لا يحتاج فريد هاليداي إلى تعريف أو تقريض. فقامته الأكاديمية وإنتاجه الغزير يتحدثان عنه. واقتحاماته لقلب المعضلات السياسية والسوسيولوجية واللغوية والدينية، بخاصة في الشرق الأوسط، انتزعت احتراماً كبيراً له في دوائر واسعة. ومغامراته في بلدان الخليج العربي من جبال ظفار واليمن الجنوبي خلال سنوات رومانسية الثورة الماركسية، ووصولاً إلى تقاعده الهادىء على سرير المرض في برشلونة، كلها كانت تنبيء عن شخصية مفكرة ومقدامة دوماً. كتب هاليداي كثيراً، كتباً ومقالات، وأتقن لغات عديدة، ومنها اللهجة الحميرية. لكنه استقبالاً للألفية الثانية اصدر عام 1999 كتاباً متوسط الحجم بعنون «العالم عند 2000» (The World at 2000)، ولخص فيه أهم عناصر رؤاه للعالم المقبل على تحقيب زمني جديد، وقد صدرت ترجمته العربية عن «دار الساقي» عام 2002 بعنوان «الكونية الجذرية لا العولمة المترددة». ربما يمكن المغامرة بالقول إن هذا الكتاب شبه المغمور هو من أهم، إن لم يكن أهم، ما كتب هاليداي من زاوية سجال العولمة والكونية والخصوصية الثقافية. وربما يجوز لنا إعادة نقاش ذلك الكتاب على سبيل النعي والتقدير لغياب هذا الإرلندي الموسوعي. منذ صدور ذلك الكتاب ألحت على هاليداي العناوين المعولمة أكثر وأكثر، فكتب مباشرة بعد إرهاب 11 سبتمبر كتابه الشهير «ساعتان هزتا العالم»، وربط فيه الأسباب والنتائج في شكل إستثنائي، وفي وقت كانت فيه «البوشية» و»النيومحافظية» الأميركية الجديدة تقطع ما بين السبب والمسبب وتمهد الأرض لغزواتها في أفغانستان وإيران. يرى هاليدي أن المعضلات الكبرى لا تعترف بالحدود الزمنية الحدية، كانتهاء ألفية وبداية أخرى، أو انقضاء قرن وانطلاق آخر. بل تمتد كالسرج على جانبي الحد الزمني الرمزي الفاصل بين حقبة منقضية وأخرى صاعدة. ولهذا ففي الوقت الذي واجه عالم القرن العشرين معضلات من الوزن الثقيل، فإن تلك المعضلات الكبرى نفسها ترحل معنا، ليس فقط إلى القرن الذي نعيشه الآن بل ربما إلى الألفية الثالثة برمتها. ما تصدى له هاليداي في «العالم عند 2000»، وآخرون نسجوا على منوالات شبيهة، ليس قضايا سياسية بحتة منبتة عن جذورها النظرية، إن على مستوى الدولة-الأمة او العالم، بل على العكس إدارة نقاش معمق حول مجموعة طروحات نظرية في غاية الأهمية لجهة الاجتماع السياسي القومي أم العالمي، تتفرع عنها الإشكالات والقضايا السياسية الكبرى والأساسية في عالمي اليوم والغد. تتضمن النقاشات والقضايا الجدلية التي سيطرت على الساحة الفكرية في ميدان العلاقات الدولية وما زالت، وانهمك فيها هاليداي، موضوعات مثل جدة وعمق واتساع التغير الذي شهده وما زال يشهده العالم بعد انقضاء الحرب الباردة، وموضوعة العولمة ومضامينها وأبعادها، والنزوع المتطرف نحو ليبرالية السوق وأفكار نهايات التاريخ، وعودة أنماط الحروب وانتشارها على رغم غياب مخاطر الحروب العالمية الكبرى، ومسألة الديموقراطية ومدى تجذرها أم هشاشتها، وسيطرة هيمنة قطب دولي واحد ومعناها وآثارها، ثم جملة القضايا المتعلقة بالهويات المحلية والعلاقة بالآخر، وكذلك انتشار