مضى أكثر من قرن على وجود فكر سياسي حديث عند العرب، وبرز هذا الفكر في آراء ومؤلفات ومناقشات، كما برز في جمعيات سياسية أحزاب ونواد وتجمعات مفكرين. وإذا كان التعريف البسيط للفكر السياسي انه مجموعة أفكار في تصوّر قيام الدولة وتطورها، فإن البحث عن أثر الفكر السياسي العربي في مجال تعريفه يبدو صعباً ويقتضي البحث والمناقشة. نشرنا مقالاً أول عن مشهد هذا الفكر وإشكالياته الرئيسية، وهنا مقال ثان عن تحقق الأزمة في الأحزاب. هنالك مشكلة للفكر السياسي العربي، في كلّ من الفكر والسياسة والعروبة، وفي ما يربط أو يفصل بين كلّ اثنين منهما، وما يربط أو يفصل بين أيّ اثنين منهما مع الثالث، وبين المفهوم في كلّه مع تاريخيّته. في ما يأتي ملاحظات سريعة في الحقل الأخير، حقل السياسة والعمل السياسي، أو الأحزاب العربية في شكلٍ أكثر تحديداً. اشتغل الأفغاني الأول، جمال الدين، على الموضوع بطريقة عبقرية. نجح كثيراً وعميقاً، وفشل في مآل التجربة. على عكس العربي المعاصر الذي "هاجر" إلى بلاد الأفغان حاملاً يأس التجربة إلى حدوده القصوى، باختزال السياسة في الحرب، ثمّ الحرب في "الإرهاب". في حين قلّص جمال الدين نشاطه الفكري إلى أحاديث طويلة وإنتاج مكتوب محدود، وركّز على النشاط السياسي، لا بالدعوة إليه فحسب، بل بالدأب على تخليقه وتحديثه. ظهر الانقسام منذ الأفغاني وبعده مباشرة، بين من يرى ضرورة التربية وتطوير الوعي واستعادة سيادة العقل بعد ختم باب الاجتهاد منذ قرون، وبين من يرى ضرورة الإقبال من الحركة والفعل والنشاط، تلبية لحاجات التقدم ومواجهة للعقبات الراهنة، واكتشافاً للوعي والفكر على الأرض وداخل الزمن. مثال ذلك في الإمام محمد عبده، والمحاولة العرابية. ثمّ أصبح التوافق المفقود بين حركة الفكر وحركة السياسة فخّاً دائماً يودي إلى النخبوية أو الشعبوية بعد ذلك، مع أنفاسٍ متقطّعة في مواجهة العوامل الخارجية، التي لم تفسح في المجال حتى للحال الاجتماعية الاقتصادية السياسية الأكثر تبلوراً في مصر أن تستقر وتسكن نسبياً، إلى حدٍ يسمح للفكر بأن يتقدّم وللسياسة بمعناها الحديث أن تتأسس، وفي شكل متآلف ومتفاعلٍ ما بينهما. ولم تتمّ خطوة إلا بعد فوات الأوان، ولو بدا أحياناً أن بعض الخطى يستشرف الأوان أو يسبقه. حزب اللامركزية كان يعمل على تطوير البنية العثمانية الموحّدة بعد ابتداء تكاثف الأتراك على ذاتهم، وطموح الشريف الحسين والخديوي عباس مع الحزب الوطني إلى الخلافة بعد تهافت مقوماتها في الآستانة. المتطلّعون إلى الحداثة بفاعلية "حزبية" لافتة، تمّ إعدام نشاطهم عملياً في 1916 على يد الوالي المنتمي إلى تيّار التحديث التركي في دمشق وبيروت، ونشر خبرهم بين العامة على أنهم جواسيس الأوروبيين "الكفار". وغرق الفكر السياسي العربي في مناحيه الليبرالية والوطنية القومية والاشتراكية الاجتماعية والإصلاحية الإسلامية في أطيان التأخر، مع احتجاز الأفق والوقت بالمهمات الملحة لمقاومة طغيان الأجانب المستعجلين