لم يكن الدخول إلى مدينة كركوك على الطريقة التي وعد بها المسؤولون الأكراد الصحافيين عندما قالوا إنه سيتم عبر وحدات خاصة منظمة وبقيادة أميركية، وأن المرّحلين من كركوك سيسمح لهم بالدخول ولكن من دون سلاح. أمس دخل الأكراد كركوك بطريقة مختلفة تماماً. فبعد ليلة من قصف جوي لم تشهد المدينة مثيلاً له منذ بدء الحرب، صحا أبناء المدينة ليجدوها خالية من أي وجود للجيش العراقي. بعد نحو ساعة بدأ آلاف من المسلحين الأكراد يتقدمون نحو المدينة. لم تشهد هذه معارك تذكر، فقط جيوب مقاومة صغيرة. ومع شيوع خبر سقوطها بدأت أرتال من السيارات والشاحنات المحملة بالمسلحين من كل حدب وصوب تتوجه نحو طريق كركوك التي شهدت ازدحاماً خانقاً. في طريق الذهاب، صادفنا السيارات العائدة من كركوك مسرعة وفي داخلها المسلحون. السائق أخذ يعدّد لنا أنواع السيارات. إنها السيارات المصادرة. سيارات الشرطة والاطفائية وسيارات البلدية، ثم بدأت تظهر شاحنات جديدة يبدو أن المسلحين أخرجوها من مخازنها. وفي بعض الشاحنات صرنا نلاحظ وجود أثاث منازل وأسلحة مصادرة. وقبل الوصول إلى المدينة أطلّ علينا معسكر دارمان للجيش العراقي، وهو عبارة عن عشرات من الثكن التي بناها النظام على النمط البابلي، ومبانٍ أفقية تتسع لآلاف الجنود. ويبدو أن الطائرات الأميركية ثابرت على قصف هذا المعسكر، فهذه القلاع البابلية انهارت جدرانها وسقوفهاوتحولت اشلاء. وبعد معسكر دارمان بدأنا نتحسس كركوك قبل أن نشاهدها. إنها رائحة النفط المنبعثة من حقول النفط التي دمّر بعضها على ما يبدو فسالت كميات من الزيت غير المكرر على الطريق وشكلت مستنقعات صغيرة وجداراً من الروائح. حقول النفط والمنشآت المحيطة بها لا تشهد إلى الآن اقبالاً عنيفاً من المتقاطرين إلى كركوك. الأميركيون أقاموا حاجزاً هشاً عند مدخل المدينة من الواضح أنه يهدف إلى فهم هذه الهستيريا الجماعية، وإلى محاولة التدخل فيها. لكن أعدادهم ليست على النحو الذي يتيح لهم ذلك. الناس على مدخل كركوك يلوحون للقادمين، وعناصر الحزبين الكرديين، الديموقراطي والاتحاد الوطني، يتسابقون الى احتلال المراكز الحزبية. معمل "البيبسي" على مدخل المدينة يتعرض أمام أعين الجميع لحملة نهب وتكسير. وثمة مسلحون يطلقون الرصاص بعدما فرّ بالغنيمة رفاق لهم. أهالي المدينة واقفون أمام منازلهم، أنهم لا يشاركون في تقاسم الغنائم، هذا أيضاً ما أكده صاحب دكان صغير قال إن عمليات النهب تحصل على أيدي الغرباء الواصلين لتوهم إلى المدينة. وأكد أن "هذه المنشآت هي ملك لأبناء المدينة، لكننا لن نتمكن من حمايتها في هذه اللحظة الصعبة". لحظات النهب هذه اختلطت مع لحظات فرح عاشها أهل المدينة الذين يبدو أنهم مستعدون لتحمل هبة الغوغاء على مدينتهم في هذا اليوم، في مقابل زوال كابوس النظام الذي حوّل أكراد المدينة إلى مرحلين وعربها إلى مستوطنين، والتركمان إلى مواطنين من الدرجة الثالثة. المدينة تغلي بما لا يحصى من الانفعالات. مجندات من البيشمركة يرقصن وهن عابرات في سيارات عسكرية، ودخان الحرائق منبعث من المؤسسات الرسمية. مؤسسة التأميم للاستهلاك ومستشفى التأميم العام ومؤسسة النفط المؤمم، كلها أحرقت، وفي ساعات بعد الظهر بدأ الزحف نحو صور صدام وتماثيله. إنها الخطوة التي ارتأى الأكراد السير في ركبها بعدما بدأتها بغداد. لكن تمثال صدام الضخم الذي تحلق حوله العشرات صمد في وجه محاولات اسقاطه، إذ يبدو أنه مثبت جيداً، والشاحنة الكردية لم تتمكن من جره بعد. المستوطنون العرب الذين أسكنهم النظام في منازل العائلات الكردية المرحلة غادروا قبل نحو أسبوع. والقرى المستوطنات الطينية المحيطة بالمدينة خالية تماماً، وهي قرى جافة وتخرج من بين منازلها صور عملاقة لصدام ثبتت على اسمنت ظهر نظيفاً وأنيقاً وسط الجدران الطينية التي تؤلف منازل العرب النازلين في بلاد الأكراد. قوافل الجيش الأميركي وصلت متأخرة إلى المدينة. ففي السادسة مساء بالتوقيت المحلي وصل هؤلاء في حين كانت الغوغاء قد فعلت فعلها.أعداد كبيرة من الشاحنات الأميركية افرغت الجنود بالقرب من حقول النفط في وسط المدينة. وقال مسؤول في الاتحاد الوطني إن حقول النفط ستكون بحماية كردية وبقرار أميركي. تأخرت أيضاً الأحزاب الكردية في نصب الحواجز التي تعترض مصادري الأثاث والسيارات والمنازل. ففي طريق العودة كانت باشرت هذه الأحزاب خطوة ليست شديدة الاحكام لمصادرة الاشياء المنهوبة، فرصفت عند هذه الحواجز البنادق إلى جانب الغسالات ومولدات الكهرباء والسيارات الروسية التي يبدو أنها كانت بتصرف أجهزة حزب "البعث" قبل مغادرتها كركوك إلى تكريت البعيدة نحو مئة كيلومتر.