على رغم الأموال التي تتدفق من عرب أميركيين لدعم حملة انتخاب الجمهوري جورج دبليو بوش، إلا أن أكثرية العرب الأميركيين لن تصوّت لمصلحة بوش بل لمصلحة الديموقراطي المنافس والمرجح أن يكون جون كيري. الأسباب عديدة، لكن فكر وعقيدة بوش قد يكونان العنصر الأهم، يليه فحوى السياسة الأميركية نحو قضايا منطقة الشرق الأوسط ونحو الحقوق المدنية للعربي والمسلم في اميركا. الاعتبارات الانتخابية للناخب العربي الأميركي أو المسلم الأميركي مختلفة بقدر كبير عن اعتبارات "الناخب" العربي أو المسلم في المنطقة، لكن القاسم المشترك للشكوك ينطلق من تحجيم جورج دبليو بوش لكامل منطقة الشرق الأوسط وللعالم الاسلامي الى بوصلة "الارهاب"، اضافة الى نزعته الدينية الاصولية التي تكتنفه بحس الرسولية. عدا ذلك، فإن أحد الاسئلة التي على النخبة العربية الاجابة عنها هو: الى متى يجوز اختزال كامل المستقبل العربي الى مجرد مكافحة "الخطط" الأميركية؟ في هذا النمط سذاجة وخطورة مشتركة مع تلك التي تطلقها المشاريع الاميركية. في هذا النمط تطبيق للمثل القائل "قطع الأنف نكاية بالوجه". وتخوين تقريري "التنمية الانسانية العربية" اللذين كتبهما عرب لبرنامج الأممالمتحدة الانمائي، لمجرد أن المشروع الأميركي ل"الشرق الأوسط الكبير" أخذ بهما، مثال فاضح على النقص البنيوي الذي تحدث عنهما التقريران بنيات صادقة. جورج بوش رجل يريد لمستمعه ان يشعر به رجلاً عادياً صادقاً في عقيدته، مؤمناً، عاكفاً على محاربة "الشر" من أجل "الخير"، صابراً لأن الله والتاريخ إلى جانبه. هوسه مكافحة الارهاب. قبل سنة تقريباً، جلست كاتبة هذا المقال مع الرئيس الأميركي لفترة 45 دقيقة، وقبل أيام أدلى بوش بحديث الى قناة "الحرة" التلفزيونية. كلامه يكاد يكون محفوظاً، وكأن لا شيء حدث. تركيزه الدائم هو الارهاب. وهديته الكبرى للعرب هي رؤيته بقيام دولة فلسطينية وكونه أول رئيس يشير الى دولة فلسطينية. في شأن تلك الدولة، قال بوش انه "ملتزم قيام دولة فلسطينية ولن أغير موقفي. لكن من جهة أخرى، أعرف مدى صعوبة تحقيق قيام دولة فلسطينية ما دامت هناك مجموعات ارهابية مستعدة للقتل من أجل الحؤول دون تحقيق هذا الهدف". ترجمة ذلك ان الرئيس الأميركي تبنى مواقف رئيس الوزراء الاسرائيلي بكاملها على رغم ان هدفها اطاحة رؤية بوش لقيام دولة فلسطينية. فعندما وافق بوش على تصنيف كامل المقاومة الفلسطينية في خانة الارهاب انتصرت فكرة شارون وعقيدته، ولم يكن ذلك صدفة. فلقد كانت استراتيجية اسرائيل والعاملين لها في الولاياتالمتحدة قائمة أولاً وأخيراً على توأمة اميركا واسرائيل في الحرب على الارهاب، بمحو كامل للفارق بين شبكة "القاعدة" وبين المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال، بل أكثر. قامت الفكرة على الغاء الاحتلال من المعادلة. وإذا كان هناك من نجاح باهر في هذه الاستراتيجية، فإنها في الحنكة الباهرة في توفير سلم "التسلق" العكسي لجورج دبليو فتراجع تدريجاً عن سياسات وضعها طبقاً لمشاعره الحقيقية. انها استراتيجية هزم الرئيس الأميركي بنفسه، بتراجعه عن رؤيته شيئاً فشيئاً، ثم بوضع كامل رؤيته رهينة محاربة الارهاب. هكذا حققت المؤسسات الأميركية اليهودية الانتصار الذي لم يسبق له مثيل. لقد توأمت اميركا واسرائيل في محاربة الارهاب وأطاحت النقلة النوعية التي كان بوش حقاً قد اطلقها في الملف العربي الاسرائيلي. أهو جهل جورج دبليو لهذه الحقائق أم انه فهمه للمعادلة السياسية الضرورية في الولاياتالمتحدة؟ بوش لم يجب على ذلك. ولذلك لا يحق له الآن أن يتباهى بأنه أول رئيس أميركي "نطق" بجملة "الدولة الفلسطينية". فأكثر ما فعله هو بيع كلام مؤاساة في الوقت الذي سمح به لشارون بانتهاك القوانين الدولية وممارسة أنواع مختلفة من الارهاب الرسمي باسم مكافحة الارهاب. بذلك خسر بوش ليس فقط ثقة الشعوب العربية وانما أيضاً صدقية عالمية. الأخطر، ان الرئيس الأميركي يبدو مقتنعاً تماماً بأن أولويات الشعوب العربية والاسلامية بل أي شعوب أينما كان، هي مكافحة الارهاب، فكل شيء، من الديموقراطية والاصلاح الى مجرد لقمة العيش، ينطلق من مكافحة الارهاب، في رأيه. لذلك عندما سأله الزميل موفق حرب، في المقابلة مع "الحرة"، لو قدر للناس في الشرق الأوسط ان يدلوا بأصواتهم، فهل ستكون السنوات الأربع المقبلة جيدة لهم في حال أعيد انتخابك، قال: "قطعاً، يمكن ان يدلوا بأصواتهم لي لأنني صلب في محاربة الارهاب..." استطرد واستطرد في أهمية مكافحة الارهاب وانتهى الى القول: "سيقدرونني في المستقبل لأنني مدرك أن الحرية والازدهار صنوان لا ينفصلان". بالطبع، ما انطلق بوش بقوله في المقابلة، كالعادة انه يؤمن ب"مجتمعات حرة، لأنني اؤمن بالانسان". وهو يريد "ان يعلم الناس أنني احترم الأديان". يؤكد، كالعادة، انه "انسان مؤمن"، وانه يود ان "يعلم الناس أنه من المهم ان نعمل معاً على مكافحة الارهاب". بعد ذلك يتكلم عن التزامه "الحرية والديموقراطية في الشرق الأوسط"، ويعطي أمثلة عن دولة عربية تسير في مسيرة الاصلاح ويوحي بأن الأنظمة المترددة ستلاقي حتفها. هذه هي خلاصة الكلام المحفوظ الذي يردده بوش كلما التقى اعلاماً عربياً. بعض هذا الكلام في محله وبعضه هراء وبعضه، صراحة، لغة الازدواجية التي قد يعنيها الرئيس الأميركي، أو قد يقع ضحية لها من دون أن يقصد. ففكره وعاطفته وعقيدته وإيمانه قد تكون صادقة. انما هوسه بالارهاب ورسوليته بالخير والشر مشاعر تقع بسهولة في أيادي مخضرمين في صنع توجهات السياسة الأميركية، من شركات الى أفراد الى منظمات ومؤسسات ضالعة في هذه المهنة. فهذا أول رئيس أميركي في العصر الحديث ينطلق من إيمان برسولية دينية ويقع فريسة حلقة من المخضرمين السياسيين ادركوا ان في البيت الأبيض كنزاً يمكن توظيفه لخدمة مآربهم. ماذا لو أعيد انتخاب بوش. الخوف ليس منه بقدر ما هو ممن حوله. الخوف منه لأنه ينطلق من فكرة ائتمان الله له على مصير الكون. والخوف ممن حوله لأن هؤلاء على أهبة الاستعداد لرسم مصير الكون، بفوقية. الأميركيون الذين قرروا هزم بوش وحجب ولاية ثانية عنه، ديموقراطيون ومستقلون وجمهوريون، ينطلقون تماماً من هذا الخوف. الخوف من الرسولية، المعطوفة على الأصولية، المتكئة على العنجهية، المختزلة للحقوق المدنية والقوانين الدولية باسم مكافحة الارهاب. انه الخوف من الهوس، من توريط اميركا في حروب غير ضرورية، من انزلاق العظمة في الحضيض نتيجة المغالاة بها. الأميركيون الذين يريدون ولاية ثانية لجورج بوش ينطلقون من اعتباره المؤهل الوحيد لالحاق الهزيمة بالارهاب والارهابيين وحماية المصالح الأميركية أينما كان وكيفما كان، ينظرون اليه من زاوية الانتصار على الشر والشرير في العراق، وهم يجدون في مسيرته الرسولية خيراً لأميركا وللعالم. هؤلاء لا يهيبهم العجز الضخم في الموازنة الاميركية ولا الانفاق الفظيع على الحماية الأمنية، فهذه كلفة طبيعية لمواجهة الارهاب وهزمه. وهم على اقتناع بأن الطمأنينة الأميركية ممكنة فقط عبر خوض حرب الارهاب مهما كلفت. لا يهمهم ان تم العثور على أسلحة دمار شامل في العراق أو لا، ذلك ان صدام حسين، في ذهنهم، تم