مبدأ حركة الأقنعة ما بىن الحاضر والماضي في قصائد أمل دنقل هو الوعي بالانهيار القومي الذي استجاب إليه شعره حتى من قبل وقوع كارثة العام السابع والستىن. وهو الوعي الذي أدّى إلى رؤية اللحظة التاريخية لهذا الانهيار بوصفها لحظة السقوط، المساء الأخىر على الأرض، وقت الرماد الذي ينسرب إليه الأفول من كل حدب وصوب، متخذا العدىد من التجلىات الفردىة والجماعىة التي لا تخلو من حضور الموت الذي ىبسط ألوىته السوداء على قصائد أمل منذ البداية. ويصل هذا الوعي المأسوي بين المفرد والجمع، الخاص والعام، الحاضر والماضي. والنتىجة هي ما ىنتهي إلىه المتمعن في شعر أمل من أن قصائده تتحول إلى مراث متكررة الرجع في مستوى أساسي من دلالاتها، مراث لعالم ىحتضر أو عالم ينتشر فيه الموت. صحىح أن هذه القصائد لا تكف عن رفض الموت في تعلىقها على ما ىحدث، ولا تتوقف عن التمرد على الموت الذي ىنتشر كالهواء في كل شيء. ولكن رفض الموت والتمرد على حضوره الطاغي إثبات لهذا الحضور، وتأكيد لعلاماته الكثيرة التي تجذب العين في عالم مستكين لم ىعد في ظاهره ما ىنبض بالروح. وليس من الضروري أن نحصي دوال الموت في قصائد أمل من حيث علاقتها برؤية السقوط القومي، فالدوال أبرز من أن تُحصى، فضلا عن أنها تلفت الانتباه من عناوين القصائد نفسها، حين تتكرر ملحة في الدلالة المهيمنة، ابتداء من "مقتل القمر" في بواكير الكتابة، مرورا بقصائد من مثل "موت مغنىة مغمورة" و"الموت في لوحات" و"العشاء الأخىر" في دىوان "البكاء بىن ىدي زرقاء الىمامة" الذي لا نرى فيه سوى الرؤىة الهولىة للموت الذي ىصل بىن العام والخاص، وانتهاء بقصائد من مثل "فقرات من كتاب الموت" و"الحداد ىلىق بقطر الندى" و"مىتة عصرىة" و"الموت في الفراش" في دىوان "تعلىق على ما حدث" الذي ىبدأ بالموت "في انتظار السىف" وىنتهي بموت عبدالناصر في مرثىة "لا وقت للبكاء". وعلى رغم أن عناوىن قصائد "العهد الآتي" تخلو من دوال الموت، حىث تغلب دوال الأسفار والمزامىر والرسوم، فإن تجليات الدلالة المهيمنة للموت تظل ماثلة في القصائد حىث الأفق الشعري كله رماد به صنع الموت قهوته، ثم ذراه كي تتنشقه الكائنات، فينسل بين أسطر القصائد ومقاطعها. ومن هذا المنظور، ىبدو "العهد الآتى" بحثا عن مملكة أخرى لىست من هذا العالم، عن زمن نقىض ىغاىر "العهد القدىم" و"العهد الجدىد" معا. ولكن أىن هو "العهد الآتي" في الدىوان الذي ىحمل اسمه؟ لىس هناك سوى العهد الحاضر الذي ليس في مداره المغلق إلا الموتى الذين ىحملون أكفانهم، أطىارهم لىست في أعناقهم، ىسألون: ما الذي قادنا إلى الموت؟ والإجابة تومئ إلىها دوال الأسفار والمزامىر والرسوم في الديوان، خصوصا من حىث هي دوال تشىر مدلولاتها إلى ما تترجع به دلالاتها في القصائد التي لايكاد ينجو فيها أحد من الموت الفعلي، أو الشعور العدمي الذي لا يخلو من معنى الموت في الحياة. ولذلك يبدو الموت في الديوان كالجائحة الكونية، ناشرا أعلامه وعلاماته في كل مكان. لا يترك شيئا يلوذ به الوعي سوى الوصايا الأخيرة التي تقبض قبضة اليائس على آخر أمل في المقاومة التي تبدأ منها "أقوال جديدة عن حرب البسوس". وهي الوصايا المكتوبة بدماء الشهداء الذين يختزلهم - على طريقة