كيف يرى الشعراء الشباب في مصر الى ظاهرة الشاعر أمل دنقل؟ ما هو رأيهم في تجربته عموماً وفي لغته الشعرية ومواقفه السياسية الاحتجاجية والتي تجسّدت أكثر ما تجسدت في قصيدته "لا تصالح"؟ هذه الأسئلة حملناها إلى أربعة شعراء مصريين شباب يمثلون تيارات مختلفة، بغية الوقوف على العلاقة التي تجمعهم بشاعر هو من روّاد القصيدة الحديثة! الخروج من نفق الغنائية الى أفق السردية عرفته بعد سنوات قليلة من موته، كنت صبياً يحلم بالشعر ووجدت اعماله الكاملة بالمصادفة، فتعلقت بها وبه. فتحت اعماله الكاملة في طبعتها الاولى طاقات التعبير امامي وحددت لي طريقاً مشيت فيه سنوات. وما زلت اذكره بعد مرور 15 سنة بشيء من الفرح والاسى معاً. في تلك الفترة الاولى من تكويني كان الراحل أمل دنقل نجماً كبيراً يتبارى كتَّاب المقالات الثقافية في تعظيمه ميتاً، وفي توضيح مدى خسارتنا بفقدانه. ويحكي معظمهم عن الصداقة الحميمة التي ربطتهم به وربطته بهم. وكان عدد من الشعراء التالين له يهاجمونه بعنف ويختزلونه في "البوق السياسي" و"الشعر المباشر" و"الالتزام المرفوض الذي يقتل الشعر" و"التقليد الزاعق في مواجهة التجريب الغائب". وبين الفريقين اللذين لم يستطيعا تقديم خطاب نقدي يحيط بعمل الشاعر ظلت اعماله الكاملة لصيقة بي وبعدد كبير من الشعراء الطالعين في اواخر عقد الثمانينات. حتى بعد ان تخففنا من تأثيره ظلت اعماله هذه الاختزال الموضوعي لشعر التفعيلة في مصر. فهو بحق الشاعر الاغنى والابرز من بين الشعراء التفعيليين، فهو تجاوز اولئك الرواد المشاهير ولم يستطع من جاء بعده من شعراء تفعيليين تقديم جديد يسبقه. ذلك أن أمل دنقل، في الحقيقة جمع بين وضوح الرؤية والسعي الدؤوب الى ايجاد حلول جمالية مبتكرة دائماً تتجسد فيها رؤيته الواضحة هذه، وقدم في ذلك نجاحات ملحوظة، من الاستخدام الموفق لأقنعة التراث ومروراً بتوظيف تقنيات المسرح كالحوار وتعدد الاصوات في القصيدة، وانتهاء بالقدرة الفائقة على اعتماد معجم لغوي معاصر وتحميله بشحنات دلالية وتعبيرية باهرة. وفي الوقت الذي كان الحديث عن العودة الى التراث وتوظيفه حديثاً دعائياً في معظمه وفقير النتاج، كان أمل يعمل بدأب على ايجاد صلة حقيقية بين متناقضين: زمن مضى وزمن معاش. وهذه المفارقة تتجلى كما افهم في توظيفه الكتاب المقدس توظيفاً ابداعياً في ديوانه "العهد الآتي" حيث يقول مثلاً في قصيدة "صلاة": "أبانا الذي في المباحث نحن رعاياك / باق لك الجبروت وباق لنا الملكوت / وباق لمن تحرس الرهبوت". ان الصدمة وإثارة الدهشة كانتا من الأفعال التي صاغها الراحل في رؤيته لتراثه ولكيفية توظيفه في قصيدته، ولم تكونا كما أشيع من اشكال الاستسلام تحت عجلات التراث وإعادة سرده من جديد في جمل متتابعة يجمع بينها العروض التفعيلي. وتظل قدرته الآسرة على الامساك بما هو شعري متعدية لنوعية القصيدة التي اختارها قصيدة تفعيلية واحياناً عمودية، وهو في ظني ما يجب الوقوف عنده في شعر أمل دنقل. كان موهوباً وملهماً