لافت جداً ذلك المزيج من الاختلاف والانفصام والتلاقي بين مواقف الحكومات العربية ومشاعر الرأي العام نحو من هو الرئيس الاميركي الأفضل للمنطقة، جورج دبليو بوش أم جون كيري. بعض هذه الحكومات يجد في استمرار نهج ادارة بوش باسم مكافحة الارهاب، باباً لتأهيل هذه الحكومات عند الادارة الاميركية من خلال اقامة علاقة استخبارية تجعل هذه الحكومات غير قابلة للاستغناء عنها، أقله حالياً. ثم ان التأهب لحرب الارهاب في المجتمعات العربية يمكّن هذه الحكومات من تعزيز وتبرير حكم العسكر الذي اعتادته بسحق تام للديموقراطية إنما مع التعهد هذه المرة باصلاحات معظمها تجميلي، اذ ان الأولوية العليا عند هذه الحكومات هي البقاء في السلطة. جزء كبير من الرأي العام العربي يخشى نهج بوش تماماً لما ينطوي عليه من تعزيز لبقاء هذه الأنظمة ضمن آلية المقايضة مهما كانت على حساب الشعوب العربية، طالما انها تخدم أولاً وأخيراً المصلحة الأميركية والاسرائيلية. انما هناك شطر مهم من الرأي العام العربي يعتقد ان العكس هو الصحيح، اذ يرى في عقيدة بوش اصراراً على تغيير الأنظمة العربية واطاحة معظمها. وهذا بحد ذاته نتيجة مرجوة عند هؤلاء، بغض النظر ان جاءت عن طريق الحروب أو الفوضى أو"قبض"التعاون في الجيب الآن مع التأهب لسحب البساط لاحقاً من تحت أقدام هذه الحكومات. ردود فعل القاعدة الشعبية العربية على الدور الأميركي في تقرير مصير المنطقة معقدة جداً لأسباب منها ما هو تاريخي ومنها خوفاً مما يُعد لهذه المنطقة، اميركياً واسرائيلياً. والأكثر تعقيداً هو العلاقة في بعض الدول بين شعوب تكره حكوماتها لكنها ترى فيها حالياً - ونتيجة السياسات الاميركية والاسرئيلية أو الاسلامية المتطرفة - الخيار الوحيد اذا كان للبلاد تجنب التقسيم أو الانهيار. ففيما الرغبة بالتخلص من الأنظمة عارمة، يبقى الخوف من وسائل التخلص منها وكلفة التخلص منها مرعبة. ما يحدث في العراق ليس نموذجاً مرغوباً به كوسيلة لبلوغ الديموقراطية في نظر الأكثرية العربية الساحقة مهما رغب الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد في اقناع الاميركيين بعكس ذلك. فالكلفة باهظة، بأرواح وتدمير البنية التحتية. والشكوك باقية في الغايات الأميركية من حرب العراق التي تقول الادارة الاميركية الآن انها من أجل الحرية والديموقراطية للشعوب العربية. الانفصام واضح بين الرغبة في التغيير والخوف منه. يوجد نوع من انعدام الثقة به، بل حتى رفضه ان كان التغيير آتياً بعربة اميركية. فالعلاقة بين الشعوب العربية والحكومات الاميركية ليست علاقة صحية وهي تفتقد أدنى درجات الثقة بسياسات الولاياتالمتحدة، انما هناك استثناءات قليلة مثل الترحيب بالاطاحة الاميركية باستبداد نظام صدام حسين واعتبار الانتصار العسكري السريع ابلاغاً مهماً لبقية الأنظمة العربية المماثلة. كثير من الأنظمة العربية سمع الانذار وفهم الرسالة واسرع الى التفكير في ما يجب عليه ان يفعله كي يضمن بقاءه في السلطة. آمال هذه الأنظمة تقوم على فكرة استبدال التصميم لدى ادارة بوش على تغيير الأنظمة