أخرجت مفاوضة "حزب الله" حكومةَ آرييل شارون، بواسطة حلقة ألمانية، على إطلاق سراح معتقلين محتجزين لبنانيين وفلسطينيين لقاء رهينة اسرائيلية وجثث ثلاثة جنود، أخرجت "الحزب" من صمت طويل ورمادي قسر عليه قادته، على رغم هواهم في الكلام. وهو كان من نتائج حرب العراق وتداعياتها الاقليمية المباشرة، أولاً، وتجدد المحاولات الفلسطينية الخروج من الدائرة الدامية والمدمرة التي زجت فيها سياسة "حماس" و"الجهاد" و"كتائب الأقصى" الانتحارية الفلسطينيين، ثانياً. وتتصل المفاوضة الحزب اللهية والاسرائيلية بحوادث توالت في الأسابيع الستة الأخيرة، أبرزها إقرار مجلسي الكونغرس مشروع قانون "محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان"، وقصف سلاح الجو الاسرائيلي موقعاً سورياً قريباً من دمشق، وتعاظم القلق الأميركي والدولي جراء دور جوار العراق وبلدانه، وأولها إيران وسورية، المفترض في التغاضي عن التسلل الى العراق وتغذية "الغزوات" والإرهاب فيه، وفي دول المنطقة الأخرى. وينبغي إحصاء اتفاق الحكومة الإيرانية والوكالة الدولية للطاقة الذرية على مراقبة الوكالة الصناعة النووية الإيرانية في الحوادث هذه. ولكن الفرق جسامة بعض هذه الحوادث وبين دور "حزب الله" الثانوي والفرعي، يدعو الى إغفال الاتفاق في الإحصاء السريع على رغم الخيط الذي يربط الحوادث هذه كلها، ويصل بينها وبين أداة إنفاذ أو تنفيذية، مثل المنظمة الخمينية. وخروج المنظمة من الصمت النسبي الى الكلام المتواتر والمستفيض، على حين تسلط المفاوضةُ على الأسرى والمحتجزين والرهائن الضوء على ا لمنظمة، إنما السبب الراجح فيه هو تعريف الدور التنفيذي، من جديد، في خضم الحوادث الاقليمية وتطاولها الى "السيدين"، "السيد" الإيراني و"السيد" السوري، اللذين يتعهدان الحزب العتيد، ويتعهد مصالحهما بدوره. فيعمد قادة الحزب المأذونون، وأولهم أمينه العام حسن نصرالله ونائبه نعيم قاسم، الى إرساء منظمتهم أو "موضعتها" في سياقة الحوادث الاقليمية الكبيرة. فهم، على قولهم، طرف فاعل في هذه الحوادث، وجزء لا يتجزأ من "مقاومة" دول المنطقة وشعوبها "الاستعمار" الأميركي الجديد. والمفاوضة الحزب اللهية الاسرائيلية، وتصدي الحزب الى مقايضة رهينته والجثث الثلاث وما في حوزة نصرالله من معلومات إيرانية عن الملاح الإسرائيلي، رون أراد، قد يكون جزءاً من "صفقة" آتية بمعتقلين فلسطينيين في المرتبة الأولى عدداً، تبدو وكأنها تحقيق هذه الدعوى ومصدقها. فهي ثمرة تفويض لأمين المنظمة العسكرية والأمنية العام. وبعض التفويض تلقائي وذاتي، مثل الطمع في اخراج سمير القنطار من سجنه المتقادم. وبعضه الآخر يصدر عن أفعال سياسية وأمنية إقليمية سابقة ومتعمدة مثل خطف رجل الأعمال الاسرائيلي وعقيد الاحتياط، وتنقيله بين المطارات العربية. والأرجح على الظن ان مبادأة مدفعية الحزب بعض مواقع الجيش الإسرائيلي، في مزارع شبعا المحتلة، بالقصف هي جزء من "الرد" السوري على قصف الطيران الحربي الاسرائيلي عين الصاحب، في 5 تشرين الأول اكتوبر المنصرم. واعتراض مسلحي "حزب الله" موكب السفارة الأميركية على مقربة من الحدود الاسرائيلية - اللبنانية في منتصف الشهر المنصرم، جزء