الموازاة الرمزية- قناع "كليب" في مقاطع قصيدة "لا تصالح" التي تبدأ من العنف العاري للموت غيلة، واصلة بينه وحتمية الثأر الذي لا يتخلى عن رغبة استعادة الحياة من الموت في قناع ابنة كليب - اليمامة أقوال اليمامة، مراثي اليمامة. وكما لا يكف الحضور الطاغي للموت العام عن التحول إلى حضور طاغ للموت الخاص، أو العكس، في المناقلة التي تُسَوِّى بين معاني الموت في الحياة والحياة في الموت، على امتداد قصائد أمل الذي يبدو منذورا للموت منذ البداية، فإن هذا التحول يمضي في مساره المتصاعد الذي يضفر العام والخاص في ضفيرة واحدة. وتفترش هذه الضفيرة الفصل الأخير من كتاب الموت الذي سرعان ما يطبق على "أوراق الغرفة 8" كاشفا عن "لعبة النهاىة" التي لم ىبق فيها سوى انتظار هبوط الرخ ذي المخلبىن لىحمل "الجنوبي" الذي اشتهى أن ىلاقي اثنتىن: الحقىقة والأوجه الغائبة، كما لو كان ىجىب عن السؤال الذي سأله من قبل في قصىدة "بكائىة لصقر قرىش": عم صباحا أىها الصقر المجنّح عم صباحا. سنة تمضي، وأخرى سوف تأتي فمتى ىقبل موتي قبل أن أصبح -مثل الصقرِ- صقرا مستباحا!؟ هذا الشعور الطاغي بالموت نتيجة وعي مهوّس بالنهاية المأساوية للمشروع القومي الذي استبدل الكابوس بالحلم في قصائد أمل، ودفعه إلى أن يفتش بين أطلاله عن أسرار خرابه، مؤمنا أن حياته الخاصة ليست سوى مرآة لحياته العامة، وأن وجوده الفردي ليس سوى عنصر من الوجود القومي الذي صعقته الكارثة التي كانت إرهاصاتها تتجلى في مرايا أمل، أو قصائده، منذ مطالع الستينيات. ولأنه لم يعرف التفاؤل القومي الساذج الذي عرفه شعر غيره الذين لم يروا سوى السطح الخادع، وانطوى على هاجس السؤال الذي وضع كل شيء موضع المساءلة، ابتداء من وعيه الذاتي وانتهاء بسدّة عرش الدولة، فقد أدرك منذ البداية نهاية اللعبة العامة التي تقمع الرغبة الخاصة، وأرهص بكارثة المدار المغلق للدولة التسلطية التي لا تؤسس للحرية والعدل والتقدم، والتي لا تنجح في شيء إلا بتعجيل النهاية التي تنشر مناخ الهزيمة وعلامات السقوط. ولذلك ظل الموت عنصرا تكوينيا حاسما من العناصر المهيمنة على شعر أمل، ولكنه عنصر لا يفضي إلى الميتافيزيقا على نحو ما نجد في شعر صلاح عبدالصبور على سبيل المثال، لأن الموت في شعر أمل حضور اجتماعي فيزيقي بالدرجة الأولى، لا يفارق قصائده التي يستغرقها الواقع الاجتماعي السياسي وليس ما وراء هذا الواقع، وذلك منذ أن اختفى صاحبها وراء قناع سبارتاكوس ليناوش العنف العاري لقمع الدولة التسلطية في مطالع الستينيات. ومضى هذا العنصر في سياقاته الاجتماعية والسياسية المتصاعدة، بادئا من قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" سنة 1962 إلى قصيدة "ىومىات كهل صغىر السن" المنشورة للمرة الأولى في مجلة "المجلة" القاهرية عدد ايلول سبتمبر 1968. وحافظت سياقات التعاقب على إيقاع تصاعدها إلى قصيدة "سفر ألف دال" المنشورة للمرة الأولى في مجلة "الكاتب" المصرية كانون الثاني يناير 1975. وما بين القصيدتين الأخيرتين، تتجاوب العلاقات الدلالية التي تحتويهما، في وعي المفرد الذي ينطق شعور الجمع، ورؤى الذات التي تنعكس عليها الرؤى العامة للأمة. ولذلك تبدأ القصيدة الأولى من الرجع الدلالي