كتب الاسرائيلي أوريا شيفن دراسة يروج فيها لدول عربية ديموقراطية، تأتي عبر حاملات الطائرات، وعبر ما يمكن تسميته الديموقراطية من الخارج. هذا الرهان سمعته من شخص عربي له مكانته سياسياً، يعتبر ان ذروة مشكلاتنا تتلخص في كلمة هي "الديموقراطية"، وبكلمة أخرى "صدام حسين وأمثاله!". ولأننا نعرف ان النقاش في مثل هذه القضايا سيكون ترفاً بامتياز، لأن لا مجال في لحظة الجنون العالمي وخلط الأوراق محلياً مع الحشود القادمة، لأن تناقش أحداً طالباً منه العمق. ولن نناقش الفرق بين الديموقراطية والحرية، وبين الديموقراطية في بلد لم يُنجز الثورة الصناعية وثورة الحداثة ومفهوم المواطنة والاندماج المجتمعي وبين الذين أنجزوا ذلك فعلياً. دعوة أوريا شيفت للديموقراطية العربية نشرت في جريدة "معاريف" الأكثر يمينية في اسرائيل. ويقول شيفت: بعد وقت قليل من انهيار الكتلة السوفياتية اقترح مثقفان أميركيان نظريتين تثيران الخيال عن العالم بعد الحرب الباردة. فرنسيس فوكوياما، رجل وزارة الخارجية الأميركية، الذي توقع "نهاية التاريخ"، حيث وصف عالماً تحتل فيه الديموقراطية الليبرالية، بطريقة النظام الغربي، دولة إثر أخرى وتصبح الخيار الايديولوجي لكل البشرية. اما صموئيل هنتينغتون، الباحث في العلاقات الدولية، فقد وصف عالماً يحل فيه محل الحرب الباردة صدام بين الحضارات وبين الأديان. وقد وصف هذا الصدام باسم "صدام الحضارات". ففي عالم هنتينغتون، الديموقراطية الليبرالية - الانكلواميركية لم تحقق الانتصار النهائي. وهي ستواجه صراعات شديدة في وجه الحضارات الاخرى، بما فيها الإسلام. ويرى شيفت بعد هذه المقدمة انه وفي اختبار الزمن الفوري فإن الحق كان مع فوكوياما. فمنذ كتب "نهاية التاريخ" في بداية التسعينات اقتطعت الثورة الديموقراطية المزيد من مواقع الطغيان، ولم تفقد أي موقع لها تقريباً. إذ انهارت الكتلة السوفياتية، أما الأنظمة الديموقراطية في جنوب أميركا التي انتعشت في الثمانينات، فحافظت على استقرارها في شكل عام. وفي تايوان وكوريا الجنوبية تعمقت حريات الفرد. ونظام الابرتهايد في جنوب أفريقيا انهار. ونظاما الطغيان في نيجيريا وأندونيسيا سقطا. وفي ترسيمة قانونية تمهد لنا وضعنا النفسي يرسم شيفت قانوناً يقول انه في كل مرة وقع فيه صدام ثقافي من النوع الذي توقعه هنتينغتون، انتهى في غضون أشهر في الشكل الذي توقعه فوكوياما. هكذا حصل عندما رفض سلوبودان ميلوشيفيتش الانصياع للولايات المتحدة، وأمل في تجنيد حليفته السلافية، روسيا. أخضع في غضون 78 يوماً، وبمرور أشهر أخلى مكانته لرئيس منتخب. هكذا حصل أيضاً عندما خاض أسامة بن لادن، بتأييد من نظام "طالبان"، الحرب المقدسة ضد الولاياتالمتحدة، التي هزمتهما في غضون شهرين. أما نظام طغيانهم فقد استبدل بنظام مؤيد لأميركا. وهذه الترسيمة القانونية ستتحول لدينا الى ما يشبه الصورة النمطية، وعلينا ان نتخيل ما سيحدث لصدام حسين وغيره اذا تابعنا مع أوريا شيفت هذه النبوءة السياسية. فالحقيقة التي يقرّها الأخير تقول: "الحقيقة هي أنه يمكن فرض ديموقراطية من الخارج، وإن لم يكن فرضها - فعلى الأقل المساعدة في إقامتها. فألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية عانتا من تراث طغيان صلب شديد. والاحتلال الأميركي القصير الأمد حولهما الى ديموقراطيتين مستقرتين وليبراليتين. والشبكة التي نشرتها الكنيسة الكاثوليكية ساهمت في انهيار الكتلة السوفياتية، ومنظومة العقوبات الدولية أدت الى سقوط نظام الأبرتهايد وتحويل جنوب أفريقيا الى ديموقراطية متعددة الأحزاب". وعلينا نحن ان نشرب الكأس، ونختزل كل ما تقوم به الولاياتالمتحدة في هذه الرسالة الحضارية والأخلاقية بنشر الديموقراطية. لكن شيفت يستدرك لمزيد من التعميق، والتحبيب بطروحاته، ان ليست كل الدول التي