آخر من "الرد". والحملة "اللبنانية" المستمرة والمزمنة على السياسة الأميركية - بلسان الزعيم الدرزي العروبي وليد جنبلاط الذي وصف مساعد وزير الدفاع الأميركي ب"الجرثومة" وأعرب عن فرحه لمقتل جنود أميركيين في "المثلث السني" العراقي أو بلسان بعض أعيان المذاهب، وبعضهم يردد إحصاء أسامة بن لادن لميادين "الجهاد"، وبعض آخر يرى أصابع الأميركيين في حوادث الرياض المحيا الأخيرة، ونحو نصف ضحاياها لبنانيون - جزء ثالث من "الرد السوري - اللبناني"، وإثبات الدور الإقليمي للمنظمة المحلية، جزء ثابت من السياستين السورية والإيرانية. ولكن السياق الاقليمي العريض ينذر بمضاعفات كبيرة وثقيلة الوطأة على راعيي المنظمة العسكرية والأمنية المحلية. والتوقيع الإيراني على "البروتوكول الإضافي"، على رغم المراوغة، هو من هذه المضاعفات. وسبقت السياسة السورية الى الموافقة على قرار مجلس الأمن 1511 مضطرة ومحرجة وحين يعد ريتشارد لوغار، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، الاقتراع السوري هذا بين "الخطوات الإيجابية التي خطتها السياسة السورية، على زعمه، يتناسى أن السياسة السورية تحتسب موافقتها في باب حكم الضرورة، على خلاف ما "أخفقت" فيه، على زعم لوغار نفسه: نفي المنظمات العسكرية الأمنية، والجلاء عن لبنان، والإسهام في السلام الإقليمي، ورد الأرصدة العراقية المختلسة والمهربة الى العراقيين. وتدرك القيادة الحزب اللهية المحلية ان المضاعفات الإقليمية تفوق طاقاتها وطاقات راعييها. فتعمد الى رد من شقين: شق خطابي وشق عملي. فيذهب الشق الخطابي الى تعظيم "الوحل العراقي"، و"الرعب الأميركي" جراءه، على قول نائب أمين عام المنظمة العسكريةوالأمنية "النهار" اللبنانية في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر. وهو يجزم في قدرة "السوري" على "أن يرد ويضع حداً للصلف الاسرائيلي" في عين الصاحب. وعلى هذا فلبنان الشيخ قاسم جبهة في حرب تتنقل من نصر عراقي الى نصر سوري وثالث إيراني ورابع لبناني. ولكن مسوغات الجزم متواضعة قياساً على نبرته ولهجته. فالرد القادم سندُه "انكشاف الخطوة الاسرائيلية... بعدوانيتها وعاجزة عن حشد التأييد الدولي المساعد". فينسى قاسم ان السفير السوري سحب مشروع قرار بإدانة قصف المزرعة السورية لما استحال عليه فك الإدانة هذه من ادانة عملية حيفا "البطولية". ويذهب الشق العملي الى ما دون ذلك بكثير. فيطمئن نصرالله الملحّين في "نزع سلاح المقاومة" الحزب اللهية الى أن "المقاومة ليست مشروع حرب و تريد أن تحمي لبنان وتدافع عنه لا أن تورطه" "الحياة" في 9 تشرين الثاني. وهي تدفع عنه الورطة الأكيدة. ف"عندما تدخل الدولة في شكل رسمي عبر جيشها في مواجهة أي اعتداء ]اسرائيلي[، هذا الذي يمكن أن يجر المنطقة الى الحرب وليس رد المقاومة". ويتلبنن الأمين العام فوق ما يتوقع "المغرضون" منه. فيقيد "وقوف المقاومة الى جانب الشعب الفلسطيني و وقوفها الى جانب سورية" بما يسميه "الخصوصية الوطنية" و"مراعاتها". وعلى خلاف الشق الخطابي، يتواضع الشق العملي الى "الشرب من نبع الوزاني" في خطبة يوم سابق، وحمل العدو على "دقة الحسابات" وموازنتها، الى بعض "الخوف والرعب" اللذين يزينان صورة عدو جُبل على "الجبن" و"الهستيريا"، بحسب أصحاب الرجل وتلفزته. ولكن الشق الثاني، إذا غلب الأول وتقدمه، يقود الى السؤال عن الجدوى "الوطنية" وهو لا يقول اللبنانية، تورعاً وتعففاً من "المقاومة". فإذا اقتصر الأمر على بعض "الشرب" من غير الري؟