ينشغل العالم اليوم بدخول اليورو - المشتق من اسم أوروبا - أسواق النقد العالمي، ولكن المسألة ليست مسألة عملة دولية جديدة على أهميتها، فخلف وصولها مسيرة استثنائية غير مسبوقة في التاريخ... حيث للمرة الأولى في تاريخ صعود الامبراطوريات والأمم وسقوطها، يأتي شاهد تاريخي جديد على أن قانون الصعود - السقوط ليس حتمياً، وان الإرادة البشرية الموجهة بالعقل المتحضر يمكن أن تصنع صيغة جديدة متطورة لامبراطوريات وقوميات صعدت ثم تراجعت إلى حد السقوط والغياب من التاريخ، لكنها استطاعت أن توجد هذه الصيغة المتطورة الأرقى والأشمل لتنقذها، مجتمعة، من ذلك المصير التاريخي المشؤوم الذي قضى على امبراطوريات وقوى قبلها لم تعرف كيف تتفادى قدرها التاريخي. سقطت الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية والامبراطورية العباسية والامبراطورية العثمانية والامبراطورية الصينية... الخ، والحق أنه ظهر في تلك الامبراطوريات، قبل مغيبها، مصلحون سابقوا التاريخ، وسابقوا لحظة النهاية من أجل الإنقاذ، إلا أن محاولاتهم المستميتة لم يكتب لها النجاح لأنهم في الأغلب حاولوا إعادة الأمور والأوضاع في امبراطورياتهم المترنحة إلى ما كانت عليه أيام القوة والازدهار ولم يفكروا في صيغ جديدة مختلفة قادرة على الحياة والاستمرار في زمان غير الزمان الأول ولأوضاع غير الأوضاع المنقضية بأمجادها الغاربة. فالعصور الذهبية لا تعود، ما يعود هو المعدن الإنساني في صياغة جديدة. ذلك القدر التاريخي بقانونه الصارم في الصعود - السقوط بدأ يفعل فعله في الامبراطوريات الأوروبية منذ مطلع العصور الحديثة... فتراجعت الامبراطوريات البرتغالية والاسبانية والهولندية، باستمرار فقدانها للمستعمرات وبالتآكل البيروقراطي في بنيانها الداخلي، حيث الفساد الحكومي والمؤسسي وخراب ضمائر المسؤولين من لصوص المال العام هو السرطان المدمر لكل الدول والأنظمة، كبيرها وصغيرها، في كل زمان ومكان. ثم بدأت تتراجع الامبراطوريات الأقوى والأكبر: تراجعت الامبراطورية الفرنسية بهزيمتها المدوية في ديان بيان دو في فيتنام، ثم بهزيمتها الأخطر في الجزائر أمام ثورة المليون شهيد مدعومة بالمد التحرري العربي من المحيط إلى الخليج. هذا بينما كانت الامبراطورية البريطانية، ذات السياسات الأكثر مكراً وخبثاً، والتي تباهت بأن الشمس لا تغيب عن ممتلكاتها بين كندا غرباً إلى الهند شرقاً، تتعرض للداء التاريخي الوبيل ذاته على يد رجل أعزل من السلاح في الهند اسمه المهاتما غاندي، وعلى يد رجل شريف آخر مؤمن بشعبه وأمته قادم من صعيد مصر، اسمه جمال عبدالناصر. فكانت معركة السويس 1956، على رغم تمكن قوى العدوان الثلاثي من احتلال مواقع موقتة لها على التراب المصري، بمثابة الحافز الحيوي الذي حرّك المنطقة العربية ضد الهيمنة الاستعمارية من مراكش إلى البحرين. أما على الساحة الأوروبية ذاتها، فإن المشروع الامبراطوري الألماني، البسماركي ثم الهتلري، كاد يؤدي بأوروبا كلها إلى الدمار والانتحار بالحربين العالميتين في القرن العشرين المنصرم، حيث أدى صراع القوميات والامبراطوريات الأوروبية في ما بينها إلى تفتيت القارة وتخريبها وانهاكها... لكنها القارة ذاتها التي تنهض اليوم أمام العالم والتاريخ باعتبارها "أوروبا الموحدة" التي تعلمت الدرس جيداً، وعادت إلى استخدام سلاحها الأمضى الذي قدمته للحضارة الحديثة وللعالم الحديث كله، وهو سلاح العقل، سلاح المنهج العقلي في التعامل مع كافة الظواهر في الواقع البشري بما في ذلك الظاهرة السياسية وذروتها الليبرالية الديموقراطية التي لا يمكن أن تبلغ كمالها إلا لدى شعوب استوعبت دروس العقل، وأحسنت استخدام النهج العقلاني في التعامل مع مشكلاتها السياسية. قامت النهضة الأوروبية أساساً على هذا النهج العقلاني التقدمي، وشاعت النزعة المتفائلة لديها بأن السعادة الإنسانية ممكنة بالاعتماد على العقل. شاع لديها ذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر، ثم اعترتها موجة تشاؤم ومؤشرات تراجع تقول إن ثمة قوى غريزية وبدائية في الطبيعة البشرية تحد من فعل العقل وقد تعطله. وكان سبب هذه المراجعة الذاتية لدى الأوروبيين، ان العقل فرض ذاته على ما يخصه وما لا يخصه، فتجرأ على عالم الروح العليا، وعالم النفس الدنيا وطمح إلى عقلنة مثل هذه العوالم ولم يكتف بمجاله المشروع في الطبيعة والمجتمع العلوم الطبيعية والاجتماعية والتاريخية ومن بينها العلوم السياسية واختباراتها وتطبيقاتها. وأدت الحربان الكبريان بين الأمم الأوروبية "الراقية" و"المتعقلنة" إلى تعميق الشعور بقصور العقل أمام الغرائز البهيمية وما جلبته من خراب وبؤس إلى المجتمعات الأوروبية، وظهرت الفلسفات العدمية والوجودية تعبيراً عن هذا المناخ النفسي والذهني، ولكن لم ينته دور العقل على رغم ادعاءات مدارس ما بعد الحداثة. فأوروبا لم تتخل عن العقل ولم تهجره ولم تضعه بين القضبان في أقفاص النصوص والظنون والتخيلات والتورمات الذاتية والنزعات الاستبدادية بأدواتها القمعية. قررت أوروبا أن تواجه قدرها بالعقل من جديد، ولكن في حدوده الواقعية الممكنة. ومن خلال نظمها التعددية الليبرالية الديموقراطية التي تتعايش فيها مختلف الخيارات وتستعد البدائل الفكرية والسياسية لاستئناف أدوارها بديلاً بعد آخر بين محافظين ووسط ويساريين فلا تسقط الأمة، ولا يسقط النظام الديموقراطي، بسقوط أحد بدائله بعد أداء دوره، وتغيّر الظروف، بل ينفسح المجال أمام البديل السلمي الآخر لتسلّم المسؤولية وحمل الدور في عهد جديد ودورة أخرى إلى أن يحين موعد التغيير مرة أخرى بإرادة الأغلبية في انتخابات حرة في ظل النظام والقانون، وفي حدود الضوابط والثوابت الدستورية، ولكن بحيوية متجددة للفريق الحكومي الذي لا يسمح له بالبقاء على أنفاس الناس لزمن طويل، وإلا فإن أي نظام يقضي على بدائله يقضي على نفسه في النهاية. في ظل هذا النهج العقلاني فكرياً وحياتياً، وفي ظل هذا النظام الليبرالي المنفتح لبدائله السياسية المتعايشة، رأت القوميات والشعوب المتصارعة في أوروبا، بعد انهيار امبراطورياتها الاستعمارية، واستناد كياناتها القومية والوطنية المتعددة لمرحلتها التاريخية ولفاعليتها على المسرح الدولي، انها أمام الاضمحلال والتراجع - كما يمكن أن نرى في كل من بريطانيا وفرنسا وايطاليا ولو نظرنا إليها منفردة، من دون مستقبلها الأوروبي وفضائها القاري الجديد الفسيح - أو الإحياء والنهوض، مرة أخرى، لو نهضت مجتمعة، ولكن بصيغة مختلفة متجددة تتخطى منطق السيادات المنفردة، ومنطق