى هذا الاستنتاج، فكيف اذا تضافر معه تعقيد متزايد في العلاقة مع الخارج، وبخاصة في مواجهة الحالة الاسرائيلية المستفحلة.
والمدخل الى عملية التغيير هذه هو إحياء الثقة وبعث الأمل بين الناس، وعناصر هذه العملية لم تتوفر بع.
والتغيير على أنواع في السياسة: تغيير عن طريق العنف للاطاحة بالنظام السائد ولم يعد هنالك مقومات للنجاح في مثل هذا التغيير او حتى استعداد للتضحية أو ميل للمغامرة بالقفز في المجهول او امكانات "لوجستية" كما في القرن الماضي.
وتغيير عن طريق البرلمان في بلد تفرض سلطته نواباً لا يُمثلون الناس فيه، او له من التقاليد ما لا ينهدم بسهولة.
وتغيير من قبل الحاكم ذاته، او كما سمّاه ماركس "ثورة من فوق" حين تكلم عن التغيير في ألمانيا القرن التاسع عشر.
وتغيير عن طريق "التعاقد"، ما بين سلطة تسلّم بعجزها عن الاستمرار بالحكم على الطريقة ذاتها امام ازمة مستفحلة تحتاج الى جهد جماعي، وقوى الشعب الاخرى التي تجتمع على العقد وتتحاور وتبدأ بالتغيير بشكل يتم التوافق عليه.
جوهر المسألة حالياً هو الانتقال من حالة الاستبداد او التسلط الى الديموقراطية، الأمر الذي يعني ان معركة التغيير معركة طويلة وصعبة ومعقدة، ومع الأخذ بعين الاعتبار كل المعاني السابقة للتغيير وكل المخارج المحتملة من المأزق البنيوي العميق للوضع السوري فإن الحاسم والجوهري في كل ذلك وعلى طول الخط هو وحدة المعارضة ومركزة نشاطها السياسي وإصرارها العنيد على الحلقة المركزية التي هي حلقة الاصلاح الديموقراطي الشامل.
كانت الدولة الاستبدادية في أوروبا مرحلة انتقالية ما بين الاقطاعية والرأسمالية، او ما بين الهيمنة المتشتتة والديموقراطية. عهد لوريس الرابع عشر وبسمارك من أمثلة التاريخ.
الدولة التسلطية نموذجها دول اميركا اللاتينية، حيث يتسلط حاكم باسم الشعب ويوزع التسلط هرمياً، معتمداً على قوانين يسنها او يتخطاها. وتسود الاقتصاد والمجتمع نزعة الأوامر والتوجيهات و"القرار السياسي" كلّي القدرة على خرق المنطق.
الدولة الشمولية نموذجها موسوليني وهتلر والاتحاد السوفياتي، حيث يندمج الكل في الدولة ولا يبقى ما هو ضدها على تعبير موسوليني، ويتحقق الأمر عن طريق الحزب الواحد المتضخم، الذي قد يتحول الى ميليشيا احياناً، وعن طريق "المنظمات الشعبية" التي تنظم الجميع تحت السيطرة التي تتجسد في افراد وأجهزة خفية واسعة النفوذ.
نحن "نعتز" بأن لدينا شيئاً من جميع هذه "الدول"، وليس لدينا شيء واحد حتى نهايته.
نختصر المسألة اعتبارياً بأن نقول انها: الانتقال من الاستبداد الى الديموقراطية، وهذا في علم الاجتماع، أقلّ التعبيرات المحتملة هجاءاً. بل يمكن ان يكون فيه بعض القبول لمرحلة طبيعية في تاريخ الدول الاستبداد، انتهى مفعولها منذ زمن... وهذا أيضاً كلام يحمل النسبية في تعبيره عن الحقيقة.
النظام بتركيبته يُحمل من قبل مؤيديه على ايديولوجيا "المستبد العادل" في الممارسة العملية. ليكن الاختلاف على مفهوم العدل إذن.