المتنافسين على النفوذ والهيمنة. وقعت القوى الليبرالية في فخّ إعجابها بالعدوّ الآتي بآلته الحديثة والاستعمارية من بريطانيا وفرنسا، فأصبحت نخبة معزولة عن الناس بتهمة العمالة. ووقعت القوى الوطنية القومية في فخّ إعجابها بالمثال النازي والفاشي فانكبّت على مفاهيم النهضة من "الكبوة" واليقظة من "الغفوة" والبعث من "الموت"، في شكلٍ يضعف الطموح إلى الحداثة ويُحلّ النوستالجيا بديلاً من العقلانية والواقعية. ووقعت القوى الاشتراكية في فخّ إعجابها بالنموذج السوفياتي وانفصامها عن الحال الاقتصادية الاجتماعية وحاجات التاريخ العياني الى ناسها. ووقعت الإصلاحية الإسلامية في وهم استعادة الخلافة ونموذج النقاء والطهرانية على مثاله في الزمن القديم الباهر. في الخارج، جاءت الكينزية لضبط فوضى الاقتصاد من طريق الدولة، وأضاءت ثم أظلمت النازية والفاشية، وعظمت الولاياتالمتحدة واحتلت الصدارة مع ابتداء شعوب الجنوب والشرق بتقرير مصيرها الذي حمل رايته ويلسون ولينين، وخيّمت الحرب الباردة على أجواء العالم. في مثل هذه الأجواء، جاء الاستقلال والتحرر الوطني والاشتراكية والدولة... والعسكر. ظهرت القوى السياسية التي شكّلت عماد ما سمّاه البعض "نهضة ثانية" أو محاولة لها، ما زلنا نعيش في ذيولها، وتأسرنا أوهام استعادتها. كانت الناصرية أبرز معالم تلك النهضة، مع حزب البعث وحركة القوميين العرب، وفي شكلٍ مختلف مع الحزب الدستوري في تونس وحزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني للقوى الشعبيه في المغرب، وأقلّ اختلافاً مع جبهة التحرير في الجزائر، ومختزل مع الحزب المعادي للحزبية في ليبيا، مع امتدادات هذه الأحزاب وانقساماتها وتبدّل أوضاعها بل تسمياتها أحياناً. هذه "النهضة" كانت محاولة كبرى لتجاوز الأفخاخ المشار إليها وما آلت إليه من عجز في آليات تثمير السياسة وتفعيلها، من طريق إشراك الشعب وتشغيل محرّكاته في حقلها. جاءت هذه القوى معبّأة بالعداء للاستعمار، ولفشل الليبرالية القديمة وانحطاط مستوى أدائها السياسي على الأرض، ولانحباس القوى الشيوعية في حلم المستقبل البعيد وإسار المثال القاصر، والقوى الإسلامية في حلم الماضي السعيد وقصور الأمثلة الراهنة. ولكنها قفزت في ذلك جميعه إلى الجهة المقابلة وعاشت عاصفة لم يبقَ منها في الأيدي إلاّ الريح والحسرة على الزمان الضائع. كانت مشروعاً شجاعاً وطموحاً يستحق المحاولة، لم نعلم أنه يحمل الفشل في حناياه إلا بعد أن فشل بالفعل. لم تكن القوى السياسية العاملة في المنطقة العربية منسجمة تماماً، في ما بينها وخصوصاً مع ذاتها. كانت تختلف عن نفسها بحسب وضعها حين تصبح في الحكم أو تبقى خارج السلطة. هذه الملاحظة المستمرة والمتفاوتة إلى هذا الحدّ أو ذاك، هي أساس الاستنتاج بأنها منقوصة الجدّية والتكوين والتأسيس، في علاقتها مع الشأن العام ومفهوم السياسة والحداثة. منذ بداية النصف الثاني من القرن السابق، انطلقت الناصرية والبعث وغيرهما إلى تصحيح