لم يكن فرنسيس فوكوياما الموظف في وزرة الخارجية الأميركية يتوقع أن يثير مقاله الذي نشره العام 1989 في مجلة "الصالح العام" الأميركية عن "نهاية التاريخ" كل ذلك الجدل الذي جعل إحدى دور النشر الكبرى تطلب إليه أن يكتب كتاباً كاملاً حول القضية التي عرضها في المقال. وظهر الكتاب العام 1992 في عنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". وعلى رغم مرور عقد كامل على ظهور المقال والكتاب فلا تزال القضايا الأساسية التي أثيرت فيهما موضع نقاش وخلاف. وفي الوقت الذي ترجم فيه الكتاب إلى أكثر من خمس عشرة لغة كان بعض الكتاب يتهمون فوكوياما بالتعصب للنظام الأميركي وأن نظرته للأمور تعسفية تؤمن بحتمية التاريخ وأن نظرية نهاية التاريخ هي أكثر النظريات التي ظهرت أخيراً سخفاً وغباء لأنها تزعم أن الديموقراطية الليبرالية هي "نقطة النهاية بالنسبة إلى التطور الايديولوجي لدى الجنس البشري" كما تفترض أن تاريخ الإنسان هو تاريخ مترابط ومتسق في عمومه ويسير في مسار معين من شأنه أن يؤدي بمعظم الإنسانية إلى الديموقراطية الليبرالية التي تسود الآن في أميركا ودول أوروبا الغربية، وأن الصراع بين الشعوب والبشر هو في أساسه صراع من أجل الحصول على اعتراف الآخرين وتقديرهم، وهذا عامل أساسي في ارتقاء الجنس البشري وتحقيق هذه الديموقراطية الليبرالية بحيث يمكن القول إن تاريخ الإنسانية ليس في آخر الأمر إلا تاريخ الصراع من أجل الحصول على ذلك الاعتراف والتقدير. واستمد فوكوياما فكرة "الاعتراف" من الفيلسوف الألماني هيغل الذي كان استمدها من أفلاطون. ويذهب فوكوياما في دفاعه عن نفسه إلى أن معظم الذين ينتقدون النظرية لم يفهموا المقصود من عبارة "نهاية التاريخ" بل لعل بعضهم لم يقرأ الكتاب أصلاً وأنهم يخلطون بين منظورين مختلفين للتاريخ وهما المنظور المعياري الذي يهتم بما ينبغي أو ما يحتمل أن يكون - وهو المنظور الذي ينطلق منه فوكوياما - والمنظور التجريبي أو الامبيريقي الذي يرصد ما هو كائن وما يحدث فعلاً. ويستند المنظور المعياري للتاريخ على أية حال إلى معلومات واقعية أو امبيريقية تؤكد كلها أن الديموقراطية الليبرالية هي أفضل الاساليب لتنظيم المجتمعات الإنسانية، ولذا فإن من المتوقع أن تصبح هي النظام الأكثر استقراراً واستمراراً وشيوعاً في المستقبل خصوصاً أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً باقتصادات السوق وتقوم على التحديث الاقتصادي الذي يؤدي إلى إقرار المساواة بين الناس. فنظرة فوكوياما إذن هي نظرة عامة وشاملة تحاول الإحاطة بتاريخ الإنسانية كوحدة كلية من دون أن تتحدد بفترة زمنية معينة أو بمجتمع محدد ولا تعطي أهمية كبرى للأحداث الجزئية وإن كانت تأخذ في الاعتبار في الوقت ذاته خبرات وتجارب كل الشعوب في كل زمان ومكان على أساس أن ثمة نوعاً من الترابط والاتساق الطبيعي في عملية تقدم الجنس البشري والإنسانية عموماً من أبسط أشكال الحياة والتنظيمات البدائية الى مجتمع الزراعة والانتقال من التنظيم القبلي إلى نظم الحكم الملكي والارستقراطي وصولاً إلى الديموقراطية الليبرالية والنظام الرأسمالي القائم على التقدم التكنولوجي كما هي الحال في المجتمعات الغربية المعاصرة وبوجه أخص المجتمع الأميركي. فالديموقراطية الليبرالية والرأسمالية هما إذاً خاتمة المطاف في عملية التطور التاريخي ويؤلفان معاً بذلك حضارة متمايزة قد تكون هي آخر حضارة يمكن أن يصل إليها الإنسان لأنها أكثر الحضارات نضوجاً ورقياً واستجابة لمتطلباته. فالديموقراطية الليبرالية أقرب في رأيه إلى الطبيعة البشرية من أي صورة أخرى من صور وأشكال الحكومات والتنظيمات السياسية والنظم الاجتماعية التي عرفها الجنس البشري خلال تاريخه الطويل. ويرجع انشغال فوكوياما بالتفكير في هذه المشكلة إلى ما قبل سقوط حائط برلين وهي فترة كانت الأحداث تتسارع أثناءها