ولكن لماذا تأخر نشر "البيضاء" من سنة نشرها مسلسلة 1959 في جريدة إلى سنة نشرها في كتاب 1970؟ غالب الظن أن السبب يرجع إلى شعور يوسف إدريس بالحرج من نشرها كتاباً، خصوصاً بعد أن آذته الاستجابات السلبية لها، بسبب ما فيها من نقد لرفاق كانوا يعانون أبشع أنواع التعذيب في السجون الناصرية، فطوى أوراق روايته، واندفع في كتابة "العسكري الأسود" التي سرعان ما نشرها سنة 1961، ومضى في كتابة قصص قصيرة عن السجن ما بين سنتي 1961 و1967، وظل يواصل بالكتابة تعرية آليات القمع التي تمارسها الدولة التسلطية، والكشف عن المستور من بواطن الفساد وألوان النفاق التي ظلت تنخر في البناء الذي سرعان ما تهاوى مع كارثة العام السابع والستين. ومع استمرار يوسف إدريس في الكتابة الناقدة لسلطة الدولة التسلطية، وإنجازه ما يُعَدّ أبلغ دليل على موقفه المضاد لطبيعتها القمعية، شعر الكاتب الذي جاوز حتى حدود الهامش المسموح به أن الوقت حان للامتداد بنقد التسلط من الدولة إلى الرفاق، تأكيداً لوحدة المبدأ المعادي للتسلط بكل أوجهه. ولكنه لم يجرؤ على أن يفعل ذلك إلا بعد أن تأكدّ من امتلاء رصيده المناقض لتسلط الدولة، خصوصاً بعد كارثة العام السابع والستين. وقد دفعت هذه الكارثة يوسف إدريس إلى إعادة النظر في زعامة عبدالناصر الذي كان ألمح إلى تسلطه حتى من قبل هزيمة 1967. ولكن التمرد الجذري على كارثة الهزيمة حرره من بعض تردده القديم في مجابهة كل تسلط، ابتداء من تسلط الرفاق وانتهاء بتسلط قمة الدولة. فكتب مسرحية "المخططين" ونشرها سنة 1969. وهي مسرحية تدين التسلط الذي يختزل الناس والوجود جميعاً في لونين اثنين: أبيض وأسود، من دون وسائط ولا ألوان مغايرة. والمسرحية تمثيل كنائي أليغوريا متعدد الأبعاد، فهي - من ناحية - مواصلة لانتقاد طريقة تفكير أمثال البارودي، سواء على مستوى الوعي الأصولي المبني على التعصب والتطرف وإلغاء المغاير واستئصال المختلف، أو مستوى الممارسة التسلطية في القيادة والسلوك، حيث الأنا الأعلى للزعامة التي تحتكر المعرفة اليقينية، وتنزل نفسها في منزلة أسمى من منزلة الرفاق الذي يتحول إلى أتباع، لا يفترق منطق الاتِّباع في سلوكهم عن معنى التبعية للأنا الأعلى، أو لمن يحل محله، على طريقة: "الملك هو الملك" - إذا استخدمنا عنوان مسرحية سعد الله ونوس 1941-1997 الشهيرة التي ظهرت بعد "المخططين" بعامين فحسب. ولذلك فالشبه بين "الأخ" في "المخططين" و"البارودي" في "البيضاء" لافت للانتباه في العلاقات السياقية التي تربط بين المسرحية والرواية، متجاوبة بالدلالات التي كانت تجعل من البارودي "أعمى يقود" وتنتهي بشخصية "الأخ" الزعيم إلى أن يغدو "أعمى" البصيرة لا البصر، في مجال الدلالة الرمزية. وعمى الأول مقترن بما كان يفعله حين لم يكن يرى إلا رأيه، ولا يقبل إلا أفكاره، رافضاً أو مستئصلاً ما خالفها. والثاني لم ير سوى المنافقين والانتهازيين، ولم يسمع سوى أصوات التأييد والتصديق والإذعان. ولأن الأول لم ينتبه إلى ما هو علىه، فقد ظل "أعمى يقود" بالمعنى الرمزي الموازي للمعنى الفعلي. أما الثاني فقد استيقظ وعيه بفعل صحوة