قد يكون مبدأ الهوية الإسلامية للسلطة، بركنيه الخلافة والشريعة، من مسلَّمات الشرع، وقد مكَّن من سطوع الأمة لقرون طويلة غابرة، لكن الحاضر ليس الماضي، وعلى النخب الجديدة الإسلامية المنحى أن تفقه واقع السياسية الاميركية في تعاطيها مع العرب والمسلمين، فالولاياتالمتحدة ما زالت صاحبة السطوة المادية الكونية، العسكرية والاقتصادية، واذا ما واجهها الإسلاميون بدولة الشريعة والخلافة، وقعوا في كمين محكم ما انفك بعض الغرب يرسمه لنا ولنفسه على انه قدر محتوم. ونعرض في ما يلي لواحد من المكونات العقيدية الأساسية في صناعة السياسة الخارجية الأميركية، عنينا مبدأ الهوية الغربية، وتحديداً المفهوم الصراعي لهذه الهوية في مقولات صامويل هنتينغتون ومقالته الشهيرة التي ظهرت عام 1993 تحت عنوان «صدام الحضارات: الشكل القادم للصراع الدولي» (صدرت ككتاب عام 1996). اتت تلك المقالة ثمرة مشروع بحثي تحت اشراف هنتنغتون، حول موضوع «متغيرات المحيط الأمني والمصالح القومية الأميركية». فكانت اطروحته في الربط والتلازم بين الهوية التاريخية والمصالح القومية، من العلامات الفاصلة في تحديد المنظور الفكري والقيمي لصناع السياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة من الحزب الجمهوري وتيار المحافظين الجدد خلال ولايتي جورج بوش الابن في سنوات 2000-2008. الفكرة الحاكمة في مقالة هنتينغتون هي أن العلاقات السياسية من صراعات وتحالفات وتفاهمات بين الدول في القرن الواحد والعشرين، سيحكمها قانون الصدام بين الحضارات العالمية الرئيسية، التي تتموضع جغرافياً وفق الانتماء الديني/ الثقافي لسواد سكانها. وهي سبع حضارات: الحضارة الغربية (الولاياتالمتحدة وغرب اوروبا)، والإسلامية، والكونفوشية (صينية)، والهندوسية، واليابانية، واللاتينية (اميركا اللاتينية)، والأرثوذكسية (روسيا وشرق اوروبا). يقول هنتينغتون: «المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد القادم لن يكون الأيديولوجيا السياسية أو الاقتصاد. الانقسامات الكبرى بين البشر ومصادر الصراع الغالبة بينهم ستكون ثقافية. ستبقى الدول القومية الفاعل الأقوى في السياسة الدولية، لكن الصراعات الرئيسية ستحدث بين امم وجماعات تنتمي الى حضارات متمايزة. ان صدام الحضارات سيهيمن على السياسة العالمية. وحيث تتنافر الحضارات، سترتسم خطوط معارك المستقبل». يستشرف هنتينغتون مستقبل العلاقات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة وسقوط الامبراطورية السوفياتية المدوي الذي أطاح موازين القوى العالمية السائدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإذا كانت الصراعات الثنائية بين الدول تحكمها مصالح اقتصادية وجيوسياسية، فإن هذه الصراعات كانت خلال الحرب الباردة، أي سنوات 1945-1991، تندرج ضمن إطار الثنائية الأيديولوجية بين الشيوعية من جهة والديموقراطية الليبرالية من جهة أخرى. ولكن مع نهاية الحرب الباردة سيتحول الصراع من صراع ايديولوجي إلى صدام بين دول تنتمي الى الحضارات العالمية الكبرى «التي تتمايز بعضها عن بعض بالتاريخ، واللغة، والثقافة، والتراث، والأهم من ذلك بالديانة». التحدي الأكبر المجالان الحضاريان الإسلامي والكونفوشي يشكلان التحدي الأكبر للحضارة الغربية المهيمنة، والتي بدأ نجمها بالأفول، وفق هنتينغتون، وان كانت ستبقى الأقوى لعقود قادمة. وهو يرى امكانية تعاون وثيق واستقطاب بين الغرب والحضارتين اللاتينية (اميركا اللاتينية) والأرثوذكسية (روسيا وشرق اوروبا) في مواجهة المحور الآسيوي الإسلامي - الكونفوشي. اما «الإسلام، فلن يضعف، وسيصبح اكثر عنفاً...»