المصالح الذاتية المطلعة، إلى منطق السيادة العليا المشتركة ومنطق المصالح المتبادلة وبمنأى عن التعصب القومي أو الوطني الضيق. حتى البرتغال واسبانيا وهولندا وبلجيكا واليونان وجدت في هذه الصيغة المشتركة المتسعة خلاصها وانقاذها، وإلا فهو عصر الهيمنة الأميركية والروسية والصينية واليابانية وعصر السقوط المشترك لأية دولة منفردة. لم يحدث قط في التاريخ ان استطاعت امبراطوريات متداعية أن تنهض من جديد في كيان أكبر وأكثر عافية وحيوية كالأمم الأوروبية اليوم في ظل "المشروع" الأوروبي الموحد. إنها أوروبا الموحدة، ينهض بها العقل كطائر الفينقي من بين الرماد. هذا ما يجب أن يراه العقل العربي بوضوح وجلاء، وألاّ يمنعنا شنآن قوم من أن نعدل... فذلك أقرب للتقوى... وأنفع لنا ان اعتبرنا الحكمة ضالة المؤمن... يطلبها أنّى وجدها. وعملية الوحدة الأوروبية سائرة في طريقها المتدرج. لكنها سائرة بلا رجوع. وعندما تشتبك المصائر في عملة موحدة، وقبلها في برلمان موحد، وتشريعات متماثلة، وسوق اقتصادية واحدة، ومشروع دفاعي متقارب، وإدارة حكومية مشتركة، فإن "المعجزة" قد تحققت. وإلا فمن تصور أن امبراطوريات استعمارية متصارعة حتى الرمق الأخير في ما بينها تتحول إلى أعضاء حية من جديد في فيديرالية كبرى... في الولايات الأوروبية المتحدة... بعراقتها الحضارية، بثقافاتها، بفكرها، بتجاربها، بعمرانها المكثف، لا تستغربوا إذا أثبتت هذه القوة المتجددة انها هي الند الحقيقي لأميركا. إنها المعجزة الأوروبية بعد المعجزة اليابانية والآسيوية على الطرف الآخر من المعمورة... هكذا تصنع الأمم الحية أقدارها. ومثل هذه المعجزات العقلانية الحضارية ليست حصراً أو حكراً على أمة دون أخرى. فقبل فترة وجيزة اجتمع سلاطين الولايات الماليزية المسلمة لاختيار ملك اتحاد ماليزيا الجديد الذي هو، بالمناسبة، سلطان أصغر الولايات الماليزية، لكن منطق العقل المتحد جعله ملك الاتحاد كله خلفاً للملك الراحل. هنا أيضاً عقل مسلم متحضر منفتح على ليبرالية العصر وعقلانيته، استطاع أن يصنع معجزة بحجم ماليزيا الجديدة وما تمثله من أبعاد غير مسبوقة. وإذا كانت التجربة الوحدوية الأوروبية الجديدة تثير أشجاناً على امتداد العالم العربي، حيث استطاعت الأنظمة الأوروبية الملكية والجمهورية، المحافظة والثورية، أن تصنع أوروبا موحدة. فإن التجربة الماليزية الجامعة بين تراث السلطنات الإسلامية ومعطيات النظام البرلماني الليبرالي الاتحادي في الفكر السياسي المعاصر، تثير أشجاناً مماثلة على صعيد مجلس التعاون الخليجي المنشغل بقمة أخرى يرجى أن تكون مثمرة. ... فلماذا وصلوا ولم نصل؟ لماذا وصلت أوروبا ولم يصل العرب بعد...؟ لماذا وصل اتحاد ماليزيا... ولم يصل اتحاد الخليج بعد؟ ثمة أوجه شبه وثمة أوجه اختلاف بلا ريب. ولا يمكن نسخ التجارب أو استيرادها بطبيعة الحال... ولكن جميع التجارب الناجحة في عصرنا تجمعها ميزة جوهرية وأساسية وهي أنها حكمت منهج العقل، وتحررت من سطوة الجهل، في حياتها، وعلى الأخص في سلوكها السياسي الواقعي الذي لم يعد يخضع لا للمطلقات ولا للانفعالات، ولا للصغائر ولا لمتاهات الهاجس التآمري الذي قد ينسج رواية بوليسية مسلية، لكنه لا يصنع تاريخ أمة حية. * كاتب من البحرين.