Kaplan D. Robert. Worrior Politics: Why Does Leadership Demands Pagan Politics? سياسة المحارب: لماذا تتطلب القيادة أخلاقاً وثنية؟. Random House, New York. 2002. 158 pages. يتحدث فريد هاليداي في كتابه الصادر حديثاً بالعربية، "الكونية الجذرية لا العولمة المترددة"، عن اربع وجهات نظر تحكم الرؤية الى السياسة الدولية. واحدة منها فقط تعنينا في هذا السياق، وتلك هي التي يسمّيها ب"العصور الوسطى الجديدة". ولئن كانت التسمية وحدها كفيلة بأن تبعث الرعشة في نفس القارىء، فإن ما تنص عليه، هذه الوجهة، يضمن دوام الخوف حتى بعد الفراغ من الإطلاع عليها. فبحسب أصحاب هذه الرؤية فإن العالم، وخلافاً لبشائر المتفائلين، لن يعرف السلام، وإنما سيشهد المزيد من الحروب الضروس، بعضها صراعات أهلية مديدة والبعض الآخر حروب إقليمية ناتجة عن صراعات مصالح تقليدية، او إنفجار أحقاد دفينة، او نتيجة الولاء لثقافات وأديان مختلفة. والى هذه المدرسة ينتمي الصحافي والمعلق السياسي الاميركي روبرت كابلان مؤلف "سياسة المحارب". وما يقوله كابلان في هذا الكتاب او غيره من كتبه السابقة لا يعدم الرصيد او المصداقية. فلقد ارتحل الرجل بعيداً وتكراراً الى المناطق الساخنة في العالم، فشهد بأم العين معارك دموية ونزاعات، وخبر طبيعة الحياة في ظل قوى الأمر الواقع. ولا شك بأن ما شهده في أفغانستان وفي الصومال وسيراليون وليبيريا والكونغو، فضلاً عن بلدان شرق آسيا وبلدان البلطيق، يدعو الى التشاؤم واليأس من أية محاولة تدخل عسكري إنساني لوضع حد لحالات النزاع السائدة والعمل على إنشاء مجتمع سلمي يُناط امر قياده الى حكم ديموقراطي الشرعية. ولا جدال في ان ثمة العديد من العوائق التي تجعل غاية التدخل الإنساني محض طوبى ليبرالية لمثقفين وأساتذة جامعيين لم يذقوا مرارة الواقع. والمشكلة ان رؤية كابلان من التشاؤم المطبق ما قد يجعلها تتعارض أحياناً مع حصيلة إرتحاله نفسها. فحتى حينما لا تبدو "الطوبى الليبرالية" لتدخل إنساني يجلب السلام والديموقراطية، ضرباً من الخيال الخالص، فإن الكاتب يحجم عن الإقرار بالأمر. والأدهى من ذلك انه حينما تخفق خبرة إرتحاله في تزويده ببراهين تُصادق على تصوّره التشاؤمي النزعة لواقع العالم السياسي، تجده يلجأ الى أصحاب الفكر السياسي، القدماء منهم او المحدثين، مقتطعاً من نصوصهم ما يروقه ويخدم مأربه. فيظهر هوبز او ميكيافيللي في سياق الكلام ليؤكد بأن لا بديل لحالة النزاع الدائم من دون انتصار سياسة الغلبة والتسلط في المناطق المعنية. او قد يظهر توكفيل ليؤكد بأن لا قائمة للديموقراطية ولا مستقبل، طالما انعدمت الشروط التاريخية، المجتمعية والثقافية، التي شهدتها البلدان الراسخة النظام الديموقراطي. بل انه في كتابه الجديد يكاد يستغني تماماً عن ثمار خبراته الميدانية معتمداً كليّة على بعض ما يقوله هؤلاء الفلاسفة او غيرهم. وبالضرورة فإن اللائحة تطول وتضمّ ثوسيديدس وإدموند بيرك وجون ستوارت ميل وإشعيا برلين وريمون آرون إلخ. وغالباً، وكما هو متوقع، من خلال قراءة مبتذلة مجتزأة لنصوص كلاسيكية. هذه القراءة بالتحديد تشي بأن النظرة "الواقعية" التشاؤمية الطابع التي يقول بها كابلان، لا تعود الى مشاهدته صراعات أثنية وطائفية دموية، ولا الى تشديده على الرؤية التراجيدية للتاريخ بحسب ما ظهرت عليه في أعمال بعض روّاد الفكر السياسي، وإنما وازعها الإنحياز الى مدرسة معينة في السياسة الخارجية الاميركية تُعرف أحياناً ب"الواقعية المحافظة". وهي التي نادى بها، بل اشتغل بموجبها سياسيون وأكاديميون شأن كيسينجر وكينان وبريجنسكي وهانتنغتون وغيرهم. وبحسب أتباع هذه المدرسة، فإنك لا يمكن ان تكون ديموقراطياً وحريصاً على حقوق الإنسان في سياق السياسة الدولية، وإنما الأحرى ان تكون واقعياً ومتنبهاً الى القوى التي يتوجب عليك مجابهتها او التعامل معها بما يخدم المصالح القومية. وخلافاً لظن الليبراليين، لا جدوى، على ما