الدعوة الأممية إلى الحكم الجيد (Good Governance) وانتهاء بالدعوة إلى ما يسيمه هاليداي «الكونية الجذرية». ومن أهم ما يميز عالم اليوم في شكل عام، كما يرى هاليداي، هو أنه مع هزيمة الاشتراكية مترافقة وسقوط الاتحاد السوفياتي، غاب السبب الذي يمكن أن تستخدمه الرأسمالية لتبريرها عدم تحقيق ما اعتادت أن تبشر به من إيصال الإنسان للرفاهية والسعادة، على المستوى الفردي، وتحقيق الازدهار والسلام على المستوى الإنساني. فالرأسمالية أصبحت الآن وللمرة الأولى في التاريخ عارية تحت الضوء والاختبار الحقيقي وبلا ذريعة تستخدمها للتملص من وعودها. وهذا مرتبط من ناحية أخرى بما جلبه انقضاء الحرب الباردة من نهاية للإيديولوجيات المتناقضة التي يعود جذرها التنافسي الى قرنين ماضيين وعلى الأخص بين الاشتراكية والليبرالية، الإصلاح والثورة، التخطيط والسوق. ويعتقد هاليداي أنه فضلاً عن خفوت جذوة التنافس فإننا نشهد اندحاراً مزدوجاً للتخطيط المركزي (للاقتصاد) من قبل الدولة، وكذلك لتطرف دوغما النيوليبرالية وإيمانها الأعمى بقوى السوق. والبديل الذي نشهد بزوغه (بحسب الكتاب وعشية الألفية الثانية) هو نوع من التسوية بين هاتين الإيديولوجيتين يسميها هاليداي «السوق الاشتراكي»، حيث التركيز على إعادة هيكلة الدولة لناحية نزع بعض وسائل التوجيه التقليدية التي اعتادت احتكارها ومنحها وظائف جديدة لم تكن داخلة في تعريفها. ويندرج في هذا أيضاً التركيز على تطوير ثقافة مجتمع مدني واسعة مهتمة مركزياً بقضايا ملحة مثل التعليم والعائلة والجريمة. والتركيز كذلك على محاربة البطالة والوصول إلى نسبة بطالة صفر، ثم إعادة بناء نظام الرعاية الاجتماعية والانخراط النشط في القضايا العالمية المشتركة. ومن الواضح هنا أن البديل «الوسط»، أو «السوق الاشتراكي» الذي يدعو إليه هاليداي لا يكاد يختلف بشيء عن بديل «الطريق الثالث» الذي دعا إليه أنتوني غيدنز في كتاب بنفس ذلك العنوان صدر قبل كتاب هاليداي وشاع في أوساط الديموقراطيين الاشتراكيين في أوروبا والولاياتالمتحدة، وتبنته حكومات توني بلير البريطانية العمالية، وغيرهارد شرودر الألمانية الاشتراكية الديموقراطية، وبيل كلنتون الأميركية الديموقراطية. لكن الأمر المحيّر هو أن هاليداي لا يستخدم تلك التسمية ولا يشير إلى غيدنز أو كتاباته التي نظر فيها الى البديل الذي يطرحه، وبخاصة كتابه المهم «الطريق الثالث» والذي ينسب إليه بإجماع. يرى هاليداي أن التحدي الأكبر المرتبط بمطلع القرن الواحد والعشرين يكمن في تحقيق المساواة بين الأغنياء والفقراء. ويناقشه في سياق معالجته للعولمة، التي يراها التحدي الثاني، والتي من ناحية أخرى تنطوي على عمليات تكرس اللامساوة في شكل صارم وتولد عدم الاستقرار. والنظرة إلى العولمة هنا ليست قاصرة على رؤيتها كظاهرة مسطحة أو مجرد عملية أحادية، ترتبط مثلاً بالشركات العابرة للحدود، بل تتسع لرؤيتها ظاهرة مركبة ومتعددة الأوجه والعمليات. ويعرفها هاليداي بأنها تتضمن ثلاثة أمور أساسية: تخفيض الحواجز بين الدول والمجتمعات، زيادة هيمنة بعض الدول والمجتمعات، وزيادة