ضميره، خصوصاً حين أدرك أن السعادة الكونية التي حلم بتحقيقها للجميع لم تحدث، وأن اليوتوبيا التي عمل من أجلها تحولت إلى كابوس مريع، فقرر الثورة على نفسه وعلى ما حوله، ماضياً إلى نهايته المحتومة. و"المخططين" - في بعد ثان من أبعادها - نقد لاذع لآليات الدولة التسلطية التي تحتكر مصادر القوة في المجتمع لمصلحة النخبة الحاكمة، عسكرية أو حزبية، وذلك من طريق اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية تعمل بصفتها امتداداً لجهاز الدولة، فتغدو هذه المؤسسات استجابة آلية، مذعنة، لنواهي وتعاليم الزعيم الأوحد للدولة، والرئيس الأعلى لأجهزتها القمعية. وإذ تقوم شرعية هذه الدولة على استعمال العنف والإرهاب، بعيداً من وسائل الشرعية التقليدية، فإنها تحتكر النظام الاقتصادي الذي تلحقه بها من طريق التأميم أو الهيمنة البيروقراطية، جنباً إلى جنب الهيمنة القمعية التي تقترن بعدم وجود انتخابات لها معنى، وعدم وجود دساتير فاعلة، وتجميد الحقوق المدنية، أو تعلىقها، وتحويل نسبة عالية من الدخل القومي إلى الانفاق على الأجهزة القمعية لهذه الدولة في بنيتها التسلطية. وبالطبع، لا تنفصل هذه البنية عن الرسائل الإيديولوجية التي تبثها أجهزة الدولة، وذلك بهدف تأكيد معنى الإجماع الذي يستند إلى ما يريده الحاكم، وإقرار صفات اليقين الملازمة لأفكاره، أو الأفكار المنسوبة إليه. ويقترن ذلك بتأكيد القيادة التي تتجسد في شخص الزعيم الملهم، والتضحية بمبادئ الحرية في سبيل قواعد التوحيد الذي تفرضه القيادة، وتأسيس التراتب الهرمي بين القيادات والمؤسسات بصفته الوجه الآخر للتراتب العسكري. ويلزم عن ذلك إلزام المرؤوس بالطاعة المطلقة للرئيس في كل أوجه الممارسة الاجتماعية والسياسية، ما ظلت هذه الممارسة مبنية على رابطة المصلحة التي تصل بين كل عناصر البناء البطريركي للدولة التسلطية. وهناك بعد ثالث في مسرحية "المخططين" يترتب على نقد الدولة التسلطية ويلازمه، خصوصاً من المنظور الإيديولوجي الذي يتصل بالأنظمة الشمولية، الشيوعية أو النازية أو الفاشية، وعلى وجه التحديد النظام الستاليني السوفياتي الذي غدا محلاً لهجوم الكثيرين ونقدهم، حتى من داخل فصائل اليسار المصري التي انطوت بعض أجنحتها على عناصر تروتسكية معادية للاستبداد الستاليني والشمولية السوفياتية في الوقت نفسه. وتناوش مسرحية "المخططين" هذا البعد، غامزة الأصل التسلطي الذي انتقده الكثيرون، مراوغة المظهر المصري الذي تزايدت درجات تسلطه في علاقتها بقضية الديموقراطية. وأحسب أن ذلك هو سبب تسمية البطل - في "المخططين" - باسم "الأخ". وهو الاسم الذي يسترجع اسم "الأخ الأكبر" بطل رواية جورج أورويل 1903-1950 الشهيرة "1984" المنشورة سنة 1949. وهي نقد صريح للنظام الشمولي الستاليني في الدرجة الأولى. وتتجاوب هذه الأبعاد كلها وغيرها في البناء الدرامي داخل المسرحية "المخططين" التي حرص يوسف إدريس على المراوغة التقنية فيها، تخفيفاً لحدّة النقد السياسي، وتعمية للأعين الراصدة، خصوصاً تلك التي يمكن أن ترى في "الأخ" رمزاً لعبدالناصر، أو رمزاً لزعامات مشابهة، في تسلطيتها، أو