اغتنم الحكم اللبناني، بلسان رئيس الجمهورية السيد اميل لحود، انعقاد دورة مجلس الجامعة العربية ببيروت، تضامناً مع لبنان، فبسط شروط التضامن التي يطلب من الدول الأعضاء التزامها، ورد على قرار الحكومة الإسرائيلية تثبيت الانسحاب من الأراضي اللبنانيةالمحتلة. وردد السيد لحود، في بيان نسب اليه وأذيع من القصر الجمهوري، التهديدات التي يلوح بها زعماء المنظمات اللبنانية المحاربة منذ عقد ونصف العقد، ويختصرها قول أصبح مأثوراً هو أن الدولة اللبنانية لن تكون "حرس حدود" للدولة العبرية إذا أجلت قواتها عن غير اتفاق. ويرى أصحاب هذا الرد، وهم يعتقدون أنهم ينوبون عن "لبنان" وليس عن اللبنانيين أو عن بعضهم وجزءٍ منهم، أنه مفحم ولا يترك محلاً لاعتراض، شرعياً كان الاعتراض وقانونياً أو عملياً وسياسيا. ولا يقتصر افحامه، بحسب أصحاب الرد، على الدولة اليهودية بل يتخطاهم الى الدول العربية المتحفظة عن "استخدام سورية لبنان كورقة ابتزاز"، وعن رعايتها "حزب الله" على شاكلة "جالية أجنبية" أو "واجهة لنفوذ ايراني و أداة للضغط السوري من أجل استعادة الجولان على حساب لبنان"، على قول صحيفة "السفير" البيروتية، في 10 آذار مارس موجزة مواقف سياسية عربية عن لبنان وحوادثه السياسية والعسكرية. ويتعمد أصحاب هذا الرد اغفال اعتراضات المعترضين اللبنانيين، بعض الاعتراضات العربية، الحقيقية. فبعض اللبنانيين يعترضون على مساواة الرد اللبناني الرسمي اجراءات بسط السيادة اللبنانية على الأراضي الإقليمية والمواطنين بإجراءات حماية الحدود الإسرائيلية فالمذهب اللبناني الرسمي، والظرفي، يعوِّل على الشبه الظاهر بين نتائج بسط السيادة الوطنية، وأولهاحل المنظمات العسكرية الأهلية وحظر السلاح وإناطة التعقب والإدانة بالقضاء وحده، وبين شروط أمن الحدود الإسرائيلية. وينبه المعترضون اللبنانيون على المذهب الرسمي اللبناني الى أن بسط السيادة الأمنية، وهو من مترتبات الدولة وكيانها السياسي والحقوقي ومن شروط اكتمال هذا الكيان وتعريفه، يعود على الدولة اللبنانية، وعلى أراضيها الإقليمية وضحاياها المواطنين، بالأمن والسلامة، ويخولها مطالبة المجتمع الدولي بحماية السلامة والأمن الداخلين من الانتهاك. وينيط بسط السيادة بالدولة وحدها قمع المسلحين، الخارجين على سلطة الدولة في هذه الحال وليس على الأمن الإسرائيلي وعلى الاحتلال والعدوان الإسرائيليين، ويحول بين الدولة وبين القصور والوصاية عليها. وبعض الاعتراض العربي موجه الى ظروف الأعمال العسكرية الحزب اللهية، من وجه، والى البنيان الإقليمي الذي قد ينجم عن الإقرار ب"حق في المقاومة" مطلق من كل قيد سياسي وحقوقي قانوني، من وجه آخر. فتنشيط الأعمال العسكرية في وقت دون وقت يصدر عن ارادة سياسية جزئية، هي ارادة المنظمة السياسية والعسكرية والأمنية الخمينية، وترتب نتائج عامة على جمهور اللبنانيين كلهم، ومن ورائهم على السياسات الإقليمية كلها، ولا يخضع هذا التنشيط لمناقشة أو رقابة من أي نوع كان. وهو عندما يُنسب الى "الرِّزْقة"، على قول أحد أعيان "حزب الله" مبتهجاً، إنما يريد أصحابه التحلل من المناقشة والرقابة. وتثبِّت الأعمال العسكرية، غير المقيدة بقيد سياسي داخلي أو اقليمي مؤسسي، حق التدخل في الشؤون السياسية الداخلية لمن قدر عليه. وحين ناقشت قمة القاهرة، في حزيران يونيو 1996، مسألة التطبيع، قرنتها بمسألة التدخل في الشؤون العربية الداخلية، وأنكرت هذا التدخل. والتقى العراق وسورية، يومها، على الاعتراض على إنشاء لجنة يوكل اليها أمر مناقشة المسألة. والتعلل، اليوم، بأن "المقاومة الوطنية"، أي "الإسلامية" الحزب اللهية والخمينية - وهي "تجسيد للورقة السورية"، على قول السيد فايز الصايغ، المدير العام لوكالة الأنباء السورية الحكومية، في اليوم الذي أذيع فيه تصريح السيد لحود "أثمرت وأينعت ... وحان وقت قطاف التحرير"، لا يسوِّغ "الورقة السورية" هذه ولا "استثمارها" الذي يراه ساسة سورية "مجدياً"، على قول السيد "الصايغ، وهو أحد أقلام هؤلاء الساسة وألسنتهم. ولعل من القرائن على ضعف التسويغ والجدوى اضطرار السيد لحود، الرئيس اللبناني، الى التلويح ب"عشرات آلاف المسلحين اللاجئين في المخيمات الفلسطينية الذين يطالبون بحق العودة"، وب"حروب يومية صغيرة عند حدوده" مع اسرائيل، تعيد لبنان الى "أجواء السبعينات"، على قول القائد السابق للجيش اللبناني. وقد يكون رئيس الجمهورية اللبنانية جراء هذه الأعمال، عما أضمره كلام الموظف الإعلامي السوري على "أعمال مقاومة متنوعة أخرى يمكن أن تنشأ للتصدي لإسرائيل إذا انسحبت فعلاً من لبنان". فمثل هذا التلويح بما جرَّ على لبنان، وعلى الدول العربية والفلسطينيين، النتائج الفادحة والمدمرة التي جرَّها عليه العبث الأعمى بالأبنية السياسية والأهلية الداخلية بموازين العلاقات الإقليمية بين الدول، وذلك غداة ثلث قرن على وقائعها "أعمال المقاومة"، انما هو التلويح دليل عجز هذه الأعمال عن إتيان ثمراتها المرجوة، وهي التحرير والسيادة والأمن. ويطعن هذا التلويح، من وجه آخر، في الدعوى السورية المزمنة اضطلاع السياسية السورية، منذ مؤتمري الرياضوالقاهرة في 1976، برعاية "سيادة لبنان ووحدة أراضيه" وسلامه "المعزَّز". وهو، من وجه ثالث، رجوع عن احتجاج الدولة اللبنانية الشرعية، في العقد الثامن، على المنظمات الفلسطينية المسلحة وعبثها فساداً وانتهاكاً في البلدان التي حلتها. والسيد لحود مؤتمن، دستوراً، على استمرار الدولة اللبنانية واتصال حلقات تاريخاً وشرعيتها. وفي معرض تهديد الدولة العبرية بالويل والثبور، إذا هي أنكرت على "الورقة السورية" في لبنان عائدها وريع "استثمارها" - وهي كلها عبارات موظف "الإعلام" السوري - يغفل رأس الدولة اللبنانية المنتخب عن ثمن "تجسيد المقاومة الوطنية" أي "الإسلامية" الحزب اللهية "الورقة السورية" العتيدة. ومرآة هذا العائد، في لبنان وعلى اللبنانيين، تعلنه نشرة مصرف لبنان المركزي التي تتناول النشاط الاقتصادي في الفصل الثالث من عام 1999، بالوصف ولخصتها صحيفة "النهار" اللبنانية، في 10 آذار. فإذا بالمؤشر الاقتصادي العام، وهو معيار جماع الأنشطة ومحصلة النمو في أثناء العام، يتدنى بنسبة 3،1 في المئة، الى تاريخه. ومعنى التدني أن النمو الاقتصادي، في أثناء السنة الأولى من ولاية السيد اميل لحود، سلبي، وأن الناتج الإجمالي الداخلي نقص عوض أن يزيد. ومثل هذا النقصان يحدث لأول مرة في أثناء العقد الأول من "السلم الأهلي" الذي ترعاه السياسة السورية رعاية قريبة. وكان الرئيس الثاني للجمهورية اللبنانية الثانية أو الثالثة افتتح ولايته بتجديد وزاري أبعد، على قوله، الفاسدين والمخالفين والمستعلين على القانون والمبذرين، وقرب نظيفي الكف والقائمين على الخدمة العامة و"الخبراء". وناطق حكومة الرئيس بالإدارة المستقيمة، وبتوزيع الأعباء العامة توزيعاً عادلاً، الخروج من الركود، واستئناف الاستثمار، واستيفاء مزمعي الهجرة من الشباب والشابات. فإذا برساميل المؤسسات الجديدة المسجلة في عام الولاية الأول "تهبط"، بحسب نشرة المصرف المركزي، بنسبة 2،55 في المئة، وباستيراد الآلات الصناعية يتردى بنسبة 5،32 في المئة، وبمؤشر القيمة السوقية للأسهم المتداولة في بورصة بيروت يتراجع بنسبة تترجح بين 11،17 في المئة و90،15 في المئة. والى هذا، على خطورته، يخسر لبنان ثروته الإنسانية الأساسية، وهي موارده من القوى العاملة. فالتوطن في المهاجر الأوروبية يتطاول الى ثمانين في المئة من المهاجرين الى بعض هذه المهاجر في أثناء العقد ونصف العقد من المنازعات الداخلية الملبننة. وبينما كان المهاجرون، في أعقاب 1991 الى 1996، ضعيفي المهارات، وباعثهم على الهجرة هو القرابة والانضمام الى أجزاء أسرية سبقتهم الى الهجرة، زادت نسبة الأكفياء، والمؤهلين