وعد جورج دبليو بوش الاميركيين الالتزام بالمسار الذي تبناه في ولايته الاولى في الحروب الاستباقية وحرب الارهاب، انطلاقاً من ايمانه بأنه لم يرتكب خطأ وان اميركا والعالم افضل اذا استكمل المسيرة طبقاً لعقيدته وتصوره ولنصائح من حوله من الصقور واليمين الديني المتطرف والمحافظين الجدد وارشاداتهم. الاكثرية الاميركية تقبّلت الوعد واحتضنت العقيدة واعطت الرجل الذي أخذ الولاياتالمتحدة الى حروب في افغانستانوالعراق رداً على ارهاب 11 / 9 ولاية كاملة لاستكمال المسيرة. حوالي نصف الاميركيين الذين أرادوا اسقاط بوش في الانتخابات ارتعدوا خوفاً من خيار الاكثرية الرافض تغيير المسار. اكثرية العالم بلعت الريق خشية من الولاية الثانية لادارة اميركية أعطت معنى جديداً للتزاوج بين الانعزالية والاستفراد والهيمنة والانخراط عالمياً على نغمة التطرف الاميركي. ولأن هذه هي الدولة العظمى الوحيدة اليوم، يتساءل العالم من هي الولاياتالمتحدة الاميركية وما هي الهوية الاميركية وما هو الدور الذي يريد الاميركيون ان يلعبوه في مرحلة ما بعد 11 / 9 باعتبار ان ذلك التاريخ حاسم في رسم الهوية الاميركية الشعبية منها وعلى صعيد القيادة. الاجوبة لغز يترك الحيرة ليس فقط لجهة ماذا يريد جورج دبليو بوش وماذا سيفعل في ولاية ثانية، وانما ايضاً لجهة ماذا تريد القاعدة الشعبية الاميركية وماذا ستفعل. نتيجة الانتخابات اوضحت ان اميركا المدن الكبرى المنفتحة على العالم مثل نيويورك وكاليفورنيا، منفصمة عن الداخل الاميركي في الولايات الغربية الوسطى والجنوبية. الانفتاح خسر في الانتخابات فيما الانغلاق فاز. ففي معظم الولايات التي أعطت صوتها لجورج دبليو بوش ظلّت السياسة الخارجية الاميركية مختزلة ب"معنا او ضدنا"في حرب الارهاب، حيث ينغلق الاميركيون هناك على بدء التاريخ في 11 ايلول سبتمبر عندما أتى الارهاب الى الاراضي الاميركية بعدو خارجي. هذا الشطر من الاميركيين نسي تماماً الارهاب الذي جاء الى اوكلاهوما على يدي مواطن اميركي ضد الاطفال الاميركيين والتاريخ عنده يبدأ بإرهاب المسلمين والعرب يوم 11 / 9. هذا الجزء من المواطنين الاميركيين منقسم بدوره الى معسكرين: معسكر الاكثرية الذي يريد فقط الانتقام وتلقين الدروس بحروب استباقية لمحاربة الارهاب في الخارج، مثل افغانستانوالعراق، لمنعه من القدوم الى المدن الاميركية ومعسكر يؤمن دينياً الى حدّ كبير بأن حروب بوش شبه"التبشيرية"هي عبارة عن تحرير الشعوب من الاستبداد واطلاقها على طريق الحرية والديموقراطية وان هذا تماماً السبب الحقيقي وراء حرب العراق. جورج دبليو بوش أقنع المعسكرين بقناعاتهما، فهو خاطب معسكر الانتقام بلغة حروب استباقية"كي لا يأتي الارهاب الى المدن الاميركية"وكان يدرك ان قتل مئة ألف عراقي مدني في مثل هذه الحرب لن يترك أثراً يُذكر في ذاكرة معسكر الغباء المتعجرف والوطنية العمياء وتحجّر الانغلاق. هذا المعسكر صوّت له بولاية كاملة. وهو خاطب ايضاً معسكر الايمان والتديّن الذين يعتقد ان الله اختار ان يكون جورج دبليو بوش رئيساً كي يقوم بمهمة تحرير الشعوب الاسلامية والعربية من لعنة