كان حظر حزب البعث خطأ كبيرا ارتكبته سلطة الاحتلال في العراق، مثله مثل حل الجيش النظامي الذي يصعب اتهام كل جنوده وضباطه - باستثناء الجنرالات - بالولاء للنظام السابق، بخلاف الحرس الجمهوري والحرس الخاص والأجهزة الأمنية المختلفة. ومازالت تداعيات الخطأين واضحة على الصعيدين الأمني والسياسي. وإذا لم يعد ممكنا تدارك خطأ حل الجيش بعد مرور أكثر من ستة شهور، ففي الإمكان إصلاح خطأ حظر حزب البعث عبر الغاء القرار الذي صدر في شأنه ودعوة البعثيين الذين لم يتورطوا في جرائم ضد الشعب العراقي الى إعادة بناء حزبهم على أساس ديموقراطي. وثمة ضرورة عملية لهذا الإجراء تتجاوز مسألة ترتيب الوضع الداخلي في العراق الى قضية استعادة السيادة من سلطة الاحتلال دون الانتظار حتى تتيسر امكانات امكانات إجراء انتخابات عامة. فهذه الانتخابات تقتضي إنجاز عملين كبيرين يحتاج كل منهما إلى شهور وربما بضع سنوات. أولهما : إحصاء سكاني شامل من أجل حصر أعداد ومواقع العراقيين في كل منطقة وتسجيلهم في قوائم الناخبين وإعداد دوائر ولجان انتخابية بموجب ذلك. وثانيهما صوغ الدستور الذي مازال هناك خلاف على آلية إعداده وكيفية اختيار الهيئة التي ستتولى كتابته ثم عرضه للاستفتاء لعام. وإذ تتسم هذه الخلافات الإجرائية بالحدة فهي تمثل "بروفة" صغيرة لما سيكون عليه الانقسام في شأن مضمون الدستور نفسه، الأمر الذي ينبئ بامتداد المداولات حوله - والتي لم تبدأ بعد - لفترة طويلة. ويعني ذلك أن تظل سيادة العراق بين يدي سلطة الاحتلال طول هذا الوقت إلا إذا نجح مجلس الحكم في اقناع واشنطن ولندن بأن ثمة مصلحة للجميع في نقل هذه السيادة إليه خلال شهور قليلة. ويقتضي ذلك ممارسة ضغوط دولية على دولتي الاحتلال لهذا الغرض. ولكي تكتسب هذه الضغوط قوة أكبر وتؤدي بحماسة أوفر، ينبغي أن يكون القائمون بها مقتنعين بجدارة مجلس الحكم بالسيادة. وإذا أخذنا في الاعتبار التحفظات عليه من جانب الدول التي عارضت الحرب على العراق ومن معظم الدول العربية، والتي استندت على أنه لا يمثل العراقيين كلهم، يصبح مفيدا العمل لتوسيع نطاق المشاركة فيه. ويعني ذلك ضم القوى السياسية التي نشطت خارج إطاره خلال الشهور الماضية، وربما مرجعيات دينية شيعية وسنية ذات ثقل أيضا، وخصوصا بعد أن كثر الخارجون عليه الذين يرسلون وفودا الى الخارج أو يحاولون تشكيل حكومة بديلة أو حكومة ظل في الداخل. وإذا شملت القوى التي يمكن ضمها الى المجلس حزب بعث جديد ديموقراطي، يصبح هذا المجلس قادرا على التحدث باسم الشعب العراقي ويصير صعبا التشكيل في طابعه التمثيلي . ولكن السؤال الذي لابد أن يثار، هنا، هو : هل يمكن أن يكون حزب البعث ديموقراطيا، وهو الذي حدثت في ظل حكمه كل هذه الجرائم التي ملأت أرض العراق مقابرَ جماعية وفردية؟ وهذا سؤال ذو مغزى فعلاً. فهناك أحزاب لا يمكن أن تكون ديموقراطية بحكم تكوينها وأيديولوجياتها أو مواقفها السياسية والفكرية، مثل الأحزاب الفاشية. وكانت الأحزاب الشيوعية ذات الطابع الستاليني من هذا النوع أيضا قبل التجديد الذي شهده الفكر الماركسي وانتج ما اطلق عليه "شيوعية أوروبية"، ثم الانعطافة التي حدثت في كثير من هذه الأحزاب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وإدراكها أن مصادرة الحريات كانت من أهم عوامل هذا الانهيار. غير أن البعث ليس ضمن هذا النوع من الأحزاب، لأنه كان حزباً ديموقراطياً في طابعه الأصلي. ولكنه فقد هذا الطابع لأسباب تتعلق بمتغيرات إقليمية وتطورات في النظام السياسي في كل من العراق وسورية أدت الى تغيير جوهري في هيكله واتجاهاته. لقد أقر حزب البعث، في مؤتمره القومي الأول في نيسان أبريل 1947، دستوره ميثاقه الذي عبر عن اتجاه ديموقراطي واضح. ففي المبادئ العامة، انطلق من أن السيادة للشعب، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير وحريتهم في اختيارها. كما أعطى المرأة الحقوق السياسية كاملة. وفي باب سياسة الحزب، نص الدستور على أن نظام الحكم في الدولة العربية نيابي دستوري، وأن السلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية التي ينتجها الشعب. كما أكد ضرورة احترام الحياة الفردية ووضع دستور للدولة يكفل للمواطنين التعبير بملء الحرية عن إرادتهم واختيار ممثليهم اختيارا صادقا، ويضمن استقلال السلطة القضائية وحصانتها المطلقة. وفضلا عن ذلك، تبنى دستور الحزب موقفا إيجابيا تجاه الحضارة العالمية باعتبارها مشتركا إنسانيا يتغذى العرب منه ويغذونه. وارتبط ذلك باتجاه قوي في المؤتمر الأول استهدف وضع حد للغلو القومي الذي رافق السنوات الأولى لنشأة الحزب في مطلع أربعينات القرن الماضي. ولاحظ بعض قادة الحزب والمشاركون في المؤتمر أن هذا الغلو لم يكن بعيدا عن التأثر بالجو الفكري والعاطفي الذي أثارته النازية في البلاد العربية، وأبدوا حرصا شديدا على إنهاء هذا الأثر. لقد سمعنا خلال الشهور القليلة الماضية مجادلات استهدفت تبرير حل وحظر البعث العراقي بالإحالة الى تجربة ألمانيا مع الحزب النازي. وهذه واحدة من مشابهات سطحية بين العراق الذي رأينا مدى تخلف مجتمعه وعلاقاته الاجتماعية القائمة على انتماءات أولية عشائرية ودينية - طائفية وعرقية، وألمانيا بمجتمعها الصناعي المتقدم في نهاية الحرب العالمية الثانية. فلا مجال لمشابهة بين البعث والحزب النازي. فقد نشأ البعث حزبا ديموقراطيا يطالب دستوره بضمان الحريات، ويذكر البيان الصادر عن مؤتمره الأول عام 1947 أن حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأى سلطة أن تنتقصها ويعلن أن ازدهار الوطن متوقف على حرية الفرد كما حرص قادته المؤسسون على حمايته من تأثير النازية التي استهوت قطاعات من الشباب العربي في تلك المرحلة. وربما لا يعرف كثير من الأجيال العربية الجديدة أن حزب البعث رفض ثورة 1952 عندما قامت بسبب طابعها العسكري، ورأى في نظام الحكم الذي أقامته "دكتاتورية عسكرية تبطش بالقوى الشعبية" كما جاء في البيان الصادر عن قيادته في تشرين الأول أكتوبر 1953 والمنشور في الجزء الرابع في سلسلة "نضال البعث" والذي حمل عنوان المؤتمرات القومية السبعة الأولى. ويخلط البعض بين دعوة البعث في مرحلته الأولى