، وعلى التدقيق في حسابات الرماية وانتهاك الأجواء ونتائج هذا التدقيق غير ظاهر لا للعين ولا للأذن ولا لبعض الحيوات، للأسف، فهل تسوغ هذه "المكاسب" ربط لبنان، بقضه الاقتصادي وقضيضه السياسي، بقضايا الشرق الأوسط، على ما دعا جهاز آخر من الأجهزة الإقليمية في لبنان، واستتباع السياسية السورية إياه؟ و"حزب الله"، أداة هذا الربط الناجعة والفاعلة. وعلى قدر تعاظم الربط، وخسارة لبنان مقومات اجتماعه السياسي واستقلاله، يتعاظم دور "حزب الله" الإقليمي. ولكن الدور المتعاظم هذا إنما يدور في مدار تغلب رمزيته ومسرحيته على جدواه العملية "القومية"، على ما يظهر جلياً منذ انفجار الأزمة العراقية والسعي في مخرج متماسك يعالج، منذ اليوم، قضايا "الحل النهائي" المترتبة على المسألة الفلسطينية. وإذا كان لحسن نصر الله ان يضطلع، في هذا السياق، بدور "مكبر صوت" أقوى دالة، وأبعد مطرحاً، من اصوات السياسة السورية الرتيبة، ولو نسائية على مثال السيدتين شعبان وقباني، فدالة الصوت هذه تفترض رصيداً "بطولياً" متجدداً. ولا يتجدد الرصيد البطولي إلا لقاء قصر الهيئات السياسية اللبنانية على مسرح ظل، وإلحاق القضاء بالجهاز السياسي الأمني، وتحويل الصحافة الى تمارين في قراءة البخت الطالع، وتوزيع الاقتصاد حصص اعالة وغوث متناقصة، والحط بالتعليم الى إجازات مرور وسوق. ولا يعود هذا على ساسة سورية بالمنفعة إلا اذا استقرت الأحوال الإقليمية على اضطراب من غير افق، اي دامت على ما هي عليه منذ 1967. ويفترض هذا، على ما تعول السياسة السورية علناً تقريباً، انفجار العراق على شاكلة انفجار لبنان، ودوام هذا الانفجار عقدين من الزمن يرابط في اثنائها 120 الف جندي اميركي نظير الألف جندي اسرائيلي الذين كانوا قوام القوة المحتلة في 1978 - 2000، بينما "النظام" السوري راسخ كالطود، و"مولاه" اللبناني، و"حزب الله" درة تاجه، يتوالد على المثال الناجح والباهر إياه. ولا ريب في ان هذا الحساب يغفل عن ان الأخطار التي تحف الاستعمال الإقلميي، الإيراني أو السوري، للحزب الخميني، تتهدد النظامين في الصميم، وتورطهما فيما لا قِبل لهما به إذا هما عمدا الى زج أداتهما في عمل فاقع و"كبير". وأما الانصراف الى بعض القنص، واعتراض المواكب الديبلوماسية، والامعان في إعلان الكراهية، وتصفية بعض ذيول الماضي، إطلاق سراح الأسرى والرهائن، وبث مسلسل "الشتات"... فلا يرجى منها إسهام عظيم لا في زيادة "الوحل" ولا في قطف ثمار "الرعب" المفترضين والمزعومين. والرجوع من "سياسة" قوامها النفخ في أخيلة الصحراء، وتشبيه الهول على النفس، الى تواضع التدبير والإدارة، قد يكون عسيراً، وهو عسير حقاً على عُظاميين صرفوا معظم سني حياتهم "الناشطة" في بعث الأخيلة. وهذه تعليل قاصر وضئيل للسطو على دولة ومجتمع، وتصديعهما على مذبح دور اقليمي يتعاظم خواؤه يوماً بعد يوم. * كاتب لبناني.