حجم المبادلات بين المجتمعات (سواء كان ذلك على شكل التجارة، أم رأٍس المال، أم العملة المتبادلة، أم حجم السياحة، أم عدد المهاجرين). على أن اللافت للانتباه في تعريف هاليداي هو قصوره في ذلك الكتاب عن التركيز على ثورة الاتصالات والإعلام بشكل مباشر، رغم ما قد يفهم من إشارات وتضمينات غير مباشرة إلى ذلك، ورغم معاودته الاهتمام به في كتاباته اللاحقة. فالإعلام الاتصالي المعولم، الفضائي والإنترنتي، هو في الواقع الساق الثانية للاقتصاد المعولم إذ يتوأمان معاً ويشكلان هيكل العولمة الراهنة ومحركها النشط. وبقليل من المجازفة يمكن القول أن نقمة هاليداي على الإعلام الراهن في عالم اليوم، والذي عبر عنه في مناسبات أخرى لكنه لم يظهر في هذا الكتاب، بسبب ما تقوم به الإمبراطوريات الإعلامية من تشويه، إما من طريق تصنيع و تضخيم أفكار وتوجهات فارغة أو في تجاهل وتسطيح أفكار وتوجهات ومشكلات ضاغطة ربما دفع به إلى التقليل نسبياً من أثر ومساهمة الإعلام والاتصالات في شكل وتشكيل العولمة. يندرج في نقاشات المعضلات الكبرى الجدل حول استمرارية أو توقف الحروب. وهنا نجد أن هاليداي يبقي الباب مفتوحاً، حيث لا نعلم فيما إن كانت المرحلة التي نعيشها الآن في ظل غياب حروب عالمية كبرى هي بداية مرحلة «سلم عالمي» دائمة، أو مجرد «فسحة» أو «استراحة» ما بين مرحلتين من الحروب. صحيح أن الديموقرطية تنتشر الآن ويتم ربطها، ولو بطريقة قسرية مبالغ فيها أحياناً، بنشر السلم في أرجاء المعمورة. وصحيح أن بلدان العالم تنزع نحو الدمقرطة شيئاً فشيئاً، حيث أن عدد البلدان التي صارت توصف بأنها ديموقراطية يزداد سنة بعد سنة: فمقابل 56 بلداً ديموقراطياً عام 1990 فإن العالم عام 2000 يشهد 86 ديموقراطية. لكن احتمال الانقلاب إلى سيرة الحروب الكبرى لا يمكن نفيه بالمطلق، ولا الديموقراطية التي يستند إليها قادرة على توفير ضمانة تامة وأكيدة ضد الارتداد إلى أنماط استبدادية من ناحية، أو إشباع تطلعات الشعوب وتحقيق موازنات وتسويات بين مصالحها المتناقضة والحادة من ناحية ثانية. ويقلل هاليداي من المبالغة في موضعة ما يسمى «الإرهاب الدولي» كخطر مولد لحروب عالمية. فمن جهة يلفت الانتباه إلى أن هناك أنواعاً أخرى من الإرهاب الخفي أو المستتر الذي لا يقل خطراً عما تقوم به «المنظمات الإرهابية»، كما أن إرهاب هذه المنظمات ليس بالعمق الدولي أو الحساس الذي قد يجر دولاً كبرى إلى الانخراط في حروب كبرى مثل الإرهاب الذي قاد إلى الحرب العالمية الإولى عام 1914 في ساراييفو. بل إن ما هو أهم من التركيز المبالغ فيه على الإرهاب هو انتشار أسلحة الدمار الشامل وعدم خضوع الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص لمعاهدات الحد من ذلك الانتشار وعدم توقيعها على معاهدة حظر التجارب النووية. ستفتقد أدبيات العلاقات الدولية إسهامات فريد هاليداي بخاصة بعد مرحلة النضج والتوازن الدقيق التي وصل إليها قاطعاً رحلة طويلة من الماركسية الثورية إلى اشتراكية السوق والعولمة. * أكاديمي ومحاضر فلسطيني - جامعة كامبردج [email protected]