Fred Halliday. The World at 2000. العالم عند 2000. Palgrave, London. 2001. 170 pages. من أهم ما يميز عالم اليوم بشكل عام، كما يرى فريد هاليداي أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للإقتصاد والعلوم السياسية، في كتابه الصادر حديثاً أنه: مع هزيمة الإشتراكية وسقوط الاتحاد السوفياتي غاب السبب الذي يمكن أن تعتذر به الرأسمالية عن عدم تحقيق ما إعتادت أن تبشر به الناس. اي عن عدم إيصال الإنسان الى الرفاهية والسعادة، على المستوى الفردي، وتحقيق الازدهار والسلام على المستوى الإنساني. فالرأسمالية أصبحت الآن وللمرة الأولى في التاريخ عارية تحت الضوء والإختبار الحقيقي، وبلا ذريعة تستخدمها للتملص من وعودها. وهذا الإنكشاف الذي تتعرض له الأطروحة الرأسمالية مرتبط عضوياً بما جلبه إنقضاء الحرب الباردة من نهاية للإيديولوجيات والنظريات الكبرى المتناقضة التي يعود جذرها التنافسي الى قرنين ماضيين، وعلى الاخص التنافس بين الليبرالية والاشتراكية، الإصلاح والثورة، التخطيط والسوق. ويعتقد هاليداي أنه فضلاً عن خفوت جذوة التنافس والإستقطاب الثنائي بين كبريات النظريات فإننا نشهد إندحاراً مزدوجاً لأيدولوجيتي التخطيط المركزي- الدولتي للإقتصاد، والنيوليبرالية المتطرفة ذات الايمان الاعمى بقوى السوق. والبديل الذي نشهد بزوغه هو نوع من التسوية بين هاتين الإيديولجيتين يسميه هاليداي "السوق الاشتراكي"، حيث التركيز على إعادة هيكلة الدولة لناحية نزع بعض وسائل التوجيه التقليدية التي إعتادت إحتكارها ومنحها وظائف جديدة لم تكن داخلة في تعريفها. ويندرج في هذا أيضاً التركيز على تطوير ثقافة مجتمع مدني واسعة مهتمة مركزياً بقضايا ملحة مثل التعليم والعائلة والجريمة. والتركيز كذلك على محاربة البطالة والوصول إلى نسبة بطالة صفر، ثم إعادة بناء نظام الرعاية الاجتماعية والانخراط النشط في القضايا العالمية المشتركة. ومن الواضح هنا أن البديل "الوسط"، أو "السوق الإشتراكي" الذي يدعو إليه هاليداي لا يكاد يختلف بشيء عن بديل "الطريق الثالث" الذي دعا إليه أنتوني غيدنز منذ سنتين، وشاع في أوساط الديموقراطيين الاشتراكيين في أوروبا والولاياتالمتحدة، وتبنّته على تفاوت حكومات توني بلير البريطانية العمالية، وغيرهارد شرودر الإلمانية الاشتراكية الديموقراطية، وبيل كلينتون الاميركية الديموقراطية. لكن الأمر المحيّر هو أن هاليداي لا يستخدم تلك التسمية ولا يشير إلى غيدنز أو كتاباته التي نظّر فيها للبديل الذي يطرحه وخاصة كتابه المهم "الطريق الثالث" بوليتي برس، كامبردج، 1999. لكن الأمر الأهم هنا هو أن "الطريق الوسط" يبدو المكان الأكثر دفئاً والجاذب لمزيد من السياسيين والمنظّرين على حد سواء لكونه يتسم بالحرص على القطع مع الراديكاليات جميعها: إشتراكية يسارية ذات تخطيط مركزي، أم ليبرالية جامحة تقدس السوق المنفلت من أي قيد. وإذا تأملنا الآن في حقيقة أن دعاة هذا الطريق الوسط يتوزعون طيفاً طرفه الأول يساريون سابقون نبذوا أفكار التخطيط المركزي المتطرفة هاليداي نفسه مثلاً، وطرفه الثاني ليبراليون سوقيون نبذوا فكرة إطلاق يد السوق بلا حدود جورج سوروس مثلاً، فإننا نقع على الشعبية الفكرية التي بات هذا الخيار يتمتع بها. أما على صعيد السياسات الحكومية, ورغم التعزيز الملحوظ الذي ظفر به هذا الخيار في السنوات الأخيرة بتبني العديد من الدول والأحزاب الأوروبية والأميركية "طريقاً وسطاً"، فإن جزءاً كبيراً من الوجهة هو ما تحدده الآن الإدراة الأميركية الجديدة ونهجها الإقتصادي، وما اذا كانت ستظل قريبة من سياسات إدارة كلينتون السابقة أم تنزع، كما هو متوقع ومعلن، نزعة محافظة حمائية تعيد خلط الأوراق من جديد وتبعثر التوازن الدقيق