نظراً الى دور الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله في حزبه، بات أكثر من رسّخ صورة الالتصاق بين الحزب ولغته وخطابه وبينه صورةً ولغةً وخطاباً، حتى غدا يصعب الفصل بين "السيد" الذي ساعده في تشييد سلطانه اقترانه بالميديا الحزبية التي وفرتها وسائل عدة أبرزها تلفزيون "المنار"، وبين الحزب كجسم سياسي متحرك ومتفاعل يحتاج إلى لغة أوثق اتصالاً بالسياسة منها بالتعبئة. وهذه لغة السيد في غالب اطلالاته. ولعله ليس عابراً أن الأمين العام السابق للحزب عباس الموسوي اعيد تقديمه لجماهير "حزب الله" كما لغيرها من باب الميديا نفسه التي نجح السيد في استثمار عناصرها كما وفّر لها عبر شخصيته مادة غنية لبناء بروباغاندا عقائدية جهادية هي في أصلها امتداد للمدرسة التي أرسى دعائمها الإمام الخميني منذ أن نجح في خطف أضواء الصحافة، لا سيما الفرنسي منها، مبشّراً إسلامياً وداعية ثورة على "الاستكبار" عبر لغة تجيد شحن الشعور الديني لتوجيهه لاحقاً في المسارب السياسية المستهدفة. فالعصب الخميني المصدر والمماهاة هو ما نشده السيد منذ أن آلت إليه أمور القيادة أميناً عاماً، وهو الذي طالما اعتبر من صقور صناعة القرار السياسي والعسكري الذي كلف الحزب أحياناً أثماناً باهظة مجزرة فتح الله وانسحاب الحزب من بيروت إلى ضاحيتها الجنوبية بعد معركة صراع النفوذ الإيراني - السوري على الامساك بورقة الجنوب والمقاومة، بالقدر الذي بنى له هيبته وحضوره. وما لبث السيد أن فاقم استثمار هذا العصب الخطابي التعبوي الذي وُجد، في الجوار، من اعتبره "كارثة ألمت بالاستراتيجية العربية". وهكذا كان تفعيل هذا الخطاب بمثابة الرد على الخطوة الفلسطينية المنفردة لتعبئة رأي عام منحاز إلى الأعمال العسكرية على الجبهة اللبنانية. وهذه الأعمال لطالما اعتبرت من أبرز معوقات بناء جمهورية ما بعد الطائف القائمة على ملحمة الانماء والإعمار للبلد الخارج لتوه من أتون الاقتتال المديد، على رغم الاجتهاد اللغوي الرسمي وأناشيد الولاء وادعاءات الاجماع التي يدرك الحزب قبل غيره هشاشتها وقسريتها. فلطالما اصطدمت أولويات منطقي هذين المشروعين مما جعل الاجتهاد المذكور عسيراً في الكثير من الأحيان، بل ان نتائجه لم تقلع عن كونها خطاباً يغطي عورات تفسخ البلد وارتباكه في تحديد دوره المأمول. ولم يتراجع السيد عن إتمام هذه اللغة التي حققت حضوراً عربياً مرموقاً وجدت الأنظمة العربية في مديحه ما يعوض احتقانات "الشوارع والجماهير"، من جراء سياسات حكوماتها "الواقعية"، مقابل الأعمال الحربية للحزب الذي ما انفك يخاطب "الأمة" ويعزف على وتر لاوعيها السياسي وشهواتها المكبوتة للقتال، في ظل احباطات اقتصادية واجتماعية جمة، داعياً بالطرق المباشرة وغير المباشرة إلى نسخ نموذجه وتعميمه من "النهر إلى البحر". وهي دعوات بلغت أعلى ذراها بعد الانسحاب الإسرائيلي واندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين التي وجد فيها الحزب إلى جانب مزارع شبعا والأسرى اللبنانيين والجولان متكأً لخطابه ودعاويه. والحال أن نصرالله وُفّق فعلاً إلى الدمج بين صورته وصورة الحزب، لا سيما عقب مبايعات ثلاث رفعته إلى مصاف "سيد المقاومة" وهو الذي شكل مقتل نجله لحظة دراماتيكية ضاعفت من سطوة نجوميته التي كانت حرب نيسان ابريل 1996 والتفاهم الذي انتهت إليه، ركناً متيناً اضيف إلى أركان تزعمه للحزب ولقيادة الخطاب المقاوم والتعبوي الذي بدا أنه يتحدث بصوت أعلى من الخطاب السياسي. ولعله ليس من المصادفة في شيء أن تكون المقاومة كخطاب وآلية سياسية موظّفة داخلياً، هي مدخل الحزب وبوابته إلى المجلس النيابي اللبناني ومنصته التي ينطلق منها إلى أي فضاء سياسي مهما بدا انفصاله عن المقاومة بيّناً. إلى ذلك لم تشكل لحظة التحرير في أيار مايو 2000 إلا درجة جديدة في سلم ارتقاء الخطاب التعبوي للحزب منذ اللحظة الأولى التي ترجمها مهرجان حاشد في مدينة بنت جبيل المحررة، حيث أكد السيد على ثوابت الكفاح المسلح والعمل المقاوم، مفتتحاً الفصل الجديد من ربط المقاومة ربطاً عملانياً بالقضية الفلسطينية عبر الهجوم على السلطة الوطنية الفلسطينية بقدح التسوية السلمية وخيار المفاوضات والدعوة إلى حمل البندقية "لمواجهة عدو لا يخاف إلا الأقوياء". وفي هذا بنى على محنة السلطة الوطنية في علاقاتها مع حكومة ايهود باراك المنسحب من لبنان وارتباك الرؤية الأميركية للسلام مع الفلسطينيين عشية ختام ولاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون. ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع الانتفاضة بصيغة "فتحاوية" بينة وهذا ليس تفصيلاً على الاطلاق، بدا الحزب وكأنه يرتب مزارع شبعا لتكون بمثابة الفناء الخلفي لها، داعياً مرة جديدة الى استلهام النموذج اللبناني قبل أن تؤدي "أسلمة" الانتفاضة الى جنوح بعض الفتحاويين إلى اجهاضها وتحويلها إلى انتحار شعبي في لحظة بدت وكأنها "تفخّخ" خطاب الحزب وترفع في وجهه الأسئلة التي نجح في تأجيلها منذ ما بعد التحرير. وهي الأسئلة ذاتها التي أعطى لها الحزب في مؤتمره الأول بعد التحرير أجوبة وجدها العديد من المراقبين معاكسة لمنطق الأمور. فبدل أن يؤدي التحرير الى تزخيم الاشتغال على خطاب سياسي يأخذ بعين الاعتبار إعادة الحزب الى اللعبة السياسية اللبنانية ويموضعه كحزب لبناني مرغم على الخوض في وحل الداخل اللبناني، بما هو حزب يمثل قطاعات ومصالح اتجهت الأمور الى تعزيز وتوسيع حضور الشخصيات العسكرية والأمنية داخل بنيته المقررة والمنتخبة، وكأنه يهيء الحزب لخوض معارك جديدة في حرب لم يكن الجنوب اللبناني وبعض بقاعه الغربي مسرحها الوحيد. فقد جاء "اكتشاف" مزارع شبعا ليضع اللبنانيين مجدداً أمام خطاب تعبوي يعلي الأخلاق على المصالح في شؤون هي في صميم السياسة. وعليه كان كل نقاش في المصلحة من المقاومة في أهدافها "الشبعاوية"، يواجَه بإعلاء الصوت عن التفريط بحق المقاومة الذي تقره الشرعية الدولية، في حين تضرب هذه الشرعية عرض الحائط كلما سأل سائل عن تثبيت لبنانية مزارع شبعا بغير النوايا السورية الطيبة! فالانتفاضة التي شكلت مُتنفّس الحزب وفضاء لغته وخطابه بدت في فصولها الأخيرة، لا سيما بعدما تحول النقاش النظري حول المقاومة وأشكال النضال الى معركة تثبيت السلم الأهلي الفلسطيني وما فرضه من تحول على كل من "الجهاد الاسلامي" و"حماس"، بدت وكأنها مصدر ارتباكه وتعثره في مجاراة تسارع أحداثها وحاجتها الى خطاب أكثر مراوغة ودهاء، وهي تمام الصفات التي بعثت بأبي عمار الذي نَعَتْه مجمل الصحافة الدولية حياً بعدما نجح في ادارة معركة بيت لحم، بعيداً من التفجير والقتل وحمام الدم المحمود بلغة العنف الثوري. وبهذا التغير بدا حزب الله وكأنه يخسر نظيره الفلسطيني وصدى خطابه في الداخل، مما جعل خطاب السيد حسن نصر الله في يوم القدس العالمي الذي سبق هذا التحول بأيام معدودات عارياً أمام استحقاقات الداخل الفلسطيني، بما هي استحقاقات وحدة وطنية فلسطينية تصارع حكومة وحدة وطنية على الجانب الاسرائيلي. وإذا جاء خطاب يوم القدس العالمي استمراراً لاستراتيجية خطاب بنت جبيل، الا انه هذه المرة لا يظهر أزمة الحزب والمقاومة مع شعبيتهما اللبنانية وحدها، بقدر ما يظهر أزمة الحزب المتصلة بخطابه بصفته التعبوية وحاجته الى خطاب لا يقطع مع السياسة باعتبارها مناورة وهدنة واختلافا وتعددا، وليست مسلسل تصعيد لا ينقطع. ولعله من باب لزوم ما لا يلزم القول إن ازمة الخطاب المذكور هي ازمة دور الحزب بعد التحرير وهو الذي بات واضحاً ان المناط به من مهام يكاد يكون على النقيض من متطلبات السياسة بمعناها الداخلي كما مستلزمات الدور القومي. فحين يقول السيد ان "لا مدنيين في اسرائيل" وحين يربط بين دوره كمقاومة ودوره كفريق مسلح يعد طرفاً في الصراع العربي - الاسرائيلي، يكون في الأولى قد خسر الانجاز الذي تحقق بدماء لبنانية غزيرة يوم حيّد تفاهم نيسان المدنيين من دائرة الصراع وانقلب على المعادلة التي عززت مشروعيته، فيما في الثانية وضع اللبنانيين أمام اجندة نضالية لا تتصل بالضرورة بأولوياتهم السياسية والحياتية، كما لا تملك القدرة على المطالبة بالالتفاف والاحتضان اللذين، على هشاشتهما، ساهما في تعزيز ظهر الحزب وتصليب عوده، لا سيما وان البعد "القومي" للمعركة والمعنية به سورية قبل غيرها، لا يبدو راغباً في الاشتراك بدفع أثمان التحرير ما دام النبع الفلسطينيواللبناني سابقاً تكفيه مشقّة ذلك. فالحزب، اليوم، مطالب أكثر من أي وقت مضى بالاجتهاد لاستبدال خطاب التعبئة والشحن بخطاب سياسي يحميه قبل أن يحمي اللبنانيينوالفلسطينيين... اما سورية فمسألة أخرى!