، وذلك لتوافر ثلاثة عوامل تحكم مستقبل المجتمعات المسلمة : النمو الديموغرافي الهائل، والإسلام السياسي، وانتصار الديموقراطية. ان وتيرة النمو السكاني المرتفعة جداً في معظم الدول الإسلامية أدت الى تعاظم نسبة الشباب بين ال 15 و25 عاماً لتفوق 20 بالمائة من مجموع السكان، الأمر الذي ينذر بعدم الاستقرار. ويستطرد: «إن كثيراً من الدول العربية عرف تحولات اقتصادية واجتماعية اصبحت معها انظمة الحكم الاستبدادية غير ملائمة، وازداد التوجه نحو الديموقراطية قوة... فكانت الحركات الإسلامية اكبر المستفيدين من هذه التحولات. باختصار، في العالم العربي تؤدي الديموقراطية على النمط الغربي الى تقوية القوى المعادية للغرب». إذن، التحول نحو الديموقراطية عندنا لا يجب ان يكون مدعاة طمأنينة وارتياح لدى الغرب، وفق هنتينغتون، الذي تختصر عدائيته المسبقة المتأصلة للإسلام، احتمالات المستقبل المتنوعة الى فرضية واحدة : العداء والمواجهة. الدليل الذي يسوقه لتبرير نبوءته حول الصدام الحتمي بين الإسلاميين والغرب هو مقارنة سطحية شديدة العمومية بين الحضارات من حيث طبيعة التفاعلات في ما بينها، اذ يتسم التفاعل بين اميركا واوروبا (الحضارة الغربية) من جهة والصين واليابان من جهة اخرى، بالطابع السلمي متمثلاً بالتنافس الاقتصادي والتبادل التكنولوجي. بالمقابل، تعرف حدود المجتمعات المسلمة مع الدول غيرالمسلمة في شرق اوروبا وآسيا، نزيفاً وتطهيراً عرقياً مستمراً: «يستشري العنف في آسيا الكبرى، وخاصة على تخوم هلال الأمم الإسلامية الممتد من غرب افريقيا الى آسيا الوسطى. كذلك يغلب العنف على علاقة المسلمين بالصرب الأرثوذكس في البلقان، وعلاقتهم باليهود في اسرائيل، وبالهندوس في الهند، وبالبوذيين في بورما، وبالكاثوليك في الفيليبين. إن تخوم الإسلام دموية». هكذا يختزل هنتينغتون التاريخ المعقد الشديد التنوع لمجتمعات بكاملها، الى جملة عامة من ثلاثة سطور تدغم العنف بالهلال، خالصاً الى ان الإسلام حضارة دموية. وبعد، أليس هذا الاختصار لمستقبل العلاقة بين الإسلام السياسي والدول الغربية تحت عنوان البحث العلمي، فخّاً منصوباً لغايات خبيثة! ثم يضع هنتينغتون توصياته في السياسة العامة الواجب على الدول الغربية اتباعها في القرن الواحد والعشرين إزاء الحضارات الاخرى: «يتوجب على الغرب الأمور التالية: زيادة التعاون والوحدة داخله، خاصة بين جناحيه الأوروبي والأميركي الشمالي؛ استقطاب مجتمعات شرق اوروبا واميركا اللاتينية القريبة ثقافياً من الغرب؛ تطوير وترسيخ التعاون مع روسيا واليابان؛ الحد من نمو القوة العسكرية للدول الكونفوشية والإسلامية؛ التمهل في تخفيض القدرات الحربية الغربية والحفاظ على التفوق العسكري في شرق وجنوب - غرب آسيا؛ العمل على استغلال الخلافات والصراعات بين الدول الكونفوشية والإسلامية؛ توفير المساندة للجماعات المتعاطفة مع القيم والمصالح الغربية داخل الحضارات الأخرى؛ تقوية المؤسسات الدولية التي تدافع عن المصالح والقيم الغربية وتضفي عليها صفة الشرعية، وتشجيع الدول غير الغربية على الانخراط في تلك المؤسسات.» الإشكالية السلطوية تصدى عدد من الباحثين الغربيين والعرب لنقد وتبيان عدم دقة، وأحياناً خطأ بعض المسلَّمات والتفاصيل في رؤية الصراعات المستقبلية ضمن المجال الحضاري/ الديني، وهذا ديدن الأكاديميا الباحثة أبداً عن الحقيقة ومقدار التطابق بين النظرية والواقع. لكن المحتوى العلمي لمقالة هنتينغتون لم يكن ليسخّر يوماً لصالح الرغبة العلمية في توخي الحقيقة، فالقصد من وراء مقولة صراع الثقافات والأديان وتبنيها من قبل بعض الساسة الأميركيين، ليس أكاديمياً أو معرفياً، بل هو هدف سلطوي معنوي يسعى الى توظيف فائض القوة المادية والعسكرية التي بحوزتهم لتحقيق مزيد من الهيمنة والسلطان في داخل مجتمعاتهم وخارجها. وقد فند الدكتور رضوان السيد الإشكالية السلطوية لهذه المقولات وكشف ادعاءاتها المعرفية، مُظهِراً ارتباطَها الوثيق بسياسات الغلبة والهيمنة الغربية على المجتمعات الإسلامية من جهة، وبردود فعل اصحاب الهوية العربية -الإسلامية المجروحة من جهة اخرى، وذلك في كتابه «الصراع على الإسلام» الصادر سنة 2004، (فصل من الإسلام الى الأنثروبولوجيا). وبعد عرضه لأسبابه التاريخية ومنطلقاته الفكرية، خلص السيد الى توقع احتدام وعي الهوية عندنا: «إن الطريف والموحي ان تكون ردود الفعل لدى القوميين والإسلاميين على أطروحة هنتينغتون على هذا القدر من السخط والأنكار... لكن ثقافة الهوية لا تزال على قدر كبير من التوهج. والدليل على ذلك اصرار مثقفينا القوميين والإسلاميين على اننا نواجه غزواً ثقافياً، وإصرارهم على ان تجديد ثقافتنا لا يكون الا من داخلها». اما إدوارد سعيد، استاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا وصاحب مؤلف «الاستشراق» المعروف، فرأى ان «اصرار هنتينغتون الشديد على حتمية الصدام بين الحضارات الاخرى والغرب، وعدوانيته وعنصريته الباديتين في توصياته للدول الغربية بما يحفظ لها غلبتها عالمياً» ، يحملنا على الاعتقاد بأن غايته الفعلية هي استمرار وتوسيع نطاق الحرب الباردة بوسائل اخرى» ( من مقال لسعيد بعنوان «صدام التحديدات» صدر عام 2000). ان هاجس الهوية المهددة ليس حكراً على القوى الإسلامية عندنا، بل ملازم ايضاً لنخبة سياسية وثقافية فاعلة في الولاياتالمتحدة عُرفت بالمحافظين الجدد وكانت شديدة التأثيرعلى سياسات بوش الابن في الحرب على الإرهاب وغزو افغانستان والعراق. وقد سطع نجم هنتينغتون في العقد السابق على هجمات ايلول كناطق بليغ يترجم هموم هذه النخبة وهواجسها الى مقولات وتوصيات سياسية ترتدي لباس الموضوعية والعقلانية. لكن المؤسس الفعلي لتيارالمحافظين الجدد كان ارفينغ كريستول، الذي استلهم عقيدته من الفيلسوف الألماني الأميركي ليو شتراوس (توفي عام 1973). وهى قائمة على مبدأ مفصلي: حاجة