توفيق المديني الجزائر الحركة الاسلامية والدولة التسلطية دار قرطاس للنشر، الكويت. 1998 . 250 صفحة. منذ بداية عقد التسعينات من القرن الحالي يستحوذ الملف الجزائري بتداعياته ومأسويته على اهتمام الاوساط الشعبية والرسمية العربية، ويشكل في الآن ذاته مدخلاً مناسباً لتدخلات خارجية في الشأن الداخلي قد تقود في نهاية المطاف نحو تهديد استقلال الجزائر وسيادتها، اضافة الى تقويض اسس هويتها. وفي سياق اعادة قراءة اوراق الملف الجزائري يقدم الباحث توفيق المديني كتاب "الجزائر الحركة الاسلامية والدولة التسلطية"، المكون من توطئة وقسمين يضم كل منهما عدداً من الفصول، وملحقاً يضم البرامج السياسية للجبهة الاسلامية للانقاذ، وحركة المجتمع الاسلامي حماس، وحركة النهضة. بعد تقديمه وتوصيفه المكثف لتوجهات النخب السياسية الحاكمة في دول المغرب العربي في اعقاب انجاز مهمة الاستقلال الوطني، يوضح المؤلف العوامل الحاسمة التي أدت الى فشل المشروع التحديثي العربي، وفشل التحديث العالمثالثي، ومن أهم هذه العوامل التي ما زالت مستمرة ظهور اشكال متعددة للدولة التسلطية على المجتمع، ومنها الدولة التسلطية في الجزائر، التي اخضعها المؤلف لتحليل معمق في الفصول الاربعة المكونة للقسم الاول من الكتاب الذي وسمه ب "اوهام الثورة الجزائرية، ومضامين التجربة العسكرية". ففي الفصل الاول أشار الى الارهاصات الاولية لولادة المجتمع المدني في الجزائر بعد انجاز الاستقلال الوطني، لجهة تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية، وصياغة برنامج طرابلس، فيما عرض في الفصل الثاني تفاصيل ازمة صيف 1962 التي فجرت مجموعة من التناقضات الشخصية والسياسية والايديولوجية بين الكتل السياسية المتصارعة على السلطة في الجزائر. هذا الاختلاف ادى الى تجدد ازمة البلاد واحتدام الصراعات حول التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي تكريسها لبناء البلاد. فقد احتدمت الصراعات، مثلاً، حول خيار التسيير الذاتي كنموذج اقتصادي للجزائر، وحول دمقرطة البلاد واشاعة التعددية السياسية، وانتهت الى اقصاء بن بلا عبر انقلاب عسكري قاده العقيد هواري بومدين الذي ارسى سلطة العسكر في الجزائر وعلق الدستور والجمعية الوطنية، وحل المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، وشكل مجلس قيادة الثورة الذي يتمتع بصلاحيات أعلى سلطة سياسية وتشريعية وقضائية، واستبدل خيار التسيير الذاتي بخيار الصناعات التصنيعية، وأرسى اسس نظام حكم الحزب الواحد في الجزائر، الذي نشر ايديولوجيا الدولة التسلطية المعبرة عن نمط من الاشتراكية المبتذلة وإفقار البلاد وتغييب دولة القانون. وفي الفصل الرابع، عرض المديني لأشكال وصاية العسكر على المجتمع المدني في الجزائر ومنها فرض نظام حكم الحزب الواحد الذي قاد "ثورة من فوق" متسلحاً بخطاب "اشتراكي شعبوي، يمجد تدخلية الدولة غير المحدودة لافشاء هذا الاعمار الداخلي ذائع الصيت، اي النموذج الوطني للتنمية القائم على استراتيجية "الصناعات التصنيعية". وعمل خلفاء بومدين على تكريس اسس الدولة التسلطية المتمثلة في رأسمالية الدولة، وهيمنة البيروقراطية المركزية العليا على سلطة القرار السياسي، وفصل المؤسسات الدستورية والديموقراطية عن وظيفتها، وخاضوا صراعات في ما بينهم ادت الى تسلم الرئيس الشاذلي بن جديد للسلطة، وهو الذي "نقل حزب جبهة التحرير الوطني من الديكتاتورية العسكرية الفردية الى التسلط البيروقراطي الجماعي، اذ عمد الى توظيف الحكومة والادارة والمؤسسات الحكومية لمصلحته". وبهذه النقلة تعمقت الازمة البنيوية للنظام البيروقراطي الجزائري. اما في القسم الثاني المعنون "الجزائر فوق بركان الاسلام السياسي"، عرض المؤلف في فصله الاول لنشأة تيارات الحركة الاسلامية في الجزائر بدءاً ب "جمعية العلماء المسلمين" التي اسسها الشيخ عبدالحميد بن باديس عام 1936، ومروراً ب "جمعية القيم" التي تزعمها الهاشمي التيجاني 1963 التي احتجت على اعدام سيد قطر في مصر، ونتيجة لذلك اوقف بومدين نشاطها في 22/9/1969 وحلها في 17/3/1970. وأشار المؤلف الى ان فترة التأميمات النفطية والثورة الزراعية شهدت توالد عدد كبير من المنظمات الاسلامية مثل "الجماعة الاسلامية" و"جماعة