في ادراك المنطق الشعري للعلاقات بين الاشياء والاشخاص والازمنة، وكذلك بين شعره والنتاجات الابداعية الاخرى وفي مقدمها السينما، والشواهد على ذلك لا تحصى: "كلمات سبارتاكوس الاخيرة" مثالاً وكذلك قصيدة "رباب" من ديوان "تعليق على ما حدث" ويقول فيها: "لا نهدها اليمامة التي تهم بانطلاقها / ولا انحسار الثوب فوق ساقها هو الذي حاصرني في الجسد الجزيرة / لكنه شيء كأنه اليتم / كأنه الفرار / يذوب بين ذراعيّ فتهدأ السريرة". وفي قصيدة "حديث خاص مع أبي موسى الاشعري" في ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة": "إطار سيارته ملوث بالدم / سار ولم يهتم / كنت انا الشاهد الوحيد / لكنني فرشت فوق الجسد الملقى جريدتي اليومية / وحين اقبل الرجال من بعيد/ مزقت هذا الرقم المكتوب في وريقة مطوية / وسرت عنهم ما فتحت الفم". إن ما طوره امل دنقل في شعره منذ البدايات الاولى وحتى "اوراق الغرفة 8" كان تجاوزه الى الغنائية التي وسمت قصيدة التفعيلة عموماً إلى نوع من الحبكة الشعرية الدرامية المحملة بالاحالات، سواء كانت تراثية ام سياسية ام اجتماعية ساخرة، وتظل هذه الحبكة الدرامية العنصر الرابط بين نتاج أمل دنقل تحديداً وبين الشعراء التالين له. فقد مثل نتاجه الشعري بداية فعلية للخروج النهائي من نفق الغنائية الى السردية الكاملة كما تمثلت في قصيدة النثر الراهنة. كريم عبدالسلام إقامة دائمة تحت الراية البيضاء! يبدو أن تفاؤلاً كبيراً أحاط بأنصار شعرية الخطاب بمجرد إنطلاق أولى قذائف "ضمير ما بعد التاريخ" على بغداد. ثمة استيعاضات يحاول المجتمع المقموع ان يجريها على جسده عند كل مأزق غليظ من هذا النوع البغدادي. وربما كان أمل دنقل واحداً من هؤلاء الشعراء الذين استعاضتهم او استعادتهم شعرية هذه اللحظة ايماناً بأن شعر أمل أصدق من سيوف العرب اجمعين. ولا اظن ان احتفاءنا بالشاعر والشعر بهذه الحماسة غير المسبوقة سوى تسليم من المهزومين بإقامتهم الدائمة تحت الراية البيضاء. وعلى رغم انني تعبتُ كثيراً وراء اصطياد شعرية أمل دنقل والاحتفاء الحقيقي بها على رجاء إشعال سراج كونفوشي ضعيف، الا انني بعد ردح من الزمن اكتشفت وقوفي على مشارف الصحراء العربية وأعود بما انجزته الشعرية العربية، في حساسيتها المستقبلية وكشوفاتها العظمى لدى نماذج عدة لا يمكن ان نغفل منها السؤال الذي يخترق الماضي والحاضر ببسالة لدى أدونيس، وكذلك انعطاف التأمل الانساني لدى صلاح عبدالصبور الى جماليات تفارق الذائقة القارة والتليدة التي كانت تؤسس لبهائها شعرية أمل دنقل. وأظن ايضاً ان ما نفعله بإلقاء اجسادنا المنهكة على طاولة تجاوزتها الشعرية العربية هو نوع من النوستالجيا غير الاليفة. وسيظل الاحتفاء بشعريات من مثل أمل دنقل يجدد سؤال هذه النوستالجيا باعتقاد فشل أو اخفاق ما ظننا انه ماض لن يحيا الا في اضابير يوم القيامة. وربما لهذا السبب لن اتمسك بتشاؤمي حيال المستقبل، لأن متلقينا الطيب لا يدرك أن التجاوزات الحاصلة على هذه الارض