لا يبدو ان مواقع الحزب الديموقراطي الكردستاني، هنا، في منتصف الطريق بين مدينة أربيل وكركوك استعدت لاحتمال اشتعال هذه الجبهة. واصطف على جانبي الطريق المستقيمة عدد من اللاجئين الأكراد، وشاحنات قليلة تنقل مواد غذائية وغالونات النفط الذي يخزنه السكان استعداداً لمواجهة انقطاعه في حال اشتعال آبار كركوك وانقطاع وصول أنواع المحروقات من داخل العراق. مواقع البيشمركة بين قوشتبا وشيراوى قليلة التحصين. تلال ترابية منخفضة ترتفع فوقها رشاشات متوسطة ويقف خلفها المقاتلون. المنطقة سهلية ولا يعيق سير النظر الا تلال صغيرة بعضها لقوات الحزب الديموقراطي، واخرى أبعد قليلاً يتمركز خلفها جنود عراقيون. وهذه السهول غير مأهولة بالقرى. فقط تجمعات منازل صغيرة عند المفترقات، و"هنغارات" معدنية قليلة ايضاً، الأرجح انها لاستعمالات المزارعين من أبناء المنطقة. من الصعب التمييز بين الكردي المزارع وبين البيشمركي. فالملابس تكاد تكون واحدة والوجوه ايضاًَ، وحتى حمل السلاح الفردي أمر ربما ألفه الفلاح الكردي. الشاحنات تحمل في مستوعباتها لاجئين من كركوك بعضهم رفع يديه شاكياً أو لإرسال اشارة ما الى العابرين بسياراتهم على هذه الطريق التي لا تشهد حركة مرور تذكر. وتشير التقارير الى لجوء نحو ثلاثين ألف شخص الى المناطق التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني، فيما لجأ بضعة آلاف الى المناطق التابعة لسيطرة الحزب الديموقراطي الكردستاني، في اليومين الماضيين، قادمين خصوصاً من مدينتي كركوكوبغداد. لم يتلق عناصر البيشمركة أوامر صارمة بصد أي محاولة لتجاوز حاجزهم الأخير. هنا الضباط والعناصر يباشرون شروحاتهم للصحافيين من غير تخطيط. يدلون بالمعلومات التي يعرفونها، وهي قليلة على كل حال ومتفاوتة ومتناقضة في أحيان كثيرة. فحين تسألهم هل بإمكاننا تجاوز هذه النقطة التي تعد أخيرة ويليها حاجز الجيش العراقي، يجيبونك بارتباك، فيقولون ان صحافيين تقدموا في الصباح باتجاه الحاجز العراقي، ولكننا لا نعرف حقيقة المخاطر، ثم يشرع واحد من عناصر البيشمركة بشرح كيفية تلغيم الجيش العراقي الطرق وحفره انفاقاً بهدف تعبئتها بالنفط، ويقول آخر انه شاهد مروحيات تابعة للجيش تنتقل فجراً بين المواقع، ولكن تعزيزات الجيش ليست كبيرة، كما يؤكد عناصر الحاجز الكردي الأخير. "تعزيزات في المواقع الداخلية البعيدة عن الطريق"، هذا ما قاله ضابط في الحزب الديموقراطي كان يقف الى جانب رشاشه المتوسط على هذه الطريق، الضابط الذي ترك جنوده دشمهم الصغيرة والاعتيادية وتولوا مهمة مساعدة عائلة نازحة في حمل الأكياس. ولكن هذا المدى المنكشف لا يعوزه هذا النوع من الانتشار، اذ تشعر ان تغطيته تتطلب من الجيوش توزعاً نظامياً وقطعاً عسكرية تقليدية. فهذه السهول ليست البيئة المفضلة لأن تخوض ميليشيا أو جيش أنصار أي معركة. وكل ما يمكن ان يفعله هؤلاء الجنود هو الانسحاب واستدراج أي محاولة تقدم، الى مناطق جغرافية اكثر تعقيداً. ولكن هذا الوضع يمتد حتى تخوم مدينة أربيل. ولهذا أجاب ضابط آخر على سؤال يتضمن هذه المخاوف "نحن نعتمد على تدخل جوي اميركي اذا ما حاول الجيش العراقي التقدم باتجاهنا". ولكن يبدو ان لسيطرات "حواجز" القوات الكردية وظائف اخرى غير أمنية أو عسكرية، فهي على ما يبدو تتولى تنظيم وصول النازحين من كركوك والمدن العراقية الأخرى الى المنطقة الشمالية. ويصل النازحون الى هذه النقاط محملين بعشرات الأخبار والتوقعات والمخاوف. معظمهم شباب كرد تسللوا الى شاحنات تحمل بضائع ومواد غذائية، اذ يبدو