بوعود تغيير هذه الأنظمة لطبيعتها بحيث تصبح مؤهلة لشراكة استخبارية مع الولاياتالمتحدة في حرب الارهاب ومؤهلة للدفاع عن"صحة"نهج الادارة الاميركية في حرب العراق بهدف التأثير في الانتخابات الرئاسية الاميركية. لذلك، نسمع قادة عرب سبق وطالوا بانسحاب القوات الاميركية من العراق يؤكدون الآن على ضرورة بقائها لفترة غير محددة. هؤلاء القادة يتحججون بالخوف من انهيار العراق وحرب أهلية فيه اذا غادرته القوات الاميركية. يتناسون ان هذه القوات تخوض حرباً حقيقية في العراق ضد مقاومة كما ضد قوى ارهاب. هؤلاء القادة قرروا إلغاء"المقاومة"من قاموس العراق وتبني منطق بوش بأن حرب العراق هي الجبهة الرئيسية في حرب الارهاب. وهذا يفيد هؤلاء القادة. فهم بدورهم يريدون ان تدور الحرب في غير ساحتهم علماً بأن الصراع على السلطة التي يمتلكونها أتى حصراً من قوى اسلامية متطرفة، بسبب منع هذه الحكومات قيام أحزاب مدنية تتمكن من المعارضة السلمية، فالمعارضة ممنوعة في فكر رؤساء الانقلابات العسكرية، وهي في فكر العائلات الحاكمة غير واردة. ولقد سبق واستطاعت حكومات عدة وما زالت الى الآن في السلطة، من سحق المعارضة الاسلامية بوسائل قمعية لاقت احتجاجاً من الغرب في الماضي وهي تُشجع من قبل الغرب حالياً. بعض القادة العرب يطلبون من الادارة الاميركية ان تستكمل المسيرة التي بدأتها في العراق، إذا ان الفشل في تحقيق الانتصار على القوى الاسلامية المتطرفة وعلى الارهاب سيقوي هذه المجموعات وسيزيد من هشاشة الحكومات العربية الاخرى. كثير من الرأي العام العربي ايضاً يخشى وقوع أي انتصار لقوى التطرف والارهاب في العراق لأنه سيترجم نفسه في بقية الدول العربية تسلطاً لهذه القوى على حياة الناس لو تمكنت قوى التطرف من الوصول الى السلطة. في هذه الناحية تتلاقى الرغبات الاميركية مع رغبات الأكثرية العربية الشعبية ومع رغبات معظم الحكومات العربية. فمهما قيل عن دعم شعبي لقوى التطرف، فهو اضطراري وعابر وليس الخيار المنشود عند الأكثرية. هذا التلاقي فائق الأهمية لو تم توظيفه بعقلانية وبعزم حقيقي على تصحيح واصلاح السياسات الاميركية والعربية، وبجدية المشاركة الشعبية في صياغة المصير، انما هذا لا يبدو وارداً الآن. فلم تتمكن الحكومات العربية حتى الآن من استيعاب فكرة ادخال الشعب شريكاً في عملية الوصول الى أو البقاء في المنصب. ذلك ان للسلطة فهماً مميزاً في البقعة العربية، اذ انها معركة على السلطة وليست عملية انتخابية، بسبب تراكم التناقضات في شأن من يريد ماذا ولمن وكيف وبأي هدف، تبدو الحكومات العربية، بأكثريتها، راغبة في بقاء جورج بوش في البيت الأبيض لأنها تجده عازماً على تدمير"معارضة"لهذه الحكومات تسمى اليوم ارهاباً وتجد في النهج الذي يتبعه وسيلة لتبرير اجراءات داخلية تقوم بها الحكومات اعتبرت بالأمس القريب متشددة جداً أمنياً. فهذا عصر الحلول الأمنية وليس عصر الحلول السياسية. كلام الاصلاح أو التحديث أو التطوير بات مقبولاً لدى الحكومات العربية لأنها ضمنت ان المعركة ليست ضدها عندما تقدم نفسها شريكاً