ادركها الشعر مبكراً لدى كثيرين حلت خطواتهم محل خطوة أمل، وصاروا قابضين على ذواتهم الى جواره. وسيظل ايضاً فشلنا في استيعاب لحظتنا راجعاً الى اعطاب أخرى اصابت العقل العربي، ليس الشعر بالتأكيد احدها، بل ربما كان احد ضحاياها. ان الاحتفاء بأمل دنقل امر مهم لا شك، على أن يكون ذلك مدعاة للوقوف على المأزق التاريخي الذي غيب الذات لمصلحة المجموع الممزق المقموع والمطحون، المجموع الوهمي والافتراضي والمعنوي الذي خلف بيننا رموزاً وأنصاف رموز غادروا الشعر في معظم الاحوال الى الحكمة والموعظة الحسنة. محمود قرني الشاعر الذي التفت الى التفاصيل الصغيرة إذا كانت تجارب قصيدة النثر المصرية على تعددها وتباينها في ما بينها، استلهمت تجارب الكثير من الشعراء من مختلف الثقافات والاجيال والمراحل الادبية المختلفة والمتنوعة، فإنها أبقت ضمن اعمدتها الرئيسة على الكثير من اصحاب التجارب الشعرية الفذة والذين صاروا يشكلون مرجعيات اساسية لشعراء هذا اللون الادبي في مصر والعالم العربي، مع غض النظر عن الفترات التاريخية التي عاشها اصحاب هذه التجارب أو الهم الذي عاشوا به وكتبوا من خلاله منجزهم الادبي. ولست في حاجة، بالطبع، الى الاشارة الى انه يكاد يكون لكل شاعر من شعراء قصيدة النثر المصريين الآن مرجعياته الشعرية المختلفة تماماً عن الشعراء المجايلين له، لكنني في الوقت نفسه، استطيع استثناء شاعر مصري واحد ازعم أن معظم شعراء جيل التسعينات في مصر، الذي انتمي اليه بحكم التفسيرات النقدية المتعارف عليها، اعتبروه لفترة طويلة اباً روحياً لكتاباتهم وقصائدهم، ألا وهو الشاعر الراحل امل دنقل الذي تمر الآن ذكرى رحيله العشرون. فلماذا أمل دنقل تحديداً؟ لأنه، اولاً، الشاعر الوحيد الذي اشتغل على لغته وقصيدته وفي شكل مخالف لجميع اقرانه المجايلين له والسابقين عليه. ففي الوقت الذي كان صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي يشتغلان على الحس الرومانسي والتاريخي في قصائدهما، بدأ أمل دنقل ببناء شعرية درامية عبر استخدامه المرهف للمونولوغ والديالوغ والحكاية واستعارة الشخصيات التراثية من خلال ترسيخه تجربة القناع المبتكرة في قصائده وتوظيفه المتقن للتقنيات السينمائية مثل المزج والقطع والارتداد الفلاش باك. وهي نفسها التقنيات التي لم يزل كثيرون من شعراء قصيدة النثر مصريين وعرباً يستخدمونها في قصائدهم حتى الآن. وللدلالة على ذلك علينا العودة الى اعمال أمل دنقل وقصائده الموزعة على دواوينه المختلفة ومن ابرزها: "ميتة عصرية"، "الجنوبي"، "مقابلة خاصة مع ابن نوح"، و"الحزن لا يعرف القراءة". ولعل شعرية أمل دنقل، ثانياً، في جوهرها تقوم على المفارقة التي تتخذ صوراً واشكالاً متعددة ومتباينة من قصيدة الى اخرى، والمفارقة لم تزل حتى الآن إحدى خصائص قصيدة النثر التي تكتب في مصر والبلدان العربية الاخرى، خصوصاً لدى الاجيال الجديدة من الشعراء. والاهم ثالثاً، هو الاهتمام غير الطبيعي الذي ابداه أمل دنقل بالتفاصيل