الاصلاح"، و"جماعة الدعوة والتبليغ"، وغيرها من المنظمات التي واجهها نظام هواري بومدين بموجة من الاعتقالات التي طالت قادتها ومنهم الشيخ محفوظ نحناح الذي حكم عليه بالسجن 15 عاماً بعد نشره بياناً بعنوان "الى أين يا بومدين؟" ثم خرج من السجن بعفو خاص من الرئيس الشاذلي بن جديد. وفي الفصل الثاني، عرض المديني لحيثيات انتفاضة اكتوبر 1988 ولظروف نشأة الجبهة الاسلامية للانقاذ، وظروف الاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد في 23/2/1989، كما قدم تحليلاً لتركيبة الجبهة الاسلامية للانقاذ وتياراتها الرئيسية: الاصلاحية والمتشددة وتيار الجزأرة، التي قادها كل من الشيخ عباسي مدني وعلي بلحاج والشيخ محمد السعيد. كما عرض لظروف نشأة حركة المجتمع الاسلامي "حماس" بزعامة مؤسسها الشيخ محفوظ نحناح، رجل "الشوراقراطية". وأبرز المؤلف تمايزها عن الجبهة الاسلامية للانقاذ، ومظاهر تطورها في سياق الازمة الجزائرية. كما عرض المؤلف لظروف نشأة "حركة النهضة الاسلامية" عام 1989 بزعامة الشيخ عبدالله جاب الله، ولمحاولات توحيد جهود المنظمات الاسلامية. وخصص المديني الفصلان الرابع والخامس لعرض تحليلي لاندلاع الازمة الجزائرية نتيجة لرفض السلطات الحاكمة لما أفرزته انتخاب المجالس البلدية والولائية والبرلمانية من نتائج اظهرت الفوز الكاسح للجبهة الاسلامية للانقاذ، الذي أهلها لاستسلام السلطة سلمياً في الجزائر. وتمثل هذا الرفض السلطوي بنشوب حرب اهلية وحروب قذرة بين مؤسسات واجنحة السلطة المرتبطة بشكل او بآخر بجهات اجنبية فرنسية واميركية على وجه الخصوص. اما في الفصل السادس، فقدم المؤلف لجهود المعارضة الجزائرية المكونة من احزاب اسلامية وعلمانية وعدد من الشخصيات السياسية الوطنية، لمواجهة الازمة والتوصل الى عقد وطني جديد، تمثل في نتائج ندوة روما الثانية التي عكست تحولاً جوهرياً في الازمة الدموية التي تعصف بالجزائر لجهة اقرار برنامج لحل سياسي وسلمي للأزمة الجزائرية، لكن الحكومة الجزائرية رفضت نتائج ندوة روما واتهمت المشاركين فيها بالعمالة لمؤسسات وقوى اجنبية، واعتبارها اجتماع روما، انه "يدخل في سياق تدويل الازمة الجزائرية، ويعد تدخلاً في شؤونها الداخلية". وارفقت الحكومة هذا الرفض باتباعها استراتيجية جديدة ترتكز على الدعوة الى اجراء انتخابات رئاسية، وخلط الاوراق ومحاولة نقل الصراع الى صفوف المعارضة الاسلامية على وجه التحديد. ونتيجة لهذه الاستراتيجية تفجرت التناقضات بين الجبهة الاسلامية للانقاذ والجماعات الاسلامية المسلحة التي ترفض من جانبها جملة وتفصيلاً اي حوار مع السلطة العسكرية. وفي الفصلين السابع والثامن من أبرز المديني تحولات المشهد الجزائري في أعقاب انتخاب الرئيس اليمين زروال، وأشار الى مواقف المعارضة من الرئيس الجديد، والى مظاهر تدخل باريس وواشنطن في الازمة الجزائرية. وحلل ابعاد الاستفتاء العام على الدستور، هذا الاستفتاء الذي "كشف عن ان النظام الجزائري لا يخرج عن السياق العام للانظمة السياسية التسلطية في العالم الثالث، نظراً لافتقاده الكلي أي استراتيجية عمل جماعية للتعبير الديموقراطي تسهم في صوغها مكونات الجسم السياسي الجزائري والقوى الحقيقية والفاعلة في الساحة الجزائرية". وخلص المديني في خاتمة الكتاب الى القول ان "عنف الدولة التسلطية الجزائرية هو العامل الرئيسي في توليد العنف المضاد في العلاقات السياسية الداخلية، في ظل غياب السياسة الواقعية الراديكالية الحقة في التعامل مع الازمة الجزائرية". ووجد في المقابل ان "النظرة العقلانية السلمية تتطلب من الجبهة الاسلامية للانقاذ ان تنظر الى المسألة الديموقراطية على انها تعبير عن الكل الاجتماعي، وان تقر، وتعترف، بواقع التعدد، والاختلاف، والتعارضات الاجتماعية الملازمة لها، ولا سيما الصراع الطبقي، والصراعات الثقافية، والسياسية التي تنمو في هذا الكل الاجتماعي، وكما من حق الاسلام السياسي، وحق الحركات الدينية في السياسة، فان على الاسلاميين ان لا يقعوا في اخطاء غيرهم من التيارات الماركسية والقومية، حين يجعلون من حركتهم السياسية الجزء بدلاً من الكل، لأنهم بذلك يؤسسون لاعادة انتاج الدولة التسلطية، التي تقود بالضرورة الى الاقتتال الاجتماعي، والحرب الاهلية".