انجرفت في الثورة الديموقراطية تتحول الى ديموقراطية ليبرالية. فالكثيرات منها صارت ديموقراطيات غير ليبرالية. أي على رغم ان السلطة فيها منتخبة، الا انه لم يحافظ فيها على كل حريات الفرد ولم تتبلور فيها أنماط المساواة بين القوى السياسية المتنافسة، لكنها جميعها غدت أكثر حرية بعض الشيء، وفيها جميعها تبلور اعتراف واسع بأن الديموقراطية الليبرالية هي نظام الحكم الذي ينبغي التمسك به وتطويره. اذاً، المسألة ليست هي الحريات، إنما هي الأنظمة المنتخبة، وكفى... ولا ندري ما الحكمة في أنظمة منتخبة اذا لم يواكبها مشروع لتحرير الانسان والعقل: إنه سؤال يصلح لما بعد ما سيحدث! ولكن علينا ان نتذكر ان كولن باول أعلن بوضوح ان حملة بلاده ضد العراق هدفها تنصيب نظام يهيئ لمصالح الولاياتالمتحدة بصورة أفضل، ولإنهاء الصراع العربي - الاسرائىلي بالصورة المناسبة. ونتابع مع شيفت ان الديموقراطية اجتازت الحضارات والقارات، ملاحظاً انه في بداية القرن ال21 لم يتبق سوى كتلة واحدة من الدول ذات الصلة التاريخية، العرقية، اللغوية والجغرافية، التي رفضتها، بلا استثناء: وهي العالم العربي. والعراق كان الاستثنائي بين الدول العربية في وحشية نظامه، والحقيقة التي تمهد لما هو آت أنه "لم يتنازل أي نظام للطغيان في أي دولة عربية عن حكمه. ولم تتسع في أي دولة عربية حرية الفرد في شكل حقيقي. ولم تجر في أي دولة عربية انتخابات حرّة". وفي تحريض مبطن يقول: "الأكثر غرابة من ذلك: فبينما اضطرت الأنظمة غير المنتخبة في كل العالم الى النزول عن مسرح التاريخ، لم تنشأ في أي دولة عربية حركة ديموقراطية شعبية تتحدى الأنظمة القائمة". مع أوريا شيفت تبدو الرؤية من النوع الذي يبعث على التقاط الكوميديا السياسية التي تحاول ان تجمل القبيح" فهو ينتقد رؤية اليسار الراديكالي الذي يتهم الولاياتالمتحدة بأن هدفها الوحيد في الحرب هو خدمة مصالح شركات النفط الكبرى. والحقيقة التي يودنا ان نتبناها" هي ان الرؤيا الأميركية أكثر طموحاً! والسؤال الأكبر برأيه، والمطروح على كفة الميزان في المعركة العراقية ليس متى وكيف سيسقط صدام ولكن اذا كانت نهاية التاريخ أي تعميم النموذج الأميركي ستحل، بتأخير لبضع سنوات، على العالم العربي أيضاً. ويناقش الباحث الاسرائيلي السؤال التقليدي ولكن بصيغة تحمل دلالات النفي: هل الطموح الأميركي هو غرور لا أمل فيه؟ واذ يعترف بأن محللين ومراقبين كثيرين على قناعة بأن الطموح لإقامة ديموقراطية في العراق محكوم بالفشل، باعتبارهم مزودين ببضع حجج مقنعة، لكنه يعتبرها ليست دقيقة تماماً، وينبري لمناقشتها لا بهدف دحضها إنما بهدف التهيئة لما هو أبعد وهو حتمية تعميم النموذج الأميركي على الدول العربية. إحدى الحجج هي ان العراق لا يمكنه ان يصبح دولة ديموقراطية، لأنه لا يملك تراثاً ديموقراطياً. فبلا مؤسسات ديموقراطية قائمة وبلا جيل تربى على مبادئ ديموقراطية، لن يكون في العراق من يحقق الرؤيا الأميركية. وهذه الرؤية الاحترازية يرد عليها اسرائيلياً ببراغماتية تقول: "ان التراث الديموقراطي ليس شرطاً لإقامة نظام ديموقراطي. وحجته هنا أنه لو كان الأمر كذلك لما كان في العالم مجتمع ديموقراطي واحد. وفضلاً عن ذلك، فإن التجربة الديموقراطية ليست غريبة على العراق تماماً. فلديه تراث حزبي كفيل بأن يرمم غياب الإرث الديموقراطي، وفيه بنية تحتية ثقافية واقتصادية لإقامة هيئة قضائية ووسائل إعلام مستقلة، وآلاف النشطاء المعارضين المهاجرين الى الغرب، ممن انتظموا في السنوات الاخيرة في مؤسسات ديموقراطية شبه تمثيلية وتلقوا دعم الغرب وأفكاره"، وهم في رأيه سيعودون الى بغداد، ليقودوا البلاد. حجة أخرى يناقشها شيفت هي ان العراق لا يمكنه ان يصبح ديموقراطياً بسبب الانقسامات العرقية فيه، ويشمل ما هو طائفي بما هو اثني من دون اي احتراز، معتبراً أنه "منذ قيام الدولة يسيطر أبناء الأقلية العربية السنية، الذين يشكلون خمس السكان على الحكم، مطالباً بعقل الديموقراطية الطائفية لا الوطنية بأنه من الديموقراطية الحقيقية ما يسمح باعطاء السيطرة الى أبناء الغالبية الشيعية". اذاً فالمسألة واضحة في التفسير الاسرائىلي للديموقراطية الأميركية في نموذجها العراقي، وهي تكريس البعد الطائفي في العراق بحيث يصبح ما هو سنّي وما هو شيعي هو معيار الحكم وليس ما هو وطني، بغض النظر عن الانقسامات الكينونية الأولى وهذا ما دأبنا على التحذير منه مراراً وتكراراً، من ان الديموقراطية من دون اعتبارات وطنية وعلى حاملة اقتصادية، سرعان ما ترتكس بمفهوم المواطنة الى طائفة وعشيرة. ويسترسل الباحث الاسرائىلي الذي "يتنبأ" لنا بنهاية التاريخ بأيدي الديموقراطية الأميركية وبالتالي نهاية تاريخنا أو، بكلمة، نهايتنا: "أما العرب السنة، وحتى بعد طرد صدام، فمن شأنهم ان يثوروا في وجه هذه الاحتمالية والدفاع عن مواقع قوتهم بتفان وعناد"، ليستدرك "ان الانقسامات العرقية ستجعل من الصعب على العراق ان يتقدم نحو الديموقراطية"، ويتابع سلسلة الاستدراكات بعدم الحيد عن الترسيمة الأساسية لبحثه التبشيري بالقول: "لكنها لا تجعل العملية مستحيلة". وحجته في هذا ان الهوية القومية - وليس الوطنية - العراقية ولا نعلم كيف تربط القومية بالعراق في غياب البعد العربي له، والمسألة هنا واضحة، فعراق الغد سيكون منزوع العروبة أيضاً، هذه الهوية القومية! ليست بحسب رأيه أقل قوة من الهويات العرقية والدينية للجماعات التي تشكلها. حجة أخرى يناقشها الباحث الاسرائيلي وتتمثل في ان العراق لا يمكنه ان يصبح دولة ديموقراطية. لأن قوة أجنبية لا يمكنها ان تفرض ديموقراطية "من الخارج". وحتى بعد استكمال طرد صدام حسين، فلن يوافق أبناء الشعب العراقي على ان تحدد أميركا كيف يعيشون وبأي صورة يديرون بموجبها حياتهم. والحجة جاهزة هنا بأن حرب الخليج جرت على خلفية انهيار الكتلة السوفياتية، وجورج بوش الأب أعلن عن "نظام عالمي جديد". فقد طلب في حينه من العالم العربي ما يطلبه اليوم ابنه - خلفه: توسيع حريات الفرد واجراء إصلاحات ديموقراطية. لكن الطلب كان واهناً ومتردداً على عكس ما يقوم به الابن، وكان دوره - أي الأب - إسكات الأصوات التي هاجمت التدخل الأميركي. متذكراً ان الانظمة العربية لم تتجاهل الدعوة الأميركية غير الملتزمة بالتحول الديموقراطي. فأمام المطلب بالإصلاح حرر بعض هذه الأنظمة قبضته القاسية عن السلطة، وعقدت برلمانات من جديد، ودعي الجمهور الى انتخاب ممثليه، وسمح لرجال المعارضة باطلاق أصواتهم، وغدت وسائل الاعلام أكثر حرية. ويعرض للإصلاحات الديموقراطية في العالم العربي في بداية التسعينات من الجزائر وحتى قطر، من الكويت وحتى الأردن، من اليمن وحتى مصر، التي أثارت - برأيه - آمالاً كبرى في الغرب. متذكراً انه في بداية التسعينات كان هناك بعض المحللين الغربيين الذين قدروا بأن الثورة الديموقراطية أخذت اخيراً تصل الى العالم العربي ايضاً. ولكن الآمال - بحسب زعمه - خابت. والسبب ان الاصلاحات التي أقرها الحكام العرب لم تكن أكثر من محاولة لصد الروح الديموقراطية من خلال التبني المحافظ الملتوي لبعض مفاهيم مؤسسات نظام الحكم الغربي. ولهذا فإن القدوم الأميركي هو لحسم المسألة وحسم التاريخ. ولعلنا سنستنتج الآن ان الكثير مما قرأنا يداعب وعي ولا وعي بعض المثقفين والعامة اليوم، خصوصاً من العراقيين. وعلينا ان نسأل عما اذا كان كل هذا الدفاع الاسرائىلي، ليس مدعاة للتساؤل أو المراجعة، ليس من منطق تآمري إنما من منطق خطورة ان نتقاطع مع اسرائىلي يرى ان مآل الديموقراطية هو ان تحكم طائفة طائفة أخرى أو ينتزع البعد العربي أو الوطني لذلك الحكم الديموقراطي! * كاتب سوري.