في الحرب ضد العدو المشترك: الارهاب/ المعارضة. بعض هذه الحكومات لا يرى في المرشح الديموقراطي جون كيري العزم أو الهوس المطلوب لحرب الارهاب. يجده مترفعاً عما يتطلبه خوض حرب كهذه من"قذارة"تشارك فيها الاستخبارات العسكرية والاجهزة الأمنية وتتطلب شد عضلات وشارعية العصابات. يضاف الى ذلك، ان بعض الحكومات العربية يخشى ألا يستكمل جون كيري المسيرة التي بدأها جورج بوش لأنها ليست مسيرته ولأنه يعتبر حرب العراق غير ضرورية اصلاً بصفتها"تحويلاً"لجهود الحرب ضد شبكة"القاعدة"التي هاجمت اميركا في 11 ايلول سبتمبر. هذا الفارق بين كيري الذي يحصر الارهاب في"القاعدة"وبين بوش الذي يعتبره آتياً من كل مكان فارق جذري. فكثير من الحكومات العربية يفضل تعريف بوش لأن في الإمكان توسيعه ليشمل"المعارضة"لها، فيما تعريف كيري ينصب حصراً على هزيمة من هاجم اميركا وملاحقته حيث هو في افغانستان أو باكستان. أما في ما يتعلق بتصنيف الفلسطينيين"ارهابيين"واعتبار حرب اسرائيل على الفلسطينيين حرباً على الارهاب، ففي هذا يتلاقى كيري وبوش. وفي هذا لا تجد الحكومات العربية مجالاً للتمييز بينهما، فلا يصبح هذا العنصر عاملاً. فالأهم للحكومات هو ما يتعلق بها لبقائها في الحكم ولإخراج نفسها من قائمة الإطاحة بها، اميركيا أو اسلامياً. كلام معظم الحكومات العربية عن الخوف من"الشارع"العربي فيما لو استمرت السياسات الاميركية نحو اسرائيل متحاملة على الحقوق الفلسطينية، كلام لاستيعاب الغضب الشعبي وللاستهلاك المحلي. بعض هذه الحكومات يبلغ الادارة الاميركية ان لا خشية ضرورية من الشارع العربي لأن هذا الشارع تم احتواؤه أمنياً... باسم كسر شوكة التطرف والارهاب، انها حلقة مفرغة مفيدة. الرأي العام العربي بمعظمه، قد تم احتواؤه، لكنه لم يمضغ الوعود الاستهلاكية لحكوماته ولا يهضم الوعود الاميركية لحريته. الأكثرية ترى في جورج بوش وجون كيري وجهين للعملة ذاتها عندما يتعلق الأمر باسرائيل وبالعلاقة مع المنطقة العربية ومواردها الطبيعية. انما ما يجعل الاكثرية تفضل كيري على بوش، عكس معظم الحكومات، هو خوفها الكبير من مغامرات اضافية لرئيس اعتمد على مجموعة متطرفة من المحافظين الجدد تكن الكراهية للعرب وتلتزم بضمان تفوق وهمينة اسرائيل وحمايتها من المعاقبة مهما اقترفت من جرائم ضد الفلسطينيين. هذه الأكثرية"تصوّت"مع أي كان باستثناء بوش. هناك جانب مهم في اعتبارات الرأي العام العربي نحو من هو الرئيس الاميركي الأفضل للمنطقة العربية. انه السأم من انتظار التغيير الضروري في السياسات الاميركية بما يجعل الشعوب العربية شريكاً لمستقبل أفضل للعلاقة الاميركية - العربية. السأم من نمط الشراكة بين الحكومات، بتوافق أو بتهديد، باسم الاستقرار أو باسم الحرية والديموقراطية، بشريك الآن وعدو غداً، بادعاءات ومبررات وحكايات واساطير تحاك على حساب الشعوب العربية. آلية المقايضة باتت معتادة وانعدام الثقة بات عادياً. انما ما زال حس التمييز بين بوش وغيره حياً كما الاختلاف على أي من النهجين أفضل للمنطقة حكومياً، ومعارضة، وشعبياً. -