هنالك احتمال بأن يتم التغيير على الطريقة الرابعة، وربما كان الناس اغلبهم يفضلونها، عن تعب وإرهاق وطول نصب على الأقل. وهنالك نقاط خمس للنقاش كما أرى:
أولها "ردّ المظالم الى أهلها" أو "البحث عن الحقيقة والعدالة": هذا يتضمن اتخاذ اجراءات اعادة الثقة والأمان، بما فيها الاعتذار الى الفئات والأفراد الذين مورس ضدهم أو ضد ذويهم الارهاب والسجن والقتل والتشريد. ويتضمن ايضاً الافراج عن جميع السجناء السياسيين والكف عن ملاحقة الملاحقين والسماح بعودة المنفيين طوعاً أو قسراً الى وطنهم والى وظائفهم، والكشف عن المفقودين والتعويض لذويهم، وإلغاء حالة الطوارئ والقوانين والمحاكم الاستثنائية والحرمان من الحقوق المدنية والمنع من السفر وإعادة الأموال المنقولة وغير المنقولة، المصادرة والمنهوبة والتعويض عن الخسائر والاضرار التي لحقت بأصحابها. وإعادة الاجهزة الأمنية الى مهامها الوطنية والقانونية وإنهاء تسلّطها على العباد وتطهيرها من المجرمين والفاسدين، واستصدار القوانين الصريحة بوقف التعذيب وكل أشكال الإكراه المادي والمعنوي وتحديد عقوبات صارمة بحق كل من يرتكب مثل تلك الجرائم، والانطلاق بحرية الرأي والتعبير في مسار طبيعي.
وثانيها البحث في أسس الحوار وعناصره والمشاركين به من جميع المهتمين بالشأن العام من معارضين وموالين ومثقفين جميعاً. والبدء في تمرينات على الحوار لا تهدف الى الاحتواء او الانتهاز او المماراة او التقةي او غير ذلك، بل تمرينات عصرية ومكشوفة وعلنية وجريئة من دون اللجوء الى الاسلحة الخفية او المناورات السلطوية او المعارضة.
وثالثها الاستقرار على مبدأ المصالحة الوطنية طريقاً للخروج من حالة التخندق والتلطي والنوايا السيئة. هذه المصالحة مطلوبة ما بين الشعب وأهل النظام، وما بين السلطة والمعارضة شأكالها، وهي تحتاج الى الثقة التي لا يمكن بناؤها الا بخطى ملموسة تتعزّز من خلالها ميول التسوية وتتراجع ميول العداء والخوف والثأر.
ورابعها الاعتراف المتبادل بالجميع من قبل الجميع. ولتتقدم القوى كلها نحو دائرة الفعل وإرادة التغيير. ليحاول حزب البعث اصلاح نفسه وقوى الجبهة المختلفة وفصائل التجمع الوطني الديموقراطي والحركات الاسلامية وغيرها من القوى التي سوف تتبلور وتنتظم حتماً هي أو بدائلها ما دام المجتمع بحاجة اليها. التغيير التاريخي المطلوب بحاجة الى ما يمكن ان يكون كتلة تاريخية.
وخامسها صياغة برنامج التغيير الوطني الديموقراطي من حيث بنيته وترتيبه وتزمينه، ومن حيث توافقه مع الحاجة الموضوعية والمعاصرة والمصلحة الوطنية. ولا يختلف احد كما أظن على التدرّج في تطبيقه، فحتى اكثر البلدان ديموقراطية تقول انها لم تصل ولن تصل الى الديموقراطية الحقيقية والمتكاملة، ولكنها تحلم وتبحث وتطوّر بها دائماً. فبعد ان تتحقق "الكلمة السواء"، وتنبعث الثقة من خلال تبييض السجون وإنهاء حالة الطوارئ وابتعاد الاجهزة الأمنية عن حياة الناس، يمكن الدخول في مرحلة انتقالية تتطور بها الحريات وتنتظم الاختلافات في الاطار الوطني، وتنتعش الحياة الحزبية والجمعيات الأهلية بشكل حر وشرعي، وتعود الصحافة الحرة، ويسود القانون، وتزدهر المواطنية... حتى الوصول الى نظام وطني ديموقراطي يقوم على دستور حديث يضمن للبلاد ألاّ يقطع الاستبداد طريقها الى المستقبل.
نحن ندعم الاصلاح، او أية خطوة اصلاحية. ولكن دعمنا هذا لا يكفي وحده لضمان مسيرة الاصلاح وجدّيتها، ما لم يدعم أهل الاصلاح انفسهم، وما دام خصومه قادرين وحدهم على تنظيم صفوفهم وإفشال أية خطوة الى أمام. نحن ندعم الاصلاح ما دام نيّة حقيقية وأفعالاً على الأرض.
غير ذلك، التغيير قادم لا محالة. ولن يرحم التاريخ من يقف في طريقه، أو يتردد في سلوك دربه. فإذا كان هذا صحيحاً... لماذا لا نعمل على تخفيف آلام شعبنا، فقد اكتوى الشعب بالألم الى درجة لم تعد تطاق واصبحوا يتوقون الى مستقبل مفعم بالحرية والكرامة والأمن؟!
* الأمين العام ل"الحزب الشيوعي - المكتب السياسي"، والمحاضرة ألقاها في منتدى الأتاسي في دمشق في 5/8/2001.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.