الارهاب والاستبداد. هذا المعسكر ايضاً خرج بأعداد ضخمة للتصويت لجورج دبليو بوش لدعم المهمة الالهية الموكلة اليه بأصوات انتخابية. فرهان استراتيجية الحملة الانتخابية بقيادة كارل روف اسفر عن النتيجة المتوخاة، ذلك ان هذه الاستراتيجية ركّزت على"المؤمنين"ببوش من المعسكرين بدلاً من محاولة استقطاب واسترضاء المعسكر المعارض لهذه التوجهات اساساً. معنى ما حدث في هذه الانتخابات ان الاكثرية الاميركية محافظة، يمينية، غير راغبة في خيار بديل عن خيارات بوش، معنى ما حدث ايضاً ان الجبهة الخاسرة في الانتخابات وهي التي استثمرت نفسها بزخم للانقلاب عليه وعلى مساره وعقيدته، تخوض معركة حقيقية حول التوجهات السياسية والهوية الاميركية في عهد ما بعد 11 / 9. والخلافات لم تكن فقط حول ما اذا كانت حرب العراق حرب تضليل الاميركيين او اذا كان استعداء العالم في المصلحة الاميركية. الخلاف هو ايضاً في الصميم الاجتماعي والدستوري والقانوني في اميركا اليوم، بدءاً من الحقوق المدنية وانتهاء بقوانين الاحوال الشخصية. فهنا ايضاً انتصر التيار المحافظ الجمهوري بكل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، نتيجة الانتخابات التي وضعت رئيساً جمهورياً في البيت الابيض، وفي يده مفتاح تعيين القضاة في المحكمة العليا وأعطت له ايضاً مجلس شيوخ ومجلس نواب بأكثرية جمهورية. ماذا سيفعل جورج بوش بهذه الولاية؟ هناك من يعتقد انه سيرسّخ كل ما بدأ به ويعزّزه، في العراق اولاً ثم في اي مكان يتطلّب شدّ العضلات، هذا البعض يرى ان المحافظين الجدد في وزارة الدفاع الذين خفضوا رؤوسهم في الاشهر القليلة الماضية، بأوامر من كارل روف، سيرفعون رؤوسهم عالياً الآن وسيمسحون الغبار عن مخططات لديهم ابرزها ضد ايران، عبر عمليات عسكرية اسرائيلية ضد المفاعل النووي الايراني. سورية ايضاً في خططهم الانتقامية اذا لم تلب كاملاً المطالب في ملفي العراق ولبنان. واسرائيل تتصدر، كالعادة، قائمة الاولويات لديهم وبالذات من خلال المضي في محو صفحة النزاع السياسي من النزاع الفلسطيني الاسرائيلي وتصنيفه عمداً حرباً اسرائيلية على الارهاب في شراكة وتوأمة مع الحرب الاميركية ضد الارهاب. اصحاب هذا الرأي لا يصدقون تعهدات قطعها بعض الاقطاب المهمة في الحملة الانتخابية الجمهورية بأن المحافظين الجدد المتطرفين في البنتاغون لن يبقوا في الادارة الثانية. اصحاب هذا الرأي يتحدثون عن نائب وزير الدفاع بول ولفوفيتز، كمرشح لمنصب وزير الخارجية في الادارة الجديدة، وهم يشيرون الى ان الزمرة نفسها يتراوح نفوذها بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ومجلس الامن القومي. لذلك فإن الحديث هو عن تبادل ادوار. لكن هناك من يؤكد ان التغيير الآتي مهم لجهة ما سيكشفه عن توجهات الرئيس بوش. يقر هذا البعض بأن نائب الرئيس ديك تشيني له سيطرة كبرى على التوجه وعلى السياسة الاستراتيجية الاميركية، لكنه يشير الى شخصية بوش التي أُسيء تقديرها واعتُبرت خطأ هامشية و"غبية". فجورج دبليو بوش سياسي مخضرم ومُحنّك، قد لا يكون مثقفاً وعميقاً في نظر الكثيرين لكنه حازم وواضح وهذا