ترى في المسرحية عموماً نقداً قاسياً للبنية السياسية الشمولية للاتحاد السوفياتي، الصديق الذي لم تكن الدولة المصرية - في ذلك الوقت - تسمح بالهجوم علىه. ومع ذلك انتبهت الأعين الراصدة إلى مراوغات يوسف إدريس، ومنعت المسرحية من العرض في اللحظة الأخيرة، قبل ظهورها على المسرح. ومن الواضح أن الرقيب لم يفته المغزى المكشوف في المسرحية، فالأخ قائد مجموعة سرية، عملت على الاستيلاء على سلطة إحدى المؤسسات أي الدولة. وتنجح في أن تزيح رئيس مجلس الإدارة لتضع محله قائدها "الأخ" الذي تفتديه بالروح والدم. والمجموعة تصل إلى حكم المؤسسة بواسطة الحيلة التي تتجسد في غواية "ألماظ" التي لا ينقطع عونها إلى أن يصبح المجتمع كله مخططاً، محصوراً ما بين لونين ثابتين، حديين، هما الأبيض والأسود. وتتوزع المجموعة السلطة الانقلابية، وذلك من خلال شخصيات، تغدو كل واحدة منها تمثيلاً لقطاع بعينه من قطاعات أصحاب المصالح الذين استولوا على الغنيمة، خصوصاً بعد أن أعانوا "الأخ" على ممارسة استبداده الذي لم يتعارض مع مصالحهم، بل كان تجسيداً لها على نحو مباشر أو غير مباشر. وعندما يؤدي البناء الدرامي للمسرحية الأبعاد التي أشرت إليها، واصلاً بينها وغيرها على نحو ماكر، فإنه يلح على دلالتين محددتين، يهدف إلى توصيلهما لقارئ النص المسرحي، أو مشاهد العرض. والدلالة الأولى خاصة بانهيار الحلم الذي تحوّل إلى كابوس، الانهيار الذي أيقظ ضمير "الأخ" فأخذ يراجع نفسه، خصوصاً عندما رأى اليوتوبيا التي عمل على بنائها انهارت على أرض الواقع، أو بسبب الممارسات القمعية. والإشارة في هذا الانهيار إلى كارثة العام السابع والستين أوضح من أن أشير إليها، فالمسرحية مكتوبة بعدها بعامين فحسب، وربما أقل من ذلك، ولا يفارقها الشعور العام بانهيار الحلم القومي، أو يوتوبيا "مؤسسة السعادة الكبرى" التي حلم بها - قديماً - الصول فرحات 1956 في جمهوريته الوهمية. أما الدلالة الثانية فقرينة الرفض الكامل والإدانة الحاسمة لمبدأ الطريق الواحد الأوحد للاشتراكية... التنوع حتى داخل الوحدة الكلية المرنة التي تسمح بتباين عناصرها. وأغضبت المسرحية بعض الرفاق، فرأوا فيها تخلياً عن الاشتراكية ومعاداة لها، ووضعت أصابع الاتهام يوسف إدريس مع المرتدين والتحريفيين، إلى آخر ما يمكن ملاحظته في مثل مقال أمير إسكندر عن المسرحية بعنوان "ظلام آخر في الظهيرة" مجلة "المسرح" المصرية، حزيران يونيو 1969. والعنوان يشير مباشرة إلى أشهر روايات الكاتب المجري الأصل والبريطاني الجنسية آرثر كوستلر Arthur Koestler 1905-1983. أقصد إلى رواية "ظلام في الظهيرة" التي صدرت سنة 1940، مصوّرة فجيعة كاتبها في ممارسات الحزب الشيوعي الذي التحق به... وكان العنوان الذي استخدمه أمير اسكندر لوصف "المخططين" تعبيراً عن إدانته لها من ناحية، واتهاماً ليوسف إدريس نفسه بالتخلي عن الاشتراكية والكفر بها في دولة، كانت أجهزتها الإيديولوجية تتحدث - ليل نهار - عن "حتمية الحل الاشتراكي". ولكن رفاقاً آخرين رأوا في المسرحية هجوماً على الأنظمة الشمولية لا الاشتراكية، فأكد صبري حافظ في مقال نشره في