في خطبته السنوية، في 25 أيار مايو، جدّد أمين عام "حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله، دعوته "مجاهدي الانتفاضة المباركة في فلسطين واستشهادييها من الرجال والنساء" على قوله، في اليوم نفسه، في افتتاحية خصّ بها صحيفة "الرأي العام" الكويتية إلى تجديد الأمل "في محيط الإحباط واليأس"، والسير على خطى "التجربة اللبنانية" و"مقاومتها الجهادية المسلحة للاحتلال الاسرائىلي". وخلص نصرالله إلى عموم "تجربته"، أي تجربة انشاء "حزب الله" في لبنان، وإلى جواز تكرارها. وتحصر مقالته الافتتاحية في الصحيفة الكويتية قابلية "التجربة" الحزب الالهية المسلحة للتكرار بفلسطين، ولا تتعداها إلى العراق الذي تشمله الخطبة الموسمية، وتكاد تقدمه على فلسطين وذلك مراعاة للكويت والكويتيين، من غير ريب. فهؤلاء على ما يفهم الأمين العام، لا يسرهم الإعلان عن "مقاومة" عراقية، تمزج البعثيين المسرحين والمطاردين والمطلوبين للعدالة، بأنصار مقتدى محمد صادق الصدر وأنصار بعض المراجع الإيرانيين من أمثال حائري. وقد تعيد هذه "المقاومة" النظر في "نهائية" الحدود الكويتية - العراقية، وفي التزام قوى عراقية منتصرة على "الاحتلال" الأميركي، على قول نصرالله، ثبات هذه الحدود والإقرار الدولي بها. ولكن ما خلا ذلك، وهو جسيم، يردد حسن نصرالله ما يحسبه "قوانين" تجربة حزبه، على ما كان الشيوعيون الستالينيون يقولون. ويقصر القوانين المزعومة هذه، بحسب سنّة ثابتة في خطب الحزب اللهيين ومقالاتهم، على "منطق المقاومة وفكر المقاومة وثقافة المقاومة" "الرأي العام". وهذه، بدورها، تنفخ في "العقيدة والالتزام الديني و الالتزام الوطني" على هذا الترتيب، وفي "السلوك الأخلاقي المتميز للمجاهدين و إعطاء الأولوية المطلقة للمقاومة على أي أمر آخر". ولا يخرج إحصاء "الأسس" من أحكام الاعتقاد والمعاملات إلى أحكام "السياسة"، وهي "شرعية" على مذهب الخطيب، إلا على وجه السلب: "تجنب الصراعات الداخلية". والإيجاب الوحيد هو عكس السلب: "... والسعي لتحقيق إجماع وطني شعبي ورسمي"، ونتيجته المنطقية القياسية. ولا يحمل "منطق المقاومة" الذي يتسلح به صاحب الافتتاحية والخطبة، على رغم "الالتزام الوطني" المعلن، أمين عام "المقاومة الإسلامية" وقائدها اللامع، على التزام الكيانات السياسية الوطنية ودولها. فالإجماع الوطني العتيد ليس إجماعاً على البنية السياسية للوطن، أو الأوطان. وهو لا ينعقد على الدولة الوطنية. ولا يقر لهذه بالجدارة في انعقاد الإجماع الوطني عليها، ولا يقر لها بالحق في انعقاد الإجماع الوطني عليها. فيلحق الإجماع بغاية أولى تتقدمه وتسبقه هي "المقاومة واستمرارها". فهذه هي الغاية. و "تجنب الصراعات الداخلية"، وتتمته الإيجابية "السعي لتحقيق إجماع وطني"، هما وسيلتان تخدمان "إعطاء الأولوية المطلقة للمقاومة على أي أمر آخر"، بما في "الأمر الآخر" الدولة الوطنية والإجماع الداخلي عليها، واستقلالها بهيئات سيادية منتخبة وشرعية. وتحت ذريعة "أولوية المقاومة المطلقة" - وحسن نصرالله يلحق بالأولوية هذه الأحكامَ الدينية والأخلاقية والعملية المهنية "التخطيط والعمل المحكم" جميعاً - ينصِّب "المقاومة"، أو قيادتها وأمينها العام ومرجع تقليدها، "مرشداً" و"مجلس صيانة" و"مجلس تشخيص مصلحة الأمة"، على مثال "الدستور" الإيراني الخميني. ويتولى الدستور تعطيل الانتخاب النيابي والبلدي والرئاسي، والحؤول بين الإيرانيين وبين تكوينهم سيادة سياسية ووطنية تامة. وتسعى السياسة الحزب اللهية في هذا التعطيل، وتنشده. ويتذرع الأمين العام