الأمم الى اعداء لتمكين هويتها القومية، وبالتالي فإن غياب العدو السوفياتي في التسعينات سينعكس سلباً على وحدة المجتمع الأميركي وتماسكه. وها هو هنتينغتون يصرح بمكنونات صدره في الفصل الأول من كتابه «صدام الحضارات» (1996) عبر كلمات شخصية روائية: «ليس ثمة اصدقاء حقيقيون من دون اعداء حقيقيين. لا بد ان نكره من يختلف عنا لكي نحب ما نحن عليه. تلك هي الحقيقة القديمة التي نعيد اكتشافها بعد قرن من اللغو العاطفي». نفس المبدأ حكم فلسفة شتراوس السياسية قبل اكثر من نصف قرن: «يؤمن شتراوس ان السياسة تنبثق من التفريق بين نحن وهم، فلا استقرار لأي كيان سياسي إلا بوجود تهديد خارجي يدفعه نحو الوحدة، واذا لم يكن هناك تهديد خارجي، عندها يجب انتاجه». صدرت مقالة هنتينغتون الشهيرة في صيف 1993، اتبعها بمقال ثان له في خريف 1993 تحت عنوان: «اذا لم تكن حضارات، فماذا اذن! هنتينغتون يرد على منتقديه». ونرى ان هذا المقال بالغ الأهمية، لأنه يفصح عن الهواجس الكامنة غير المعلنة وراء نظرته الصدامية لعلاقة الغرب بالعالم الإسلامي، اذ يتبدى من سطوره ان هنتينغتون مسكون بفصيلة اخرى من صراع الحضارات لم يأت على ذكرها في مقالته الأولى، وهي التناحر الثقافي/ الإثني داخل الولاياتالمتحدة، حيث يفرد باباً كاملاً لهذا الموضوع نورده مطولاً لأهميته: «تعرف الولاياتالمتحدة تنوعاً اثنياً وعرقياً بشكل مضطرد، ويشير مكتب الإحصاء السكاني الى التوزيع التالي للسكان بحلول عام 2050: 23 بالمائة ذوو اصول لاتينية، 16 بالمائة من السود، و10 بالمائة من العرق الآسيوي (الأصفر) (ما معناه 50 بالمائة من اصول اوروبية). في الماضي نجحت الولاياتالمتحدة في استيعاب ملايين المهاجرين من دول عديدة بسبب تكيفهم مع الثقافة الأوروبية السائدة وتبنيهم بحماس العقيدة القائمة على قيم الحرية، والمساواة، والفردية، والديموقراطية. فهل سيستمر هذا النجاح بحلول عام 2050 عندما يصبح 50 بالمائة من السكان إما لاتينيين او من غير البيض؟ هل سينخرط المهاجرون الجدد (اي اللاتينيون والآسيويون) في الثقافة الأوروبية المهيمنة في الولاياتالمتحدة؟ واذا لم يقووا على التكيف واصبحت الولاياتالمتحدة مجتمعاً متعدد الثقافات يعاني من صدام داخلي بين الحضارات، فهل ستستمر كديموقراطية ليبيرالية؟ واذا انقطع الأميركيون عن الالتزام بديموقراطيتهم الليبيرالية وبعقيدتهم السياسية الأوروبية المنشأ، فإن الولاياتالمتحدة التي نعرفها ستزول من الوجود وستلحق القوة العظمى الأخرى الى مزبلة التاريخ». قد تكون ولاية ثانية لإدارة اوباما فرصة مواتية لإسلاميينا لقطع الطريق على هؤلاء المتربصين، عبرالمصالح المتبادلة وبناء جسور التعاون والثقة مع النخب الغربية المعتدلة. في كل الأحوال، على القوى الإسلامية المقبلة على الحكم في العالم العربي ان تعي أنها لا تواجه خصماً عقلانياً في اليمين الأميركي المتعنت، سجين هوامات الهوية الخائفة، الذي لو وصل السلطة مجدداً فلن يتردد في السير بصناعة الاعداء، من مسلمين وغيرهم، وخوض حروب مدمرة، على غرار حرب العراق، مخلفة الحقد الكراهية بين الشعوب والحضارات. والجنون لا يواجه الا بالعقل، لا بمثله.