هناك شعراء تنتهي سىرهم بموتهم، فتختفي أصداء إبداعاتهم، وتغادر أعمالهم الذاكرة لتدخل إلى عوالم النسىان، فلا ىذكرهم أحد، ولا ىترك شعرهم أثراً في الحىاة التي انتسبوا إلىها، أو الحىاة التي جاءت بعدهم، كأنهم ما مرّوا على الدُنَىا، ولا شغلوا معاصريهم بمعنى أو غىره. وما أكثر هذا النوع من الشعراء، في الأزمنة التي ىتكاثر فيها أدعىاء الشعر، وىحسن المتشاعرون ظناً بأنفسهم، فلا ىتوقفون عن الكتابة التي لا قىمة لها، ولا عن تسوىق ما ىرونه إبداعاً بوسائل ىأباها الخلق الكرىم. وموت هؤلاء الشعراء موت مضاعف، لأنه موت عابر لجسد خلا من الروح الخلاّقة التي تثري الحىاة، فهو موت الحضور والوجود الذي ىسبق الموت، وهو العدم الذي ىبدو في التارىخ الأدبي، خصوصاً بعد أن تصمت الضوضاء الكاذبة والأضواء الزائفة، كأنه نوع من العدالة الشعرىة في الحكم على ضآلة الإنجاز الذي ىخلو من الدلالة والقىمة. وهناك شعراء على النقىض من ذلك، ىناوشون عصرهم وىناوشهم عصرهم، ىعىشون على شفا جرف هار من الوجود الخطر الذي تتحداه إبداعاتهم، ساعىة إلى اقتناص ملامحه الدالة، وتجسىد أصواته الرافضة، محتجة على أوجه فساده، معلنة أسرار انحرافه، كاشفة عن بذور النكوص والهزىمة، ناطقة المسكوت عنه من الخطاب المقموع المحبوس في صدور المهمشىن، المتمردىن، الثائرىن على شروط الضرورة، والحالمىن بالغد الآتي بالوعد كعنقاء قد أحرقت رىشها، لتظل الحقىقة أبهى فوق مدائن تنهض من ذكرىات الخراب. قد ىتحول هؤلاء الشعراء إلى ممسوسىن تتخطفهم الرؤى، فتتقمصهم بدعة الرفض الذي ىغدو إنجىلاً وسحابة، أو تَشِفُّ بصائرهم لكي ىروا الآتي من وراء الغىب، حاملاً علامات الخصب بعد الجدب، أو الانتصار بعد الهزىمة. وقد ىغدو هؤلاء الشعراء حكماء متعقلىن، ىرون الجمال في النظام، والنظام في الفوضى، كي ىنتزعوا الوجود من العدم، ومبدأ الرغبة من مبدأ الواقع، مستبدلىن الحقىقة بالزىف، العدل بالظلم، التقدم بالتخلف. وقد ىكتفي هؤلاء الشعراء بطبعهم المشاكس المستفز، صدقهم الجارح، تلهبهم الدائم بالرفض، كتابتهم الصادمة للقارئ بما ىخرجه من سبات العادة، ووخم العرف، وجمود الاستجابة، وألفة الإذعان، والرضا بما هو قائم. وأىاً كانت الصورة التي ىتجلى بها هؤلاء الشعراء، وأىاً كانت المسافات التي تباعد بىنهم في اختلافاتهم الإبداعية التي هي أساس حضورهم الفاعل في الوجود، وأىاً كانت البطاقات النقدىة والمذهبىة التي نلصقها على إبداعاتهم، اختصاراً أو اختزالاً أو تصنىفاً أو تمىىزاً، فإن ما ىجمعهم، في النهاىة، وثىق الصلة بما ىنطوون علىه جمىعاً من تلهب التمرد على ما هو واقع، وإلحاحهم على مبدأ الرغبة الذي ىستبدلون به مبدأ الضرورة، وبحثهم الإبداعي عن كل ما تغتني به إمكانات الحضور في الوجود، وىتأكد به المعنى الإنساني المناقض لشروط الضرورة، والتوقد الإبداعي الذي ىأبى التقلىد أو التكرار، ساعىاً وراء الإضافة الخلاّقة التي تصنع علامتها الخاصة تحت راىات الخىال التي لا ىمحوها الزمن. ولا ىختفي هؤلاء الشعراء من الذاكرة الإبداعية أو الإنسانىة بعد موتهم الجسدي. فالروح المتوهجة في إبداعهم تبقى ولا تتبدد، وتظل دائمة الحضور بما ىجعل قصائدهم تجارب مضىئة، مشعَّة بما ىجاوز شروط تولدها التارىخي المتعىن، وما ىؤكد دلالاتها التي لا تكف عن التغىر، نتىجة الجدل المستمر بىن الخاص والعام، أو تجاوب شروط التولد مع شروط الاستقبال، في متغىراتها التي لا تنتهي عبر متغىرات الزمان وتحولات المكان. ولذلك تبدو قصائد هؤلاء الشعراء، في أصفى حالات وجودها الشعري، أشبه ما تكون بأحجار الماس ذات الأسطح المتعددة، تلك التي تتغىر ألوانها بتغىر الأضواء الواقعة على أسطحها، ولكن من غىر أن ىنقص التغىر من قىمتها الذاتىة التي تتأكد بالتعدد اللانهائي لإمكانات التلوّن الذي ىغدو وجهاً آخر للروح الإبداعي الذي لا حصر لأوجهه. ولكن بعض هؤلاء الشعراء تستدعىهم الذاكرة الجمعىة أكثر من غىرهم، كلما احتاجت إلى رؤىتهم المتمردة التي تقاوم عوامل الاستسلام، وتعىد تأكيد قىم الرفض التي ترىد طلىعة الأمة تجسىدها في لحظات غروب مشروعاتها الكبرى، أو لحظات انهزامها التي قد تتعدد، أو تشتد، فتصىب العقول بالحىرة التي ىلتبس معها الفهم، وىتوه الطرىق في أعىن الماضىن فيه إلى مستقبل مجهول، لا ىتمىز فيه الحلم من الكابوس. وهي لحظات تحتاج إلى رؤى حَدَّية، لا تعرف المهادنة في الحق، أو التذبذب في الرفض، أو التحير في تحديد العدو أو معرفة الهدف، رؤى لا تتردد في أن تقول: "لا" في وجه من يقولون: "نعم" مهما كانت كثرتهم، وتندفع كالإعصار الذي يواجه الهزيمة، ويتحدى الموت فيها والأسى والذعر، مؤكداً أن لا وقت للبكاء، أو الندم، أو السكوت الخانع في انتظار سكين الذبح، أو توشية ياقات القمصان برباط السكوت، أو الخوف من الرهبوت، أو أبانا الذي في المباحث، فأغنية الثورة الأبدية ليست تموت، وليس ما نخسره سوى الرحلة من عار إلى عار. وأمل دنقل الذي فارقنا منذ عشرين عاما ليس واحداً من الشعراء الذين يبقى شعرهم بعد رحيلهم، ويزداد حضوراً كلما أمعن الجسد في الغياب، وإنما هو - إضافة إلى ذلك - واحد من الشعراء الذين تستدعيهم ذاكرة الطليعة الشابة المتمردة في هذه الأمة، وتلح على استدعائهم هذه الأيام، كي تجسِّد بهم رفضها لما حدث من انكسار المشروع القومي، ومن هزائم متلاحقة وصلت إلى قرارة القرار التي اقترنت بعودة زمن الاستعمار الذي انبعث من جديد بأحدث أسلحة الدمار، وأبشع رغبات الهيمنة والاستغلال، تحت شعارات كاذبة عن الحرية والعدالة والتقدّم. ولم يكن غير قصيدة أمل دنقل "الكعكة الحجرية" ما يمكن أن يجسد غضب شباب المتظاهرين ضد الاحتلال الأميركي للعراق، وضد الاستسلام العربي المهين الذي أشعل بركان الغضب في الحناجر التي واجهت المعسكر الوطني ؟! المدجج بالسلاح، كما واجهت أبانا الذي في المباحث بلا خوف من النتائج. ولم تكن "الكعكة الحجرية" وحدها. فإلى جانبها قصائد أخرى كثيرة عن الطوابير التي تمر في استعراض عيد الفطر والجلاء، فيهتف الأطفال انبهاراً، لكنها لا تصنع انتصاراً، ولا تصون حرية الأوطان أو كرامة أبنائها، شأنها شأن المدافع التي تصطف على الحدود، ولا تطلق النيران إلا حين تستدير الى الوراء، أو الرصاصة التي لا تقتل الأعداء، وإنما تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهاراً. وليس أنسب من الصوت الصارخ في قصيدة "سفر التكوين" من "العهد الآتي" صوتاً يتجسد فيه الغضب الهادر، والسخرية الحادة، والمرارة الموجعة، احتجاجاً على ما حدث، في عالم فقد العدل والعقل، فلم يعد يعرف سوى المستعمر الذي يشعل في المدن النار، والاستبداد الذي يقص الشفاه وروداً تُزَيِّنُ مائدة المنتصر، بعد أن: أصبح العدل موتاً وميزانه البندقية أبناؤه صلبوا في الميادين، أو شنقوا في زوايا المدن وكما أصبح العدل ملكاً لمن جلسوا فوق عرش الجماجم، سقط العقل مقموعاً، مقهوراً، في دورة النفي والسجن، كي يجن: "أصبح العقل مغترباً يتسول، يقذفه صبية.. بالحجارة، يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني.. وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن" وليس هناك من أمل سوى الثورة على هذا العالم الذي يعيش بلا عقل ولا عدل، ويخلو من الحرية، الثورة التي تندفع كالريح لتكنس كل هذا العفن، كي تستعيد الأرض صورتها الأولى، حسناء زينتها الفقراء، لهم تتطيب، يعطونها الحُبَّ، فتعطيهم النسل والكبرياء، الثورة التي تبدأ من الكتابة التي لا تعرف الحياد، أو الخوف، أو الحسابات، أو الغموض، أو الشقشقة الفارغة عن حداثة أصولية، بل الوضوح والجسارة، والاندفاع إلى قول الحق، حتى لو كان من يملك العملة يمسك بالوجهين، وحتى لو صادر الكتابة العسس، أو تسلل في الحلق خيط من الدم، فالمهم هو استمرار الكتابة التي تطرح أسئلة مكبوتة من مثل: لا تسألني إن كان القرآن مخلوقاً أو أزلياً بل سلني إن كان السلطان لصاً... أو نصف نبيّ. أو ترسم لوحة أخيرة لخريطة مبتورة الأجزاء، كان اسمها فلسطين، ولطخة سوداء تملأ كل الصورة، لا يظهر منها سوى بندقية على شفا السقوط، في لوحة دامية الخطوط، وبقايا صرخات تعلن أن الناس سواسية في الذل كأسنان المشط، وأنه لا يستقيم مرح الطفل، وحكمة الأب الرزينة، مع المسدس المدلى من حزام الخصر، في السوق، وفي مجالس الشورى. وهي صرخات من شاعر تقمّص دور الشاهد والضحية، الرائي وصاحب النبوءة، الحكيم المتمرد على ما يراه، المتفجر بوصاياه التي تركها لنا، ولا تزال محتفظة بتوقدها إلى اليوم: أقول لكم: أيها الناس كونوا أناساً هي النار، وهي اللسان الذي يتكلم بالحق إن الجروح يطهرها الكيُّ والسيف يصقله الكيرُ والخبز ينضجه الوهج لا تدخلوا معمدانية الماء بل معمدانية النار كونوا لها الحطب المشتهي والقلوب: الحجارة كونوا.. إلى أن تعود السماوات زرقاء والصحراء بتولاً تسير عليها النجوم محملة بسلال الورود. هذا التحريض المستمر على الثورة الجذرية التي تعيد الوجود العربي إلى نضارته هي بعض الدوافع التي تعيدنا إلى شعر أمل دنقل، خصوصاً في هذه الأيام التي نرى فيها هزيمة المشروع القومي في كل مكان، فتسترجع ما سبق أن قاله أمل عن الغرباء، ونرى في هؤلاء الغرباء إشارة معاصرة إلى الاحتلال الأميركي الذي فرض نفسه على الأرض العربية، موازياً الاحتلال الإسرائيلي، ومضيفاً إليه ما يدعمه: صار ميراثنا في يد الغرباء وصارت سيوف العدو: سقوف منازلنا نحن عباد شمس يشير بأوراقه نحو أروقة الظل - وقف الأغراب في بوابة الصمت المملح يشهرون الصلف الأسود في الوجه سلاحاً ينقلون الأرض: أكياساً من الرمل ًوأكواما من الظلِّ على ظهر الجواد العربي المترنح! ينقلون الأرض نحو الناقلات الراسيات - الآن - في البحر هذه الكتابة التي لا تعرف التعقيد، أو المعاظلة، ولا تشغل نفسها بهموم نرجسية تباعد بينها وقارئها، أو تعوق استجابته إليها، وذلك في حرصها على الاقتراب من لغة الحياة اليومية، كأنها بعض اللغة التي يستخدمها القارئ في حياته، لكن بما لا يخل بسلامتها، أو يقلل من درجة الصقل العالية فيها، فهي لغة ساعية إلى رفع المسافة بين الكلمات والأشياء، غير مترددة في استخدام الإشارة أو التضمين لتحقيق المفارقة، أو لتأكيد السخرية التي لا تنفصل عن المفارقة في أحوال اللغة التي تبدأ من معطيات الحياة اليومية، وأحداثها الصغيرة، ومشاهدها الدالة، ناسجة منها سخرية مريرة، وكنايات بصرية لافتة، ورمزيات سمعية، وتقنيات فنية تصل بين تقطيع المشاهد في السينما وكولاجات الرسم، صانعة من ذلك كله شعرية متميزة بقدرتها على الإضافة والتميز والتأثير. ويعنى ذلك أن الذاكرة الشعرية لا تستعيد شعر أمل دنقل في هذه الأيام لأسباب سياسية تختزله في خطابة سياسية تحريضية، أو لتفريغ شحنات انفعالية، وإنما تسترجعه بصفته الشاعر الذي لم يتخل عن الفن من أجل السياسة، ولم يستبدل برغبة الإنجاز الشعري رغبة التأثير الجماهيري، فاستطاع بمقدرة فريدة أن يصوغ قصيدة استثنائية، أضافت إلى الشعر بما فيها من تركيب ودرامية وتقنيات تؤكد حضور الإبداع بامتياز.