العتيد، في خطبته الاحتفالية، بأولوية المنظمة الأهلية المسلحة، وتقدمها على الهيئة السياسية الوطنية، إلى "إعادة إحياء أطر المقاومة" الحزبية اللبنانية، وبعث أجهزتها المسلحة والأمنية، إلى جنب الجيش اللبناني الذي "يطلق المضادات الأرضية على الطائرات الإسرائيلية" "الحياة" في 26 أيار، والصحف اللبنانية في 27 منه. ومعنى دعوة الأمين العام، ب"رعاية سورية وإيرانية" على قوله، هي إحياء المنظمات "العسكرية" والأمنية المذهبية "الوطنية" أي الإسلامية، من "المقاومة الإسلامية" إلى "أمل" أفواج المقاومة اللبنانية ف"قوات كمال جنبلاط" الدرزية و"المجلس الإسلامي العسكري" السني البيروتي وربما "حركة التوحيد الإسلامي" الطرابلسية التي خرج منها بعض "شباب" الضنية، و"القوات المشتركة" الفلسطينية الفتحاوية واللبنانية الشيوعية والناصرية. فالحزب اللهي "اللبناني" الأول لا يرى سبيلاً إلى مقاومة غزو أميركي مزمع لسورية ولبنان، و"قلب الطاولة على الجميع وعودة المنطقة إلى زمن المتغيرات" الميمون إلا تصديع الدول والمجتمع اللبنانيين، وتقديمهما لقمة سائغة لصنم يسميه "مقاومة". و"زمن المتغيرات" الذي يمدحه نصرالله بلغة قسم العمليات الشمشونية في وكالات الاستخبارات "قلب الطاولة على الجميع" هو الزمن الذي وَلَد الحرب العراقية - الإيرانية، والحرب الإسرائىلية على لبنان التي توجها نفي المنظمات الفلسطينية المسلحة إلى تونس واليمن. وهو وَلَد، من بعد، غزو العراقالكويت وحرب الخليج الثانية، وجرت هذه الحوادث مقتل مئات الآلاف من البشر، ودمار صنيع أجيال منهم، وخراباً لا يحصى في روابط الاجتماع. ولكن هذا يتصاغر ويتضاءل بإزاء "شعار وحلم ومشروع المقاومة الإسلامية" على قول كاتب الافتتاحية، وقياساً على جلاء بضع مئات من الجنود الإسرائىليين عن نحو 900 كلم مربعة، بعد ضمانهم معظم أمن حدودهم لقاء خمسة قتلى في غضون ثلاثة أعوام وهجرة مئات الآلاف من اللبنانيين. والتوق إلى "زمن المتغيرات" هو توق الى "زمن الاضطرابات"، على ما يسمي الروس المنازعات الأهلية الدامية التي سبقت تربع أسرة رومانوف على عرش الروسيا، وإلى الوقت الذي يسبق مجيء "صاحب الزمان" ووليه. وهذا اللاهوت هو في صلب نقيض "السياسة" الحزب اللهية. فأمين عام السياسة النقيض هذه يقرر من غير تردد ولا لجلجلة: "عندما تكون الحرب بين طاغوتين ومغتصبين يترك الله المعركة لحساب هذا الطاغية أو ذاك، أما عندما تكون المعركة بين الظالم والمظلوم ... حينئد تمتد اليد الإلهية لتعين الأمين العام، ورهطه وأصحابه، على ما لا يشك من ينسب نفسه إلى "اليد الإلهية" من غير وسيط ولا وساطة. ويسمي بعض صحافيي "الإخبار" بكسر الهمزة الزمنَ هذا "وقت دولة الدول" أو تغييرها. وما يصفه زعيم "المقاومة الإسلامية" وصفاً غنائياً يردد صدى "مسارح قضاها الشباب هناكا"، يصفه أحد أعيان القيادة الأمنية السورية وصفاً مهدوياً نسبة إلى المهدي المنتظر نثرياً "السفير" البيروتية، في ذكرى النكبة الخامسة والخمسين: "... سيؤدي الانسحاب السوري من لبنان إلى خلط الأوراق ولخبطة الحسابات، وفتح الأوضاع على كل الاحتمالات ... بحيث تضيع البوصلة وينعدم التفكير...". ومن علامات "الساعة" الحزب اللهية والأمنية هذه "خروج على مثال السفر التوراتي الفلسطينيين المشطوبين من أي تسوية محتملة من أراضي سورية والتوجه الى لبنان وتكرار تجربة الانتقال من أحراج جرش وعجلون في الأردن عام 1971 إلى جنوبلبنان وخلق وجود فعال وقوي لهم هناك، بل أقوى مما كان عليه... و يعقب هذا التوجه ظهور خريطة جيو سياسية... تضم إلى جانب حزب الله