الى 48 في المئة من المهاجرين الجدد، غداة عام 1996 عام "عناقيد الغضب" الإسرائيلية وانتصار "المقاومة الإسلامية" عليها في... قانا. وبلغ عدد المهاجرين، منذ 1992، عام تولي السيد رفيق الحريري رئاسة حكومته الأولى، الى 1999، نحو 850 ألف مهاجر، نظير مليون لبناني هاجروا في أوقات الحرب العصيبية والمختلفة، من 1975 الى 1990. وفي أثناء العقد الأخير استتب "للنفوذ السوري"، على قول تقرير وزارة الخارجية الأميركية في حقوق الإنسان 1999، تصريف شؤون الحكم اللبناني كلها - وما يزعمه التقرير الأميركي "المغرض" أضعف بكثير من مقالة الموظف السوري في العلاقة "الورقية" بين السياسة السورية والحكم اللبناني. فوسع هذا النفوذ التحكم في "حق المواطنين في تغيير حكومتهم"، وتقييد "نظامهم الانتخابي"، واخضاع قضائهم "لضغوط سياسية" ومخابراتية، وتسليط "رقابة ذاتية" مذعورة على إعلامهم وحرياتهم، واخراج أجزاء من الأراضي الإقليمية وجماعات مواطنين من السيادة الوطنية الشرعية والقانونية وأحكامها. فأدى هذا كله - وهو حصل من غير لقاء أو مقايضة بحماية من أعمال العدوان الإسرائيلية ولا نظير لجم الجماعات العسكرية والأمنية المحلية - أدى الى تداعي الأبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والتعليمية اللبنانية. وتعاظم انفكاك الدولة وبعدها من المصالح السياسية والاجتماعية المشتركة للجماعات، وتضاءل ما تشارك فيه الجماعات اللبنانية، وانكفأت كل جماعة منها على حمى لا يحمي من شيء. وكان هذا ثمن "تألق" الأعمال العسكرية على قوات الاحتلال الإسرائيلية: فدواء الاحتلال وعلاجه هو سريان الحمى في جسم وطني مقطع تنزف دماؤه في سبيل "استثمار" سوري "مجدٍ" لجهاز "أسسته" السياسة السورية و"دعمته وأيدته بصفته سلاحاً مشرزوعاً في وجه الاحتلال"، على قول الموظف السوري الصريح والبيّن. ومثل هذا الدواء، الأثقل من الداء أو المرض بكثير والأبهظ تكلفة، يخيِّر اللبنانيين اليوم بين نحر أنفسهم وقتلها، من طريق "اضطراباتهم" الداخلية، العتيدة، وبين الانتحار بيد اسرائيلية تهزم كل يوم، وهذا ما يدعي اللبنانيون اليه من غير تردد ولا استشعار تبعة، ويدعوهم اليه أعيانهم ووجوههم. وهم يخيَّرون بين هذا وذاك استدلالاً بمنطق يزعم لنفسه صفة الحق والقانون. فتلازم المسارين، وهو انقلب وحدتهما وهذه انقلبت وحدة مسار واحد ومصير واحد، يُجلى في حلة إلزام حقوقي وقانوني، وهو واقعة سياسية تكتيكية تواطأت علي وقوعها قوى متفرقة في أحسن الأحوال، وإذا قيّض لها التماسك الى حين انسحاب القوات الإسرائيلية المحتلة الى حدودها الدولية. وما تواطأت على وقوعه قوى متفرقة يسعها، في ظروف أخرى، التواطؤ على كفه، وتوفير فرص مختلفة لحل عقدته. وما تقترحه الديبلوماسية المصرية، تساندها سياسات عربية أخرى، هو العمل على توفير هذه الفرص بوجه السياسة السورية و"ورقتها" اللبنانية. وهذا معنى "شبكة الأمان" التي لا ينفك السيد عمرو موسى من الكلام فيها" وهو معنى "الأمن الشامل" نظير "السلام الشامل" الذي دعا اليه وزير عربي نافذ في دورة مجلس الجامعة العربية ببيروت. ولكن احجام المجلس عن استعادة هذه الصياغة، وطرق الباب الذي تفتحه، وتقديمه اجماع الخطابة على تقسيم عمل السياسة، قد يكونان قرينة على دوام النازع "اللبناني" العربي الى الانتحار. ففي شباط فبراير، شولتز، 1984 وقف وزير الخارجية الأميركي الأسبق، شولتز، وقال: ليس عاراً الإقرار بأن كل الجهود للحؤول بين لبنان وبين الانتحار، أخفقت. وفي أواخر شباط 2000، وقف السيد ليونيل جوسبان أمام الجمعية الوطنية الفرنسية وقال ان من مسوغات نعته أعمال "حزب الله" العسكرية، بالإرهاب صدَّ نازع اقليمي مسترسل الى "التدمير الذاتي". فهل يقف السيد عمرو موسى في شباط 2001 أو 2002 ليقول ان استرسال بعض أهل المشرق مع نازعهم الانتحاري، لم تنفع المحاولات المستميتة في لجمه؟