المجلة نفسها، بعنوان "رأي آخر في مسرحية المخططين: ضد النظم الشمولية لا ضد الاشتراكية" المسرح، آب/ أغسطس 1969. وانتهى صبري إلى أن المسرحية تهاجم التسلط عموماً والأنظمة الاستبدادية البشعة بوجه خاص، والزعيم المستبد بوجه أخص، الزعيم الذي يقع في النهاية ضحية لاعتساف النظام الذي رعى تنفيذه وخطط لاستشرائه، فالتسلط يجهز على الضحية والجلاد معاً، لأن التسلط يُبنى على تلك النظرة الأحادية الجانب التي لا تعترف بنسبية الحقيقة، فيجهز على الطاقات البشرية الخلاّقة، وينحرف إرهابه بها عن جوهرها. ويرد صبري حافظ على الذين خوَّنوا يوسف إدريس، واتهموه بالردة على الاشتراكية، ووصفوه بأنه آرثر كوستلر آخر في سلسلة الردة المذهبية، بأنهم لم يعقدوا مقارنة ولو سطحية بين شخصية "الأخ" وشخصية "روباشوف" بطل رواية كوستلر "ظلام في الظهيرة" وبين "ألماظ" و"لوبا". ولو فعلوا لاكتشفوا الفارق الكبير بين كوستلر الذي يهاجم في روايته الفكر الاشتراكي نفسه، بينما يتبنى يوسف إدريس هذا الفكر ويدافع عنه، ويدعو إلى تثوير فهمنا له وإدراكنا لأبعاده الحقيقية التي تنقض الجمود الإيديولوجي والتسلط السلطوي بكل أشكالهما. ولكن هذا الدفاع لا يعني - بالضرورة - أن يوسف إدريس لم يفد من كتابات الذين تمردوا على تسلطية الأنظمة الشيوعية وهاجموها، في الغرب الرأسمالي، فقد سبق أن أشرت إلى أن "الأخ" - في المسرحية - هو الصورة الموازية، أو الصورة المصرية المشابهة لشخصية "الأخ الكبير" في رواية جورج أورويل "1984" . ولكن في منحى خاص، لا يتصل بمهاجمة الاشتراكية في ذاتها، وإنما بمهاجمة صلف الفكرة التي تختزل الناس إلى لونين فحسب، محرمة كل ما عداها من الألوان، متجسدة في زعيم لا يقبل الاختلاف، يعامل رفاقه معاملة قمعية تخلو من أي معنى للكرامة، ويغويه نفاق الانتهازيين الذين سرعان ما يتحولون إلى مراكز قوة تسلبه حتى الكرسي الذي يجلس علىه. والإشارة واضحة في المسرحية إلى الشعب المصري الذي يتمثل في جمهور المسرحية التي تبدأ بدعوة المتفرجين إلى اليقظة من نوم الغفلة ... وعندما يكتشف "الأخ" فشل نظامه الذي كان يريد به إسعاد الناس، ويرى ما ترتب علىه من توقف التنوع الخلاق للحياة وغياب السعادة عن الناس، يدرك أن العالم لا يمكن اختزاله في لونين فحسب، وأن تنوعه سر ثرائه، وتعدد اتجاهاته علامة تقدمه. عندئذ، يعلن تخليه عما دعا الناس إليه، وفرضه علىهم فرضاً. ولكن مراكز القوة التي خلقها تحول بينه وما يريد، ولا تتردد في القضاء علىه حماية لمصالحها التي كان هو السبب فيها، وقضاء على الحقيقة التي قمعها هو عندما لم يكتف بقمع كل صوت مختلف، بل أضاف إلى القمع تقريب المنافقين والانتهازيين الذين لم يجد حوله سواهم في صلف تسلطه. وهذا كله طبيعي في مسرحية لم تخل من مناوشة علاقة عبدالناصر بمراكز القوى التي خلقها، الأمر الذي أدى إلى منع العرض ليلة افتتاحها سنة 1971، وظلت ممنوعة من العرض إلى أن أخرجها أحمد زكي على مسرح الطليعة للفرقة النموذجية بالثقافة الجماهيرية سنة 1985، وذلك بعد وفاة عبدالناصر 28 ايلول/ سبتمبر1970 والسادات تشرين الأول/ اكتوبر 1981 معاً.