اللبناني حركتي حماس والجهاد الإسلامي...". وفي الميزانين، الأمني و"المتأله" على قول سائر في الأدب الإمامي، العراق بعد صدام حسين ولبنان منذ 1975 سيّان، وأمرهما، "مقاومةً" و"رعايةً"، واحد. ويخالف توحيد الأحوال اللبنانيةوالفلسطينيةوالعراقية على "المقاومة" وحَدِّها، وهذا التوحيد أشبه بمذهب "تصدير الثورة" في صيغه المتفرقة، يخالف ما ذهب اليه الرئيس السوري بشار الأسد في "الأنباء" الكويتية، و"النهار" اللبنانية نقلاً عنها من ان "حزب الله" هو "حزب المقاومة اللبنانية ودوره داخل الأراضي اللبنانية كمقاومة... وما دام العمل ضمن هذا الإطار سنبقى ندعم الحزب". وينسب الرئيس السوري إلى "حزب الله" أنه "لم يقل أنه يبحث عن أزالة اسرائيل ولم يقل انه ضد سورية في عملية السلام". والحق ان المخالفة من غير دلالة سياسية وعملية. وهي من باب البلاغة ومناسبة المقال الحال. وفي أحوال المتكلمين جميعاً، خطباء وكتاباً ومتحدثين، يُغفَل أمر مشترك واحد هو "اللبننة" وصناعتها. فأمين عام "حزب الله" لا يقيد إنشاء حزبه و"مقاومته" بأي ظرف سياسي واجتماعي، بل يعزوه إلى فضائل خالصة. وينسب "وقوع" جماعته، أي حدوثها، إلى دليل الإمكان"، على قوله متمنطقاً وقائساً على خلاف مذهب كبير محدثي ملته، ابن بابويه. ويطرح قياسه ما يسميه كبير أصوليي الفقه ربما قاطبة، وهو الشاطبي، "مناط" الحكم أو "أسبابه" ودواعيه في احتياجات الوقت و طبائع البشر والاجتماع. فمن "أسباب" الحزب الخميني نزول "الساحة" اللبنانية يومها منزلة مسرح حرب احتياطي وثانوي بين الدولة العبرية وبين سورية: فلا النصر فيه استراتيجي ولا الهزيمة تعدو الخسارة التكتيكية. والسبب الثاني فيه تضافر السعي السوري في ضبط "الكفاح المسلح" الفلسطيني، ولبنان معقله بعد هزيمته بالأردن، مع مساع دولية وإقليمية وعربية. فخلفت "المقاومة الإسلامية"، وبعضها "متحدر من "أمل" موسى الصدر، المنظمات الفلسطينية و"القوات المشتركة" على الأعمال العسكرية المشتركة. واتفق ذلك مع إرادة إيران الخمينية ومصلحتها في فتح جبهة عربية، محورها فلسطين، ترد بها على حرب صدام حسين "العربية" والقومية. واتفق كذلك مع إرادة سورية ومصلحتها في فتح الجبهة نفسها، رداً على كمب ديفيد وسياسة المصالحة والمفاوضة التي ابتدأها أنور السادات وتركها لخلفه. ولما خلفت المنظمات الفلسطينية، واللبنانية العروبية لبنان، في أعقاب سبعة أعوام على مسرحها فيه، أطلالاً وأنقاضاً سياسية واجتماعية، كان يسيراً على أصحاب "العقلية والالتزام الإيماني والديني" بين هذه الأنقاض وتحت ولاية نائب صاحب الزمان، أن ينشئوا برعاية قوة عسكرية وأمنية ساحقة قياساً على لبنان، منظمة مقاتلين لا يبالون وقع الموت عليهم أو وقعوا عليه. والبقية خبرها عند أعيان القيادة إياها. وإغفال "الأسباب" الستة هذه يسوغ أقوال الخطيب والكاتب والمحدث على اختلافها الظاهر. والكلام على لبنانوفلسطينوالعراق يضمر "أسباب الإنشاء" هذه، ويلمع إليها من طرف لا يخفى على أحد. ويفترض الكلام هذا حضانة بيئات تلد جماعات العنف المنفلتة من حدود الدول الوطنية وسيادتها وهيئاتها وقوانينها، والمنضوية شبكاتٍ تحت لواء قيادات لا مقر لها ولا مرسى. وما لا ينبغي نسيانه أن مثل هذه الجماعات كانت "إبداعاً" عربياً أسهمت فيه المنظمات الفلسطينية، تحت رعايات مشرقية ومغاربية كثيرة، بسهم وافر. وكانت "قاعدة" ابن لادن نهاية مطاف بحسب الرئيس السوري اليوم، "غير منطقية وغير موضوعية". ويذهب أصحاب المقالات "المقاوِمة" إلى ان المطاف قد يعود على بدءٍ منطقي وموضوعي. * كاتب لبناني.