الشديدة الصغر في قصائده، حتى ليشعر القارئ بأن أمل دنقل لا يكتب بقدر ما يرصد مشهداً معيناً بكاميرا شديدة الحساسية. فهو لم يهتم لحظة بالتعمية والابهام وكتابة الطلاسم التي احترفها من قبله ومن بعده عشرات الشعراء. هذا عن الصورة العامة لحضور أمل دنقل وتأثيره في الشعراء الجدد. أما على المستوى الشخصي فيمثل أمل دنقل لي حالاً شعرية مغايرة تماماً عن القراءات الاكاديمية والنقدية التي ما برحت تطل علينا منذ رحيله عام 1983 لتؤكد لنا مرة بعد اخرى أنه الشاعر المصري الوحيد الذي تنبأ بالهزيمة العسكرية في 1967، وغيرها من التأكيدات المشابهة. أمل دنقل الذي يخصني والذي اعتبره احد مرجعياتي الشعرية الاساسية، هو هذا الرجل الوحيد الذي كان يداري ضعفه وانكساره بصلفه وكبريائه المبالغ فيهما، هو الجنوبي الذي حين بدأ كتابة قصائد ديوانه الاول "مقتل القمر" قال ببراءة متغربة آنذاك: "احس حيال عينيك بشيء داخلي يبكي/ احس خطيئة الماضي تعرت بين كفيك"، وهي البراءة نفسها التي عاد اليها أمل دنقل في قصائد ديوانه الاخير "أوراق الغرفة 8" الذي نشر بعد رحيله. عماد فؤاد جعل الوطن مسألة شخصية تعرفتُ على شعر أمل دنقل في المرحلة الثانوية، وبعد ذلك في الجامعة. كنا مجموعة من الكتاب الناشئين، نخفي ما نكتبه خوفاً من سخرية الآخرين، وأحياناً خوفاً من سخرية بعضنا. لم أكن أحب - وما زلت - الكتابات الشعرية ذات الأغراض. تصنيف الشعر باعتباره عاطفياً، وطنياً، دينياً... لم يكن يروق لي. لكنني وجدت مثلي مثل أصدقائي الشباب في ذلك الوقت ميلاً إلى أمل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم ووديع سعادة وغيرهم ممن شعرت أن كتاباتهم أكثر شخصية وذاتية من الكتابة في هذا الغرض أو ذاك. ومع ذلك كنت مثلي مثلهم أنتشي ل"سبارتاكوس" وأشعر وكأنني أتمثل شخص أمل دنقل عند سماع "لا تصالح" أثناء كتابته إياها. أتذكر أننا كنا نحمل جميعاً نسخة واحدة من الأعمال الكاملة لأمل دنقل ذات الغلاف الأحمر المتين وكنا نتناقلها في ما بيننا. وعندما كنا نقرأ منها في حلقات تجمعنا، كنا نتبادلها ونتناوب القراءة. يتخلف منا من لديه محاضرة، ويعود ليكمل، على رصيف كلية الآداب، تحت قسم اللغة العربية. كانت كتابة أمل دنقل الوطنية، كتابة شعرية أكثر من أي شيء، ولهذا هضمتها وأحببتها. تحولت مسألة الوطن مع أمل دنقل بمشكلاته وأحزانه وآماله إلى مسألة شخصية، هم ذاتي، وليس طنطنة. ومن هذا الهم الذاتي، خرج شعره. وبسبب هذا الهم الذاتي أحببت شعره. لم تكن موسيقى شعره تلهيني بسماع إيقاعها عن سماع الشاعري في شعره. ولا أظن همه كان أن يصنع إيقاعاً موزوناً وإن لم يكن مقفى، بقدر ما كان أن يطلق صرخته، في الفضاء، صرخة أوقعتني بحبها أكثر في فخ الكتابة. ووجدت نفسي متتبعة صداها، أصرخ صرختي. الوطن يمكنه أن يكون هماً ذاتياً. الذات ليست مناقضة للموضوع. الهم الذاتي ليس أضيق من أن يحتمل وطناً. الكتابة الذاتية أوسع. ولها صلة بكل شيء، يقترب، لحظة الكتابة، من الذات. هدى حسين