تماماً ما حرص على تسويقه لدى الناخب الاميركي. رأى هذا البعض ان بوش سيجرؤ على معالجة النزاع العربي الاسرائيلي بحزم لأنه بات مقتنعاً بأن لا مجال لكسب العقول والقلوب العربية والاسلامية من دون معالجة هذه القضية. جورج دبليو بوش، حسب رأي هؤلاء، لن يتسرع في اسقاط انظمة عربية واسلامية بفوضى تخلفها، لكنه لن يسمح لهذه الانظمة ان تستغل شراكة الارهاب لتعزز الحكم العسكري وترسخه من اجل بقائها في السلطة على حساب العملية الديموقراطية. هؤلاء المثقفون يؤمنون بأن بوش سيسيطر على المتطرفين داخل ادارته الثانية ويكبح جماحهم وانه في نهاية المطاف ليس متطرفاً دينياً وانما هو مؤمن بمواقفه ومبادئه الدينية والاجتماعية ومؤمن بالتغيير. هؤلاء يراهنون على ان بوش سيحكم حقاً وان ديك تشيني سيُهمّش الآن بعدما وجده كارل روف"ضرورياً"في المرحلة الانتخابية. هذه آراء متناقضة وهي طبيعية جداً مباشرة في اعقاب انتخابات عكست انقساماً جذرياً في التوجهات الاميركية نحو السياسة الخارجية وفي تحديد الهوية. لكن استطلاعات قبل يومين من الانتخابات اجرتها مؤسسات فكرية وصحف وشبكات تلفزة، مثل مجلس شيكاغو للسياسة الخارجية وصحيفة"وول ستريت جورنال"وشبكة"ان بي سي"كشفت توجهات مهمة في البحث عن هوية اميركية. حسب هذه الاستطلاعات والدراسات حدث تغيير جذري في ذهن الاميركيين في شأن دورهم في العالم في السنوات الثلاث الماضية منذ ارهاب 11 ايلول فشبكة"القاعدة"ما زالت مصدراً للقلق لكن الخوف الاكبر هو في انتشار اسلحة الدمار الشامل ووقوعها في ايدي الارهابيين. العراق يشكل ازمة اليوم في رأي الاميركيين، لكن البلاد اكثر قلقاً من ايران وكوريا الشمالية، حسب الاستطلاعات التي نشرتها صحيفة"وول ستريت جورنال". الاميركيون يدعمون الحروب الاستباقية لمنع الارهاب من الوصول الى الاراضي الاميركية، لكنهم يريدون شراكة عالمية في مواجهة الارهاب. الصين كانت بالامس عدواً اميركياً، لكنها اليوم مرشحة للشراكة في مواجهة التحديات الجديدة بدلاً من تصنيفها مجرد منافس لاميركا على العظمة العسكرية والاقتصادية. وحسب هذه الاستطلاعات فإن الاميركيين متشوقون لإصلاح العطب في التحالفات مع اوروبا فقط لأنهم في خوف من كلفة الانفرادية والاستفراد على القدرات الاميركية، المالية والعسكرية. انهم في خوف عميق من افرازات على ساحتي ايران وكوريا الشمالية في الوقت الذي لا توجد لدى الولاياتالمتحدة الموارد العسكرية الكافية لمواجهة التحديات مع"محوري"الشر كما صنفهما بوش، قبل"معالجته"المحور الثالث في حرب العراق. نتيجة الانتخابات والاستطلاعات تفيد ان اميركا في حال انفصام. ماذا سيفعل بوش بأميركا المنقسمة حيال توجهاته، وبأميركا الواقعة في حال انفصام سيكولوجي حيال هويتها؟ الاميركيون في انتظار الجواب. شعوب العالم في ذهول واستغراب وتساؤل عن الهوية الاميركية. والعالم العربي بالذات يحاول مضغ الانتخابات الاميركية وفهمها من ناحية خبرته العريقة في الانقسام والانفصام. انتصر الخوف في الانتخابات الاميركية. فاز منطق الخوف، وبقي الخوف سيداً. وللخوف والتخويف بقية في عهد ما بعد الانتخابات.