ان الجيش العراقي منع كل السيارات المدنية من الخروج من مناطقه باستثناء الشاحنات، وقال أحد الذين تمكن من عبور حاجز شيراوي ان مئات العائلات تنتظر هناك على الحاجز السماح لها بالعبور. ولكن الغريب في الأمر ان أكثر الواصلين كانوا من الشباب بينهم طبعاً عائلات ومسنون. بدأ النزوح من كركوك يأخذ معاني جديدة ويحتمل تأويلات مختلفة، اذ انه يتم بالاختيار على ما يبدو. من يفسح لهم المجال للمغادرة هم الأكراد من سكان كركوك ولكن من تعود اصولهم الى أربيل أو الى قرى ومدن خارج سيطرة الجيش العراقي، فهؤلاء بحسب التوقعات يمكن ان يثيروا ريبة النظام اكثر من غيرهم. وقال عدد منهم ل"الحياة" انهم تحركوا الى أربيل بعد ان اجروا اتصالات بأقاربهم فيها، وان من له أقارب في أربيل يصير من السهل عليه القدوم. ولكنك قد تصادف أيضاً وانت تراقب حركة النازحين عائلة قادمة من بغداد، وهؤلاء قضوا ليلتهم على الحاجز العراقي ينتظرون السماح لهم بالمغادرة. وجوه هؤلاء بدت متعبة ومتنازعة بين فرحة السماح لهم بالخروج والحزن الذي تخلفه مغادرتهم منازلهم. اللحظة التي يتوقفون فيها على حاجز البيشمركة غالباً ما تكون لحظة انفعال مشحون بالشعورين معاً. الوجوه تظهر من نوافذ السيارة مشتعلة بتعابير لا يمكن تحديدها. الأطفال ساهمون وصامتون، والتعب باد على وجوه الكهول والعجائز، فيما النساء يشحن بوجوههن لتفادي عدسات بعض المصورين. جميع هؤلاء يؤكدون ان العراق بدأ يعيش ساعة الصفر. أهالي كركوك يتحدثون عن ان الأحياء الكردية في المدينة صارت شبه خالية، وان اجراءات الجنود العراقيين شديدة الصرامة حيال أي تحرك للمدنيين في هذه الأحياء. وقال معظم من سألتهم "الحياة" ان خنادق وحفراً تم استحداثها في محيط الأحياء والتقاطعات لضم بعضها، وتخزين النفط في بعضها الآخر. اجراءات التدقيق التي يجريها عناصر "السيطرة" التابعة للحزب الديموقراطي تبدو من باب تنظيم قدوم هؤلاء. ولا يبدو ان نزوح الأكراد من كركوك يثير حفيظة اجهزة الحزب، فبقاء الأكراد في المدينةالعراقية التي يسميها الأكراد هنا "قدس الأكراد" لا يبدو ان له وظيفة في مشاريع الحزب خصوصاً بعد الذي قيل عن ضمانات الحزب بعدم التدخل باتجاه كركوك. وعناصر حواجز الحزب على طريق قوشتبا، شيراوى، يقومون بتسجيل اسماء النازحين على دفاتر لديهم. ويعطونهم التوجيهات بالانتقال الى ضاحية بنصاروة قرب أبيل حيث يتجمع اللاجئون من كركوك. دموع كثيرة ذرفها العابرون رجالاً ونساء، ورفيقنا في الرحلة الى تخوم كركوك شرع يقول مؤشراً الى الشاحنات ان هذه حال الأكراد منذ خمسة قرون، وحين يتجاوز نظرك حافة الشاحنة الى داخل مستوعباتها تنتبه الى ان المساحات الفعلية في المستوعب مخصصة للبضائع، فيما النازحون موزعون على مساحات ضيقة بين البضائع، اذ ان البضائع عزيزة ايضاً في لحظات الأزمة هذه. الأكراد القادمون من كركوك يجيدون العربية اكثر من عناصر حواجز البيشمركة، ولكنهم يجيبون بكلام متقطع. وسبب تقطعه ليس عدم اجادتهم اللغة وانما تعثرات الرحلة ومصاعبها، وذلك الضيق الذي يعيشون على وقعه في قراهم ومدنهم الواقعة تحت سيطرة الجيش. الواحد من هؤلاء لم ينفطر على سهولة التحدث أمام الصحافيين، وكما كان يسأل الأمن العراقي عن مدى السماح له بالحديث، ينظر الآن في عيون عناصر البيشمركه قبل ان يجيب. وهؤلاء بدورهم يشرعون بالإيماء له برؤوسهم ان: "تكلم كما تريد". فلا أحد هنا يستمع. وبعد اجتيازها نقطة قوشتبا تتوجه شاحنات النازحين الأكراد الى اربيل، المدينة التي بدأت تنزح بدورها الى الحدود مع ايران.