ربطه ليس فقط بشبكة "القاعدة" وارهاب 11 أيلول سبتمبر، وانما أيضاً بنيات وقدرات شكلت تهديداً مباشراً لأميركا. وبالتالي، كانت حرب العراق ضرورية حسب رأيهم، فوائدها عديدة، منها دب الرعب في الأنظمة والمنظمات والأفراد. الأميركيون العرب ينتمون الى المعسكرين. الداعمون لبوش يجدون فيه الرجل الذي حرر العراق، الذي يتعهد نشر الحرية والديموقراطية في المنطقة، الذي ينذر سورية بعواقب اذا لم تصحح سياساتها نحو لبنان. اعتباراتهم ليست فقط ذات علاقة بالمنطقة وانما هي أميركية محضة في كثير من الحالات، اما لانتمائهم الى الحزب الجمهوري، أو لأنهم محافظين ضد الليبرالية، أو لأن معظمهم رجال أعمال ومصالح، أو لأن للاقتصاد الأولوية عندهم. المعسكر الداعم لأي مرشح ديموقراطي يرى في جورج بوش الرجل الذي اجتاح العراق وورطه في امكان تقسيمه واندلاع الفتنة الطائفية فيه ضمن استراتيجية رسمها المحافظون الجدد لاعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم اسرائيل ويقزّم العرب والمسلمين. هذا المعسكر يريد للمنطقة الحرية والديموقراطية والاصلاح والأنظمة البديلة لكنه لا يثق بأن ادارة بوش تتبنى حقاً هذه المبادئ والأهداف. يشير الى اعفاء اسرائيل الدائم من المحاسبة على أي تجاوزات ويرى ان هذا الاعفاء يقوّض الاعتدال العربي ويضعف أصوات الاصلاح. ويخشى هذا المعسكر أن يكون العراق محطة أولى في مسيرة الحروب والفوضى والتقسيم في المنطقة. ولذلك لن يمنح صوته لإدارة لم تستكمل "الأجندة" التي وضعها لها المحافظون الجدد. وبالتالي، الآتي أعظم. هذا المعسكر يدرك ان انتخاب ديموقراطي الى البيت الأبيض لا يعني أبداً تحولاً نوعياً في السياسة الأميركية، لا نحو اسرائيل ولا نحو البقعة العربية. وبالتالي ان تصويته مع المرشح الديموقراطي يسجل صوتاً ضد المرشح الجمهوري من أجل اسقاط المحافظين الجدد وهيمنتهم على البيت الأبيض ولئلا يمضي جورج دبليو بوش بالرسولية الأصولية وتمضي ادارته بتقويض الحقوق المدنية الأساسية لجميع الأميركيين من دون استثناء العرب والمسلمين منها. ما يجمع بين المعسكرين في صفوف الأميركيين العرب هو حال الاحباط من المنطقة نفسها. كلاهما يريد نهضة داخلية لاحداث التغيير. احدهما يريدها داخلية محضة، والآخر يريدها أما بشراكة مع الولاياتالمتحدة أو فرضاً من أميركا في حال امتنع الداخل عن احداث تغيير. هذه المواقف تعكس الانقسامات ذاتها السائدة في الساحة العربية. المعادلة يجب ألا تكون على أساس إما/أو. مشروع "الشرق الأوسط الكبير" ليس مُنزلاً. بالامكان تبني ما فيه من ايجابيات بديهية مع ابراز المعارضة والرفض القاطع لما يحتويه من سلبيات أو لما يتجاهله عمداً مثل ثقل الاحتلال الاسرائيلي على الفلسطينيين والمنطقة. فبدلاً من تخوين الاصلاحيين العرب، بمن فيهم كتّاب تقريري "التنمية الانسانية العربية" البالغي الأهمية، بسبب اعتماد اجزاء منهما أساساً للمشروع الاميركي، فإن المصلحة العربية العامة تكمن في البدء بتنفيذ توصيات التقريرين. بدلاً من الاسترسال في مكافحة الأفكار والخطط الاميركية، تلك الحقيقية وتلك الواردة في مخيلات خصبة، يوجد خيار تبني الجيد والثمين منها، عبر الاقبال على تقبلها، بما يوفر فرصاً حقيقية إما لادخال تعديلات جذرية على السيئ منها، أو بما يعطي وزناً حقيقياً لإفشال المرفوض فيها. حان وقت التنظيم المدروس لتحقيق الأهداف، بمثابرة وصبر وعزم، بدلاً من الاكتفاء بضجيج المعارضة والتخوين. القضايا العربية عديدة وليس مفيداً ارتهانها في قضية واحدة مهما كانت رئيسية وأساسية.