السائد، وتستهل سطرها الأول بإعلان الموت: "أعرف أن العالم في قلبي مات". وتمضي الأسطر الأولى مع دلالة الاستهلال إلى حيث تتوحد الذات مع وعيها، لتجتلي مشاعر القلب الذي يغدو مرآة خاصة لعالمه العام. تنبش فيه باحثة عن شعاع ينبض في الأطراف الباردة الصلبة. ولكن لا تجد سوى الموت الذي لا يتبقى منه سوى جمجمة وعظام. وتلك هي النهاية التي يبدأ منها ارتحال "ألف دال" أمل دنقل ما بين سماوات الموت الرمادية وشوارع المدينة التي نهبتها قراصنة الموت منذ سنين، فلم يبق للمرتحل سوى أن ىخاطبنا من وراء قناع شفاف بقوله: زمن الموت لا ينتهي يا ابنتي الثاكلة، وأنا لست أول من قال في السوق: إن الحمامة - في العش - تحتضن القنبلةْ. هكذا، لم تفارق تجليات الموت الخاص والعام سياقاتها الاجتماعية والسياسية في شعر أمل قط، وظلت تجسيدا لرؤية مهوسة بانحدار التاريخ القومي، وقرينة وعي تاريخي مأزم لا يرى في الحاضر سوى زمن يتقاطع، زمن اختار فيه التاريخ القومي أن يمضي في الطريق الذي يتراجع صوب الهوة اللانهائية، تاركا طعم الموت في القصائد التي تسكنها أشباح ناس يسيرون - حتى النهاية - تحت ظلال الهوان. وليس هناك مخرج من الطريق المسدود لحركة هذا التاريخ سوى التمرد عليه، ما ظل الاستسلام له يعني الانكسار الكامل الذي هو نوع من الانتحار فيه .ويبدأ التمرد بالغوص عميقا في جرح الكارثة التي تولد عنها وعي السقوط، والثورة على انحدار التاريخ الذي أصبحت به الأرض التي خرجنا من صلبها، وانطرحنا في حبها، غير الأرض التي ما وعد الله بها. ولكن مقاومة التاريخ المنحدر لا تتحقق في العالم الشعري لأمل إلا بالتمسك بنقيض الانحدار في التاريخ نفسه، واستبدال مبدأ الرغبة في العهد الآتي بمبدأ الواقع الماثل في العهد الحاضر، ومن ثم العودة إلى ماضي هذا التاريخ من حيث هو أصل الهوية، واستعادة لحظات صعوده الحية وتوتره الخلاّق بواسطة الأقنعة والموازيات الرمزية. والهدف وضع تخلف الحاضر في علاقة تضاد مع تقدم الماضي، حثا للتاريخ الحاضر على مفارقة هوة السقوط التي انتهى إليها. وفي الوقت نفسه، وصل الحاضر بعمق امتداده في الزمن. غير أن هذه العودة في انطلاقها من مبدأ الرغبة الذي يستبدل دورات الصعود في الماضي بدورات الهبوط في الحاضر، مقابلا بين العهد القديم والعهد الجديد في التطلع إلى العهد الآتي، تغدو نوعا من العزاء عن الحاضر المتخلف وتمردا عليه باستعادة نقيضه. والنتيجة هي تحول أقنعة التراث القومي وموازياته الرمزية، في شعر أمل، إلى تجليات لمبدأ الرغبة الذي يواجه مبدأ الواقع، حالما بإمكان التحول من النقيض إلى النقيض أو استبدال عهد بعهد. ولا يخلو الأمر من آلية دفاعية بأكثر من معنى من المعاني الشعورية أو اللاشعورية في هذه المناقلة، على الأقل لمقاومة طغيان الشعور بالنهاية التي تشيع تجليات الموت العام والخاص في كل شيء، ومواجهة كوابيس السقوط التي تهيمن على كل حلم. ووسيلة المقاومة، على مستوى التصعيد الإبداعي للقصيدة، هي التحديق في قرارة السقوط لاكتشاف مبدأ الحركة المناقضة، والبحث عن علة هذه الحركة في نقائضها التي تُلْمِحُ إلى الصعود على سبيل التضاد، وتُلَوِّحُ به على مستوى الأمل، وتؤكده من منظور الرغبة التي تسعى إلى الانتصار على مبدأ الواقع. والبداية هي رد الأشباه في الحاضر على النظائر في الماضي، ورؤية الحاضر بوصفه مجلى يسترجع غيره الشبيه أو النقيض من مجالي الماضي. والمنطلق هو الإيمان بدورات الزمن التي تتقلب ما بين الهبوط والصعود، السقوط والنهضة، التخلف والتقدم. وهي الدورات التي لن تصل إلى العهد الآتي إلا بعد استرجاع المبدأ الخلاّق للعهد القديم وإعادة إنتاجه بما يصل الخاص بالعام، الفرد بالجماعة، الجماعة بالأمة. ولا تنفصل هذه الثنائية عن الدافع إلى توظيف الأقنعة التراثية، من حيث ما تشير إليه من وجود علاقة التضاد في موازاة علاقة التشابه في الصلة بين الماضي والحاضر. العلاقة الأولى تقطع ما بين الأزمنة. والثانية تصل ما بينها. لكن بما يرد الثانية على الأولى، والأولى على الثانىة. والفاعل في العلاقتين هو الوعي المأزوم الذي يسقط بعض ماضيه على مستقبله حالما بنوع من الاستعادة، الأمر الذي يدفعه إلى أن يرى في إيجاب الماضي بعض إطاره المرجعي الذي يحكم به على حركة الحاضر، متطلعا إلى إمكان أن تستعيد هذه الحركة في المستقبل نقطة كمال سبق أن كان، لكنه ضاع كالفردوس المفقود بسبب الخطيئة المتكررة لأبنائه، والقمع المغروس في سلطانه. وهي الخطيئة التي تلازم القمع في معنى الشر الذي يربك دورة الوجود، وينحرف به عن مساره. ولذلك لا بد من مواجهته والوقوف ضده إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة: النجوم لميقاتها والطيور لأصواتها والرمال لذراتها والقتيل لطفلته الناظرة وأتصور أن هذه الرؤية التي تنطوي على معنى الدائرة، خصوصا في تأكيد لوازم الثنائية التي تدور بها دائرة الزمن صعودا وهبوطا أو هبوطا وصعودا، بين قطبين لا تكف تجلياتهما عن التضاد، هي التي انتهت بأمل إلى الإلحاح على الأقنعة التراثية التي لم تفارق ثنائيات حركة دولاب الزمن في دورانه الأبدي. وفي الوقت نفسه، أسهمت هذه الأقنعة مع غيرها من الموازيات الرمزية في تجسيد رؤية السقوط القومي، ومن ثم وضع دوالها موضع الصدارة من علاقات الدلالة في قصائد أمل التي لم تخل إحداها من تجليات هذه الرؤية. ولذلك تؤكد القصائد التعارضات الأساسية التي تنبني بها من منظور وعي السقوط. وتقابل ما بين تجليات مبدأ الواقع الذي يشير إلى الموت في كل مجال ومبدأ الرغبة الذي يتطلع إلى الحياة حالما بانتزاعها من براثن الموت، عنيدا في حلمه الذي هو علامة مقاومته. وذلك هو سبب ما يصادفنا في قصائد أمل من بصيص ضوء لا يكاد يبين، لكنه موجود كما لو كان يتحدى الظلمة المتكاثفة، ويومئ إلى حضور مبدأ الرغبة الذي يقاوم حتى النزع الأخير. وعلامة ذلك ما نستمع إليه من ضمير المتكلم المباشر الذي يحدثنا عن انتظاره المتوتر، وهو يرقب في حمى ارتعاشة الأمة صرخة الطفل الذي يفتح عينيه على وعد مغاير تنتهي به قصيدة "في انتظار السيف". ونستمع إلى ضمير المتكلم غير المباشر المختفي وراء ضمير الغائب يحدثنا عن قلبه الذي انشطر، مؤكدا الثنائية التي تنبني عليها قصيدة "الهجرة إلى الداخل" في علاقات التعارض، لكن بما يرقد القلب المشطور فوق زهرة اللوتس، منفيا، يطالع المكتوب: منتظرا حتى يفورَ الكوبْ في يدهِ، يدير فوق جسمه رداءه المقلوبْ لكي يعود في مواسم الحصاد أغنية أو وَرْدَةْ.