الديموقراطية الى الانقلاب على الأوضاع العربية الفاسدة ومسألة الانقلاب العسكري. فقد أطلق البعث على نفسه حركة قومية شعبية انقلابية، ولكن بمعنى أنه يسعى إلى تطبيق سياسات جذرية لتغيير الأوضاع التي اعتبرها فاسدة عندما يصل الى الحكم عبر الانتخابات، وليس من خلال الانقلاب العسكري. فكان أحد المبادئ العامة في دستوره الانقلابُ على الواقع الفاسد انقلابٌ يشمل جميع مناحي الحياة وقصد به التغيير الجذري السريع في مقابل دعوة معظم الأحزاب العربية في ذلك الوقت الى اصلاحات تدريجية رفضها البعث ورأى فيها تكريسا لمصالح ضيقة. ولكن الحزب الذي رفض منهج الانقلابات العسكرية وعانى منه بشدة في العراق عندما أسفر انقلاب 1958 عن نظام دكتاتوري سامه العذاب أكثر من غيره، تحول الى هذا المنهج اعتبارا من نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي. ولم يفقد البعث، في هذا التحول، طابعه الديموقراطي الأول فقط، بل فقد نفسه. فلم يبق منه إلا الاسم الذي استخدمته وعملت تحته مجموعات عسكرية أساسا غلب عليها الطابع الطائفي في سورية والعشائري في العراق ونجحت في اغتصاب السلطة في البلدين. لقد خطف هؤلاء الحزب واستخدموا اسمه. ولا يصح لمن يحرص على مستقبل العراق أن يسمح بتكرار ذلك الآن، إذ بدأ بعض فلول النظام السابق في استخدام اسم البعث مجددا في بياناتهم. فكان العام 1958 نقطة تحول كبرى في تاريخ البعث، إذ قضى حل فرعه - أو بالأحرى مركزه - في سورية وسحق فرعه في العراق على الحزب الذي نشأ ديموقراطيا. كانت هذه بداية عسكرة الحزب، إذ شكلت لجنة عسكرية سرية كانت هي مركز الثقل فيه خلال فترة حله في سورية. وكان التغلغل في الجيش العراقي هو الرد على سياسة نظام قاسم التي استهدفت تصفية الحزب. لقد كانت وحدة 1958 إنجازا كبيرا يستحق تضحيات من نوع حل حزب لعب أكبر دور في نشر الوعي العروبي في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، لو أنها نجحت . ولكن الوحدة فشلت، وتفاقمت الخسارة عندما تبين أن البعث لا يمكن أن يعود كما كان حزبا قوميا ديموقراطيا. لم يعد منه غير الاسم الذي استخدم في اتجاه معاكس لأهدافه، إلى حد أن الصراع بين البلدين اللذين حُكما باسم البعث كان الأكبر والأعمق على الإطلاق بين كل حالات الصراعات العربية - العربية. وهكذا فقد البعث طابعه القومي وليس فقط الديموقراطي، بل فقد نفسه. ولذلك لا يصح الحكم على حزب البعث استنادا على ما حدث في العراق. فإذا كان بعض أعضائه مستعدين لإحياء البعث الحقيقي على أصله الذي كان طول عقدي الأربعينات والخمسينات في القرن الماضي، سيكون هذا مكسبا للعراق. فانضمام بعث ديموقراطي إلى مجلس الحكم العراقي يوسع قاعدته، ويجعله أكثر تمثيلا وبالتالي أقوى حجة في سعيه الى استعادة السيادة، ويوفر له دعما دوليا أكبر. كما أن تأسيس بعث ديموقراطي يمكن أن يدعم الاتجاه الديموقراطي في الأحزاب والحركات القومية في بلاد عربية أخرى على نحو قد يساعد في ترقية الممارسة السياسية في هذه البلاد. * مساعد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية.