من الجميل ان تشهد الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الشاعر المصري المتميز امل دنقل سلسلة من النشاطات تعكس المكانة الخاصة التي ما زال الشاعر يحتلها حتى الآن بوصفه "الصوت المصري المتفرد الذي لم يملأ فراغه احد فوق الساحة الشعرية العربية" حسب تعبير الشقيقة "الوسط". وهي نشاطات تتراوح بين مختارات من اعماله وكتابات عنه وندوات تبرز دوره الريادي والاكثر حضوراً في مصر. والميزة الثانية لهذه النشاطات والفعاليات انها تعطي الشاعر الراحل بعض حقه المغبون نظراً الى انه كان دائماً وحتى بعد وفاته ظل كذلك خارج المؤسسات الرسمية في تلك المرحلة، فبادلته تلك المؤسسات بالإهمال والتناسي والتغييب… لولا حفنة من الاصدقاء المثقفين الحريصين على احياء ذكراه والتأكيد على القيم الابداعية والحياتية التي لم يتنازل عنها امل دنقل حتى في احرج الاوقات واصعبها. "اخبار الادب" المصرية اعدت ملفاً خاصاً عن امل دنقل في هذه المناسبة، وهناك كتاب خاص اعدته عبلة الرويني يتضمن الدراسات التي تناولت ادب دنقل وحياته دار مصر العربية، وفي مجلة "ادب ونقد" ملف بعنوان "الديوان الصغير" يحتوي مختارات من شعر دنقل اعدها وقدم لها الشاعر حلمي سالم، وفي 21 الشهر الجاري تقام ندوة عن دنقل تحمل عنوان اشهر قصائده "لا تصالح" تنظمهامجموعة مستقلة من المثقفين. ويعرض في الندوة فيلم عن الشاعر اعدته عطيات الابنودي… وغيرها. غير ان الاحتفاء الابرز هو العدد الجديد من سلسلة "كتاب في جريدة" الذي ترعاه منظمة اليونسكو وخصص لأمل دنقل في ذكرى رحيله الخامسة عشرة. ويضم العدد الذي وضع رسومه الفنان مكرم حنين خمس عشرة قصيدة اختارتها عبلة الرويني من اربعة دواوين للراحل: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، "تعليق على ما حدث"، "العهد الآتي"، و"اوراق الغرفة 8". ولهذا "الكتاب" اهمية خاصة اذ توزع منه - مع الصحف المشاركة فيه - ستة ملايين نسخة. وكما قالت الشقيقة "الوسط" في خبرها عن هذه النشاطات "ان المختارات تشكل فرصة ثمينة لاعادة اكتشاف ذلك الصوت الرافض الذي همشته المؤسسة الرسمية حتى النهاية، كما تفتح مسالك تلك التجربة الصاخبة امام الاجيال الجديدة". وما كان لنا ان نتوقف بالتحديد عند هذا العدد الخاص بأمل دنقل من سلسلة "كتاب في جريدة" لولا عاملان اساسيان هما: نسبة التوزيع العالية التي تعد بالملايين في طول العالم العربي وعرضه وفي المهاجر والمغتربات كذلك، ومن ثم الغاية التي من اجلها نشأ مشروع اليونسكو هذا على صعيد العالم العربي بعد نجاح تجربته في البلدان الناطقة بالاسبانية. فلنستمع الى ما يقوله الشاعر شوقي عبدالامير، المشرف العام على الجانب العربي من المشروع، في "الدوافع والغايات" الواردة في مقدمة "الكتاب": "… وأمام ضرورة ايجاد وابتكار وسائل جديدة للتواصل الثقافي بين ابناء اللغة والثقافة الواحدة المنتشرين على رقعة جغرافية واسعة تحتلها دول عديدة كما هو الحال في اميركا اللاتينية والعالم العربي، ودفاعاً عن وحدة هذه الثقافات وضرورة تماسكها، وايماناً من منظمة اليونسكو بديموقراطية القراءة وتسهيل عملية الاندماج الثقافي جاء "كتاب في جريدة" ليحمل افضل جواب لهذه الحاجة المتزايدة والمتعددة الاوجه والتي صارت تؤثر سلبياً على وحدة الثقافات وتطورها كلّ في منطقتها وبين ابناء لغتها". واذا عدنا الى خبر الشقيقة "الوسط" لوجدنا انها تقول عن المختارات التي ضمّها هذا الكتاب: "وقد حرصت الكاتبة والناقدة المصرية، رفيقة درب دنقل المقصود عبلة الرويني، على تمثيل مختلف مراحل مسيرته المفروشة بالاشراقات والآلام، بما فيها مواجهته مع الموت". من هذين المنطلقين "ديموقراطية القراءة" و"تمثيل مختلف مراحل" حياة امل دنقل، دخلنا الى العدد الخاص بالشاعر الراحل في سلسلة كتاب في جريدة". واذا كنا نعترف - مبدئياً - بأن عبلة الرويني نجحت في اختيار القصائد التي تمثل شخصية امل ومواقفه وتطوره الادبي الابداعي، فاننا استغربنا غياب القصيدة الاشهر ولن ندخل هنا في حوار او نقاش حول ما اذا كانت الافضل والاصدق تمثيلاً لدنقل الا وهي قصيدة "لا تصالح" التي تحت شعارها تقام ندوة المثقفين المستقلين في 21 ايار مايو اليوم الذي توفي في مثله امل دنقل. وعلى رغم ابداعات امل في مجموعة اشعاره المتنوعة والغنية والصادقة، فان اسمه ارتبط الى الابد بقصيدة "لا تصالح" حتى اصبحا متلازمين بوثاق لا ينفصم تماماً كما حدث مع بدر شاكر السياب في "غريب على الخليج" او محمود درويش في "سجّل انا عربي"… وغيرهما الكثير من الشعراء العرب المعاصرين، الاحياء منهم والاموات. فاذا كانت هذه القصيدة هي الشعار الذي في ظله يتذكر القراء والمثقفون رحيل امل دنقل في ذكراه الخامسة عشرة وربما في المستقبل ايضاً، واذاكانت تعبر بالفعل عن ذروة المواقف الجذرية والرافضة التي ظل هذا الصوت المصري المتفرد حريصاً على الالتزام بها حتى ايامه الاخيرة، واذا كان القراء يربطون بين "لا تصالح" بكل ابعادها ومؤشراتها وبين امل دنقل المصري العربي الانساني، اذن لماذا غابت هذه القصيدة عن "كتاب في جريدة" ولم تغب عن الندوات والمختارات والمقالات الاخرى التي احتفت وتحتفي بأمل دنقل هذه الايام؟ هذا التساؤل لا يوجه اصابع النقد او الاتهام لا الى الاديبة عبلة الرويني رفيقة درب امل دنقل الوفية على تراثه، ولا الى منظمة اليونسكو القائمة على مشروع "كتاب في جريدة" الضروري والحيوي في الساحة العربية الثقافية. انما هو تساؤل مشروع يسعى الى اجابة واضحة انطلاقاً من "ديموقراطية القراءة" التي شدد عليها الشاعر شوقي عبدالأمير في شرحه لدوافع هذا المشروع وغاياته. ذلك ان ديموقراطية القراءة تستلزم اساساً غياب اية اعتبارات سياسية في مجال اتخاذ قرار النشر الجماهيري كما هي الحالة في "كتاب في جريدة". ونعترف هنا بأن بعض الاصوات الثقافية والاعلامية تتهامس بما يفيد ان المنظمة الدولية - ربما - وجدت حرجاً في نشر قصيدة تتناقض مع حملة السلام الدائرة في اروقة المنطقة العربية حالياً لصالح الدولة اليهودية! هل هذا صحيح؟ ام ان هناك اعتبارات تقنية وابداعية اخذتها عبلة الرويني ومنظمة اليونسكو في حسابهما ما ادى الى خلو "كتاب في جريدة" الخاص بأمل دنقل من القصيدة التي صارت الاسم الثاني للشاعر المصري الراحل، ولأجيال واسعة من المثقفين والقراء… سواء في الدواوين المتخصصة او في "كتاب في جريدة" الذي يريد ان "يخرج الادب من دائرة "القراء" التقليدية الى دائرة "القارئين" الارحب حضوراً ومدى، فهو بهذا يحدث اختراقاً لحواجز ثقافية اجتماعية اقتصادية متراكمة منذ ازمان ليقيم علاقات جديدة في منطقة قصوى تقع بين الادب والفن وبين مستهلكيه من ابناء لغته وثقافته" كما يؤكد الشاعر شوقي عبدالامير! وكم نتمنى ان يكون الامر مجرد اعتبارات مهنية وابداعية، لئلا تعود الحواجز فتنتصب في وجه "ديموقراطية القراءة"! لا تصالح 1 لا تصالح! ... ولو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما... هل ترى...؟ هي أشياء لا تشترى... ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك، حسّكما - فجأة - بالرجولة، هذا الحياء الذي يكبت الشوق... حين تعانقه، الصمت - مبتسمين - لتأنيب أمكما... وكأنكما ما تزالان طفلين! تلك الطمأنينة الأبدية بينكما: أن سيفان سيفك... صوتان صوتك أنك إن مت: للبيت رب وللطفل أب. هل يصير دمي - بين عينيك - ماء؟ أتنسى ردائي الملطخ... تلبس - فوق دمائي - ثياباً مطرزة بالقصب؟ إنها الحرب! قد تثقل القلب... لكن خلفك عار العرب. لا تصالح... ولا تتوخ الهرب! 2 لا تصالح على الدم... حتى بدم! لا تصالح! ولو قيل رأس برأس، أكل الرؤوس سواء؟! أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يد... سيفها كان لك بيد سيفها أثكلك؟ سيقولون: جئناك كي تحقن الدم... جئناك. كن - يا أمير - الحكم سيقولون: ها نحن أبناء عم. قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك. واغرس السيف في جبهة الصحراء... الى ان يجيب العدم. إنني كنت لك فارساً وأخاً وأباً ومَلِك! 3 لا تصالح... ولو حرمتك الرقاد صرخات الندامة. وتذكر... إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة ان بنت أخيك "اليمامة" زهرة تتسربل - في سنوات الصبا - بثياب الحداد. كنت، إن عدت: تعدو على درج القصر، تمسك ساقي عند نزولي... فأرفعها - وهي ضاحكة - فوق ظهر الجواد. ها هي الآن... صامتة. حرمتها يد الغدر: من كلمات أبيها، ارتداء الثياب الجديدة. من ان يكون لها - ذات يوم - أخ! من أب يبتسم في عرسها... وتعود اليه إذا الزوج أغضبها... وإذا زارها... يتسابق أحفاده نحو أحضانه، لينالوا الهدايا... ويلهوا بلحيته وهو مستسلم ويشدوا العمامة. لا تصالح! فما ذنب تلك اليمامة لترى العش محترقاً... فجأة، وهي تجلس فوق الرماد؟! 