يزعمون، من سياسة خارجية تسعى الى إحلال الديموقراطية والعدل، او "بناء الأمم"، بحسب العبارة التي يستخدمون، في أرجاء العالم المضطرب. فالتدخل العسكري ضروري، ولكن ليس بغرض "بناء الأمم"، أي ليس إنسانياً مثاليّ النزعة والهدف، وإنما إستجابة لضرورة بدائية ومصلحة ذاتية. ولا ضير، بالتالي، من مساندة نظام ديكتاتوري، او أوتوقراطي، او اياً كانت طبيعته، ما وسع هذا النظام ضبط الأمن بما يتوافق مع المصلحة الذاتية الاميركية، غنيّ عن الإضافة. بل لا ضير من التخلي عن نظام ديموقراطي علماني إذا ما كان متعثراً ومضطرباً، او حتى محاربته إذا ما أخفق في إحلال النظام وحماية المصالح الاميركية. ويمضي كابلان شوطاً أبعد في التبشير بمثل هذه السياسة، خاصة في عصر ما بعد الحرب الباردة، وعشية شيوع الظن بأن الغلبة كانت لقيم السياسة الليبرالية واقتصاد السوق الحرة. فيجادل بأن العالم أبعد ما يكون عن استتباب الأمن وسيادة الليبرالية. لقد انتصر الغرب والغرب في عُرف كابلان هو، في جل الأحوال، الولاياتالمتحدة على عدو واحد فقط، الإتحاد السوفياتي، وليس على كل أعداء "الامبراطورية". وكابلان يسلّم بأن الولاياتالمتحدة إمبراطورية، وإن إمبراطورية حديثة. فهي ورثت الامبراطوريتين، البريطانية والفرنسية، عشية الحرب العالمية الثانية، وها هي بعد انهيار الإتحاد السوفياتي ونُظم الكتلة الإشتراكية، تُمسي الامبراطورية الوحيدة في العالم، تماماً كما كانت الامبراطورية الرومانية. وكما ان الامبرطورية الرومانية لم تنهك نفسها بمهمة "بناء الأمم"، فعلى الامبراطورية الاميركية، وخلافاً لطموحات سياسيين أميركيين من ويلسون الى كلينتون، إحلال الديموقراطية والعدل في العالم، وإنما النظام والإستقرار بكافة السبل المتوافرة. ومن هنا تأتي الدعوة الى إلتماس فضيلة المحارب القديم والأخلاق الوثنية التي اتبعتها الامبراطورية الرومانية، وهي التي مجّد ميكيافيللي أسسها ضد تعاليم الكنيسة والمسيحية عموماً. فالطبيعة الانسانية، بحسب كابلان، او بحسب قراءته العرجاء للنصوص الكلاسيكية، انما هي طبيعة أزلية الجوهر، محكومة بالضرورة البدائية والمصلحة الذاتية، وبما يفضي الى حالة اقتتال ونزاع دائمة. لهذا فلا مناص للسياسي الامبراطوري الساعي الى نشر الأمن والمحافظة على الإستقرار، من أن يُظهر إستعداداً دائماً لأن يكون قاسياً عديم الرحمة. ولكن ماذا عن معطيات الحداثة؟ ماذا عن العلمانية والتقنية والحياة السياسية القائمة على التداول والنقاش؟ "كلما إزددنا حداثة وتقنية"، يقول كابلان، "صارت حياتنا بمثابة روتين ميكانيكي ضد الغريزة، وجنحت القوى الأعمق غريزيّة فينا الى التمرد. وفي الاماكن التي أخفقت في مجاراة التطور التقني، من المحتمل ان ينقلب الشبّان الى محاربين قدماء، يغتصبون وينهبون ويرتدون الشارة القبلية عوضاً عن الزيّ الرسمي- كما رأينا في البلقان وافريقيا المجاورة للصحراء وأماكن أخرى. ولسوف نتعلم في القرن الجديد بأن ليس هناك حداثة او ما بعد حداثة. هناك فقط إستمرار للقديم- عالم مهما كان تقنياً وموحّداً بواسطة مؤسسات العولمة، ما كان لفلاسفة الإغريق والرومان ان يخفقوا في فهمه والتعامل معه". قلنا في البداية أن فريد هاليداي ينسب روبرت كابلان الى مدرسة "العصور الوسطى الجديدة"، وربما كان من الأدق نسبه الى "الوثنية الجديدة" او "العودة الى شريعة الغاب". لكن هاليداي، وشأن اي ليبرالي متفائل بإمكانية تفاهم وتعاون دوليين، لا يريد ان يعير مثل هذه المدرسة أهتماماً أكبر مما تستحق- او لعله لا يشاء ان يقرّ بما لها من صدى ودور. فيتجاهل ما يُشاع من أن الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون أحجم عن التدخل في البوسنة بعدما قرأ كتاب كابلان "قاتل الأشباح"، او يُغفل حقيقة عن ان السياسة الخارجية الاميركية في ظل الحرب الباردة سارت بموجب "الواقعية المحافظة" وانها في عصر "الحرب على الإرهاب" قد تسير تبعاً لتعاليم "سياسة المحارب الوثني".