الذي يحاول دعاة الوسط الوصول إليه. يعتقد هاليداي أن المعضلات الكبرى التي يواجهها عالمنا اليوم ستعبر معنا إلى القرن القادم. لكنه يحاول أن يتعرض لهذه المعضلات برؤية مستقبلية، وهذا مع ضرورة الإشارة إلى أن عنوان هذا الكتاب لا يعني الإشارة إلى العالم سنة 2000 بل إلى العالم عند 2000، أي في الالفية الجديدة. وما يتصدى له هاليداي هنا ليس قضايا سياسية بحتة منفصلة عن جذورها النظرية، إن على مستوى الدولة-الامة او العالم. بل العكس يكاد يكون الصحيح إذ يناقش مجموعة طروحات نظرية في غاية الأهمية لجهة الاجتماع السياسي القومي أم العالمي، تتفرع عنها الإشكالات والقضايا السياسية الكبرى والأساسية في عالمي اليوم والغد. فهنا نطالع خلاصات النقاشات والقضايا الجدلية التي سيطرت على الساحة الفكرية في ميدان العلاقات الدولية، مثل جدة وعمق وإتساع التغير الذي يشهده العالم بعد إنقضاء الحرب الباردة، وموضوعة العولمة ومضامينها وأبعادها، والنزوع المتطرف نحو ليبرالية السوق وأفكار نهايات التاريخ، وعودة أنماط الحروب وانتشارها رغم غياب مخاطر الحروب العالمية الكبرى، والديموقراطية ومدى تجذّرها أم هشاشتها، وسيطرة هيمنة قطب دولي واحد ومعناها وآثارها، ثم جملة القضايا المتعلقة بالهويات المحلية والعلاقة بالآخر، وكذلك إنتشار الدعوة الاممية إلى الحاكمية الجيدة Good Governance وإنتهاء بالدعوة إلى ما يسيمه هاليادي""العالمية الجذرةي" أو Radical Universalism. لكن في قلب كل تلك القضايا والمشكلات يظل التحدي الاكبر المرتبط بمطلع القرن الواحد والعشرين هو المساواة بين الأغنياء والفقراء. ويناقش هاليداي هذا التحدي في سياق معالجته للعولمة التي يراها منطوية على عمليات تكرس اللامساواة بشكل صارم ومولّدة لعدم الإستقرار. فالجهد البشري الذي يجب أن يواجه إنفلات العولمة مطلوب أن يصب في انسنتها وحقنها بمفاعيل المساواة وتعديل طبيعتها اللامتوازنة. والنظرة إلى العولمة هنا ليست قاصرة على رؤيتها ظاهرة مسطحة أو مجرد عملية آحادية، مرتبطة مثلاً بالشركات العابرة للحدود، بل تتسع الرؤية لظاهرة مركبة ومتعددة الأوجه والعمليات. وهاليداي انما يعرّفها بأنها متضمنة ثلاثة أشياء أساسية: تخفيض الحواجز بين الدول والمجتمعات، زيادة هيمنة بعض الدول والمجتمعات، وزيادة حجم المبادلات بين المجتمعات سواء كان ذلك على شكل تجارة، أم رأس مال، أم عملة متبادلة، أم سياحة، أم عدد مهاجرين. على أن اللافت للإنتباه في تعريفه هو قصوره عن التركيز على ثورة الاتصالات والاعلام بشكل مباشر، رغم ما قد يفهم من الاشارات والتضمينات غير المباشرة إلى ذلك. فالاعلام الإتصالي المعولم، الفضائي والانترنتي، هو في الواقع الساق الثانية للإقتصاد المعولم إذ يتتوأمان معاً ويشكلان هيكل العولمة الراهنة ومحركها النشط. وبقليل من المجازفة يمكن القول إن نقمة هاليداي على الإعلام الراهن في عالم اليوم ربما دفعت به إلى التقليل نسبياً من أثر ومساهمة الإعلام والإتصالات في شكل وتشكيل العولمة. وهذه النقمة، التي وإن لم تظهر في هذا الكتاب لكنه عبر عنها في مناسبات أخرى، يعود سببها في رأيه إلى ما تقوم به الإمبراطوريات الإعلامية من تشويه: إما عن طريق التلاعب بالأولويات حيث يتم تصنيع و تضخيم أفكار وتوجهات فارغة ونخبوية، أو تجاهل وتسطيح لأفكار وتوجهات ومشكلات ضاغطة وذات انعكاس على أغلبية المجتعات. ويرتبط بالعولمة السياسية والتحولات الكبرى على عتبه الألفين السؤال المركب حول الحرب والديموقراطية. وفي الشق الأول منه، أي حول حروب ما بعد ال2000 يبقي هاليداي الباب مفتوحاً بحيث لا نعلم ما إن كانت المرحلة التي نعيشها الآن في ظل غياب حروب عالمية كبرى، بداية مرحلة "سلم عالمي" دائمة, أو مجرد "فسحة" أو "إستراحة" ما بين مرحلتين من الحروب. صحيح أن الديموقرطية تنتشر الآن ويتم ربطها، ولو بطريقة قسرية مبالغ فيها أحياناً، بنشر السلم في أرجاء المعمورة. وصحيح أن بلدان العالم تنزع نحو الدمقرطة شيئاً فشيئاً، حيث أن عدد البلدان التي صارت توصف بأنها ديموقراطية يزداد سنة بعد سنة: فمقابل 56 بلداً سنة 1990 عرف العالم 86 ديموقراطية سنة 2000. لكن إحتمال الإنقلاب إلى سيرة الحروب الكبرى لا يمكن نفيه بالمطلق. وليست الديموقراطية التي يتم الإحتماء بقدرتها على تحقيق السلم بقادرة على توفير ضمانة تامة وأكيدة ضد الارتداد إلى أنماط إستبدادية من ناحية، أو اشباع تطلعات الشعوب وتحقيق موازنات وتسويات بين مصالحها المتناقضة والحادة من ناحية ثانية. ولا يأخذ هاليداي بالمبالغة في موضوعة ما يسمى "الارهاب الدولي" كخطر مولّد لحروب عالمية. فمن جهة يلفت الإنتباه إلى أن هناك أنواعاً أخرى من الإرهاب الخفي أو المستتر الذي لا يقل خطراً عما تقوم به "المنظمات الارهابية". كما أن إرهاب هذه المنظمات ليس بالعمق الدولي أو الحساس الذي قد يجر دولا كبرى إلى الإنخراط في حروب كبرى، اي ليس كالإرهاب الذي قاد، مثلا، إلى الحرب العالمية الأولى سنة 1914 انطلاقا من سراييفو. بل إن ما هو أهم إنتشار أسلحة الدمار الشامل وعدم خضوع الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص لمعاهدات الحد من ذلك الانتشار وعدم توقيعها على معاهدة حظر التجارب النووية. وفي السياق العام لإحتمالات تفجر حروب في النصف الأول من القرن الحالي، يرشح هاليداي ثلاث مناطق لإندلاع حروب كبرى أو إقليمية فيها هي: الشرق الأقصى الصين، تايوان، اليابان، الكوريتان، وجنوب آسيا الهند وباكستان، والخليج إيران، العراق.... لكن أهم ما يخلص إليه في معالجاته لمعضلات العصرين الراهن والقادم هو دعوته لما يسميه "العالمية الجذرية"، وهي عنوان "النظام العالمي العادل" الذي يرى هاليداي أن أعمدته الثلاثة هي المساواة والديموقراطية والحقوق. ومن أجل الدفع نحو مثل هذا "النظام" لا بد من التخلص من وهمين كبيرين يعتقد أنهما يسودان ساحة الفكر السياسي والإجتماعي الدولي. أولهما القول إن "اليوتوبيا" ماتت بسبب إنتهاء عصر الأيديولوجيات الخلاصية والنظريات الواعدة للإنسان بمستقبل زاهر، وبغلبة الظن بأن مشكلات العالم الكبرى يجب أن تواجه بالتخطيط العقلاني والواقعي والإداري. والثاني هو وهم النسبية الذي يقول ان إختلاف ثقافات وإثنيات وأديان مجتمعات العالم، وتباين سياقات تطورها التاريخي، تحتم علينا قبول "حقيقة" إستحالة توحيد وتطبيق منظومات موحدة من القيم والسياسة وأنماط الإجتماع. فحول الوهم الأول يستدعي هاليداي مقولة المؤرخ الإنكليزي الشهير إدوارد كار، أحد كبار مؤسسي مبدأ الواقعية السياسية في القرن العشرين، من أن السياسي يجب أن يزاوج بين الواقعية واليوتوبيا. فاليوتوبيا هي الدافع نحو الأمام وهي بمثابة الحلم الجماعي للمجتمع، ونظيرة الحلم الإنساني على المستوى الفردي الذي يولد زخم الأمل بإمكانية التحسين والتطور. ولهذا فإن هاليداي يرى أن عنصر اليوتوبيا، العقلاني، يحب أن يظل مرافقاً لأشكال التسيس والاجتماع الدولي: ذاك أنه يشكل نوعاً من الضبط لتوحش الواقعية إن تُركت بلا رقابة مثالية. أما الوهم الثاني، اي النسبية، فهو يرى أن المستفيدين منه هم أولئك الذين لا يريدون للمؤثرات العالمية أن تزعزع إستبدادهم وإستئثارهم بالمقدرات والثروات في بلدانهم، وخاصة في العالم الثالث. وهو يرى أن كل الأنظمة الإنسانية، على إختلافها وتطرف بعضها وتناقضاتها العديدة، تنطوي على مجموعة من القيم والتصورات والممارسات الإنسانية التي يمكن أن تشكل أساساً مشتركاً يؤسس للعالمية الجذرية بأعمدتها الثلاثة.