4 لا تصالح ولو توّجوك بتاج الإمارة. كيف تخطو على جثة أبن أبيك...؟ وكيف تصير المليك... على أوجه البهجة المستعارة؟ كيف تنظر في يد من صافحوك... فلا تبصر الدم...في كل كف؟ إن سهماً أتاني من الخلف... سوف يجيئك من ألف خلف. فالدم - الآن - صار وساماً وشارة. لا تصالح، ولو توجوك بتاج الإمارة إن عرشك: سيف وسيفك: زيف إذا لم ترد - بذؤابته - لحظات الشرف واستطبت الترف. 5 لا تصالح ولو قال من مال عند الصدام "... ما بنا طاقة لامتشاق الحسام...!" عندما يملأ الحق قلبك: تندلع النار ان تتنفس. ولسان الخيانة يخرس. لا تصالح، ولو قيل ما قيل من كلمات السلام. كيف تستنشق الرئتان السيم المدنس؟ كيف تنظر في عيني امر امرأة. أنت تعرف انك لا تستطيع حمايتها؟ كيف تصبح فارسها في الغرام؟ كيف ترجو غداً... لولد ينام كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام وهو يكبر - بين يديك - بقلب منكس؟ لا تصالح ولا تقتسم مع من قاتلوك الطعام وارو قلبك بالدم... وارو التراب المقدس... وارو أسلافك الراقدين... الى ان ترد عليك العظام! 6 لا تصالح، ولو ناشدتك القبيلة باسم حزن "الجليلة" أن تسوق الدهاء، وتبدي - لمن قصدوك - القبول. سيقولون: ها أنت تطلب ثأراً يطول. فخذ - الآن - ما تستطيع: قليلاً من الحق... في هذه السنوات القليلة إنه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيل فجيل. وغداً... سوف يولد من يلبس الدرع كاملة، يوقد النار شاملة، يطلب الثأر، يستولد الحق، من أضلع المستحيل. لا تصالح ولو قيل ان التصالح حيلة. إنه الثأر. تبهت شعلته في الضلوع... اذا ما توالت عليها الفصول... ثم تبقى يد العار مرسومة بأصابعها الخمس فوق الجباه الذليلة! 7 لا تصالح، ولو حذرتك النجوم ورمى لك كهانها بالنبأ كنت أغفر لو انني بت ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ. لم أكن غازياً، لم أكن أتسلل قرب مضاربهم أو أحوم وراء النجوم لم أمد يداً لثمار الكروم أرض بستانهم لم أطأ لم يصح قاتلي بي... "انتبه"؟ كان يمشي معي... ثم صافحني... ثم سار قليلاً ولكنه في الغصون اختبأ! فجأة: ثقبتني قشعريرة بين ضلعين... واهتز قلبي - كفقاعة - وانفتأ وتحاملت: حتى احتملت على ساعدي فرأيت: ابن عمي الزنيم واقفاً يتشفى بوجه لئيم لم يكن في يدي حربة، أو سلاح قديم، لم يكن غير غيظي الذي يتشكى الظمأ. 8 لا تصالح، الى ان يعود الوجود لدورته الدائرة: النجوم... دبقاتها والطيور... لأصواتها والرمال... لذراتها والقتيل لطفلته الناظرة. كل شيء تحطم في لحظة عابرة: الصبا - بهجة الأهل - صوت الحصان - التعرف بالضباب - همهمة القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي - الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي - مولوغة القلب حتى يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة كل شيء تحطم في نزوة فاجرة والذي اغتالني ليس رباً... ليقتلني بمشيئته ليس أنبل مني... ليقتلني بسكينته، ليس أمهر مني... ليقتلني باستدارته الماكرة لا تصالح، فما الصلح إلا معاهدة بين ندين... في شرف القلب لا تنتقص والذي اغتالني محض لص سرق الأرض من بين عيني والصمت يطلق ضحكته الساخرة! 9 لا تصالح، ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ، والرجال التي ملأتها الشروخ، هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد، وامتطاء العبيد، هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم، وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ. لا تصالح فليس سوى ان تريد أنت فارس هذا الزمان الوحيد وسواك... المسوخ! 10 لا تصالح لا تصالح نوفمبر/ تشرين الثاني/ 1976