في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي. وفي مقابلة تلفزيونية مع بريان لامب يوم 17 كانون الثاني يناير 1992 ذكر فوكوياما إنه كان هناك نوع من الاتفاق العالمي أثناء تلك الفترة الحرجة على صدق مبادىء الديموقراطية الليبرالية وعلى أن العالم المعاصر يتجه نحوها بسرعة وثبات، ثم يستدرك قائلاً إن هذا لا يعني أبداً أن العالم سيخلو من الأحداث المأساوية أو أن الفقر والحروب والصراعات ستختفي تماماً مع انتشار الديموقراطية الليبرالية في كل أنحاء العالم، ولكنها ستعتبر مجرد أمور جزئية لا يتعارض وجودها مع مسيرة التاريخ العالمي أو تاريخ الإنسانية، فالديموقراطية الليبرالية كفيلة في نهاية الأمر بإقرار السلام والعدالة بين الشعوب وتوفير الحرية والاستقرار للإنسان، فمعظم الأحداث المأساوية الكبرى التي عانت منها المجتمعات الانسانية ارتبطت غالباً بنظم الحكم الأخرى مثل الحكومات الملكية والنظم الديكتاتورية والفاشية التي لم تلبث أن اندثرت كلها لتعارضها مع الطبيعة البشرية. ظلت الشيوعية تمثل لسنوات كثيرة المنافس الرئيسي والنموذج المقابل للحضارة الغربية المعاصرة التي تقوم على مبادىء الديموقراطية الليبرالية، ولكنها انهارت مثلما انهارت النظم الأخرى واحداً بعد الآخر خلال القرن العشرين. كذلك فإن الدول التي لم تصل بعد إلى مرحلة الديموقراطية الليبرالية تتجه الآن نحوها بالضرورة لأنها هي النظام الوحيد الذي أثبت قدرته على الصمود لدرجة أن شعوب الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية لم تكن تؤمن بصلاحية أشكال الحكومات القائمة وكانت تتوق دائماً إلى التحول إلى الديموقراطية الليبرالية التي تضمن توفير الحقوق الأساسية للأفراد مثل حرية التعبير وحرية العبادة وحرية العلاقات السياسية، والأهم من ذلك حق المشاركة الفعلية في النظام السياسي وليس فقط التصويت في الانتخابات الشكلية التي قد توجد من دون أن يتمتع الأفراد بحقوق دستورية كاملة. فدول العالم الثالث مثل مجتمعات الشرق الأوسط والدول الافريقية وكثير من دول شرق آسيا وأميركا اللاتينية تعرف وتمارس نظام الانتخابات بشكل أو بآخر ولكنها لا تزال بعيدة تماماً من الديموقراطية الليبرالية لعدم مشاركة الشعب في العملية السياسية وبخاصة عدم مشاركة النساء، كما أنها تفتقر إلى حرية التعبير وحرية العبادة والدين وتخضع لسيطرة الجماعات الدينية المتطرفة التي تفرض كثيراً من القيود على الحريات الشخصية وتقف موقف العداء من الأديان الأخرى. وهذا كله لا يمنع من أن الاتجاه العام في العالم الآن هو نحو الديموقراطية الليبرالية. ويبدو حجم التغير والتحول واضحاً إذا نحن تذكرنا أنه منذ حوالى قرنين فقط وفي عام 1790 أي في أواخر القرن الثامن عشر لم تكن هناك كما يقول فوكوياما سوى ثلاث دول ديموقراطية هي فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة، أي أن بريطانيا ذاتها لم تكن تعتبر في نظره من الدول الديموقراطية الليبرالية بهذا المعنى المحدود. ومع ذلك فإن بعض دول الغرب التي اعتنقت النظام الديموقراطي الليبرالي كانت تخضع في بعض فترات تاريخها للحكم الفاشي كما حدث في أوروبا في الثلاثينات من القرن العشرين، بل وكما حدث أيضاً في الستينات والسبعينات في أميركا اللاتينية. وثمة علاقة قوية بين الديموقراطية والليبرالية وبين النجاح والتقدم والرخاء الاقتصادي وارتفاع مستويات التنمية على ما هو واضح في أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة، ولكن هذا لا يعني أن الشعوب اللاغربية تطالب بتطبيق مبادىء الديموقراطية الليبرالية لتحقيق التقدم الاقتصادي فحسب ولكن أيضاً لأن هذه المبادىء تضمن لها أقصى درجة من الحرية السياسية كما تحقق لها مبدأ الاعتراف والتقدير، أي اعترافها هي ذاتها بذاتيتها وإحساسها بأنها بلغت درجة معينة من النضج السياسي والاجتماعي يؤهلها لشغل مكانة محترمة على الصعيد العالمي من ناحية واعتراف الشعوب الأخرى لها بذلك. والصراع من أجل الحصول على الاعتراف هو - في رأي فوكوياما - القوة الدافعة وراء عملية التاريخ الإنساني. فالحصول على اعتراف الآخرين مطلب إنساني أساسي لدى جميع البشر لأن في ذلك تأكيداً على مكانتهم في نظر الآخرين واعترافاً بوجودهم وبكرامتهم وحريتهم بحيث يمكن القول إن التاريخ بدأ بالصراع من أجل الحصول على ذلك الاعتراف. ونتيجة هذا الصراع هي التي تصنف الشعوب إلى مجتمعات ودول سائدة وأخرى مسودة وخاضعة وتابعة. بل إنه يمكن القول أيضاً أن هذه الظواهر الكبرى مثل النزعات الوطنية والقومية والعرقية وظهور الأديان والايديولوجيات وقيام الحروب والحركات الإرهابية ليست في آخر الأمر إلا مظاهر لمحاولات الحصول على ذلك الاعتراف وتوكيد الذات ما دام البشر جميعاً يرغبون في اعتراف الآخرين بأهميتهم ومكانتهم وحقهم في التمتع بمختلف أشكال الحرية. والاعتراف بهذا المعنى هو الذي يجعل المرء يشعر بآدميته. وتحقيق ذلك كفيل بأن يؤدي إلى نهاية الصراع ونهاية الثورات الدموية وبالتالي نهاية التاريخ بالمعنى الذي يقصده فوكوياما، واتجاه الشعوب بالتالي إلى ممارسة أنواع النشاط الاقتصادي الذي يقضي في آخر الأمر على الظلم الذي يؤدي إلى الصراع. فالظلم هو سبب فساد كل الجوانب الراقية في الإنسان وحياة البشر. ولكن ثمة مفارقة هنا تتمثل في ضرورة وجود الظلم حتى يعمل الإنسان على القضاء عليه وإقرار الاعتراف والعمل على الارتقاء إلى مستويات أعلى من الحضارة، ومن هنا كان القضاء على الظلم وإقرار العدالة بين جميع الشعوب وترسيخ الحياة الصالحة التي يتمتع فيها الناس بحرياتهم وبالمشاركة السياسية الكاملة هي نهاية التاريخ. والبحث عن الديموقراطية الليبرالية هو الذي يساعد على بلوغ هذه النهاية وهو ما تسير نحوه الحضارة الإنسانية فعلاً. فلن تكون هناك غابة أخرى أو نظام سياسي آخر أعلى وأسمى وأرقى من الديموقراطية الليبرالية التي تسود في العالم الغربي والتي يبدو أن بقية شعوب العالم في طريقها إليها. والمهم هو أن فوكوياما يذهب إلى أن الديموقراطية الليبرالية التي تسود المجتمع الأميركي ودول الغرب هي النموذج المثالي، بل والنهائي الذي تهدف إليه الإنسانية وستصل إليه في آخر المطاف، وإن كان يبدو أن التطورات السياسية الأخيرة التي طرأت على الساحة العالمية بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، ستقلب كل الحسابات رأساً على عقب كما أنها تثير الشكوك حول ذلك الافتراض الذي يأخذه فوكوياما على أنه قضية محسومة وأمر مسلم به ولا يحتمل النقاش وهو ما يرفضه الكثيرون. وبدأت أميركا ذاتها التي هي معقل الحريات الإنسانية والموطن المثالي للديموقراطية الليبرالية تتنكر بعد أحداث أيلول للمبادىء التي ظلت تنادي بها منذ الثورة الأميركية. وليست الإجراءات الاستثنائية العنيفة التي لجأت إليها أميركا أخيراً ضد بعض مواطنيها من الشرق الأوسط، إلا خروجاً على مبادىء الديموقراطية الليبرالية باسم المحافظة عليها. وكثير من تلك الإجراءات مثل الاعتقال لمجرد وجود شبهات لم يتم التأكد من صحتها وزج المشتبه فيهم في السجون من دون محاكمة لفترات غير محدودة وتقديمهم للمحاكمة السرية أمام المحاكم العسكرية من دون أن يكون لهم حق الدفاع القانوني والالتجاء إلى التعذيب البدني للحصول على المعلومات وما إلى ذلك هي من أهم ملامح نظم الحكم الشمولية والفاشية التي يُفترض أن الديموقراطية الليبرالية قامت للقضاء علىها. فالسياسة الجديدة التي تنتهجها أميركا الآن تحت وطأة وقسوة الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن تعتبر نكسة للديموقراطية الليبرالية، وقد تكون بداية لظهور أيديولوجية سياسية جديدة مختلفة تأخذ التغيرات الأخيرة في الاعتبار وتكون بداية جديدة للتاريخ. * أنثروبولوجي مصري.