توازن الديموقراطية، من الاستناد إلى الليبرالية مع التخلّف الاقتصادي الاجتماعي السياسي والتبعية أحياناً، إلى قطب الديموقراطية الثاني: الشعب بكونه تعبيراً جمعياً عن الأفراد التي تؤمّن الليبرالية حرياتهم الشخصية، فيغرقون بها في غياب الشأن العام. لكن الذين مالوا إلى الشعب وأنزلوه إلى الميدان، أهملوا الجزء المكوّن الأول، فكان لا بدّ من أن ينزلقوا إلى التسلّط من طريق الشعبوية العريض، ذي الاتّجاه الوحيد وخصوصاً في ظرف التأخر التاريخي. والطموح إلى الدولة القوية أيضاً كان تبريراً للتسلّط يستنبط مشروعيّته من نموذج الاستبداد الأوروبي القديم، ونموذج المستبدّ العادل الشرقي الأثري. هذا لا يتعارض مع كون تلك الحكومات ساعدت على تقوية الدولة، ولكن على أساس ضعيف يعتمد قوة الأجهزة البوليسية وسطوتها أكثر من اعتماده القانون. تلك الحكومات سعت الى الاستقلال والوحدة القومية وتحرير فلسطين، وتوصّلت إلى الدولة القطرية المغموسة بالتسلّط والاستبداد المتأخر، وإلى حال من العجز عن مواجهة إسرائيل بقوة تكفي لعودة الحقوق والوصول إلى سلام عادل إلى هذا الحدّ أو ذاك. عملية التحديث كانت أكثر توفيقاً ربّما، ولكن أقلّ من الممكن. والتحديث يرتبط بالإصلاح الزراعي والتصنيع والمركزة ونشر التعليم، وهو يرتبط أيضاً بالاستبداد. هنا استقرّت عاصفة التحديث المبهمة الملامح، ووجدت مبرّر وجودها المحلّي. بل إنها غدت عبئاً يصعب حمله وتقويمه، بتشعّباته وأمراضه التي تملأ الأجواء بالتلوّث والتفسّخ. وأصعب ملامح الحال افتقاد المجتمع المدني والسياسي، في الليلة الظلماء، وهما مصدر الطاقة على التغيير وتعديل المسار وضمان شرعية التحوّلات. هذه نتيجة طبيعية للعداء للسياسة وامتصاصها من المجتمع، بقوة الخوف والتسلّط والمهام القومية المتوالدة توائمَ مع المهمات الثورية، ثم من دونها. في الخمسينات، ظهرت الناصرية أكبر تيار سياسي عربي في القرن، ابتداء من مصر، وأصبحت "حزباً" عربياً قوياً وجامعاً قادراً على تأميم القناة وإقامة الوحدة، وظهرت حركة القوميين العرب على أمواج القضية الفلسطينية التي أفرزت نفساً كفاحياً وتحرّرياً في الكثير من البلدان العربية، وحزب البعث العربي الذي اكتسب قوة شعبية في سورية، قبل العراق وغيره، باتحاده مع الحزب الاشتراكي العربي أكرم الحوراني الواسع الانتشار في الأوساط الريفية، واستطاع تحقيق نتائج لافتة في انتخابات 1954، ومع نفوذ عملي أكبر حجماً استطاع مع الحركة الشعبية فرض قيام الوحدة، وظهرت جبهة التحرير الجزائرية في انقلاب من الأجواء الاستقلالية الليبرالية مع مصالي الحاج والشيوعيين إلى النضال المسلّح الذي جرف الجميع بالتدرج، وازدادت قوة حزب الاستقلال في المغرب مع الكفاح المسلح في الجنوب وكان له دور في تحقيق الاستقلال ضمن الطابع الذي يتميز به محمد الخامس والمغرب، ثمّ تأسس الاتحاد الوطني للقوى الشعبية المهدي بن بركة والفقيه البصري ليجمع التيار الأكثر راديكالية من حزب الاستقلال. في تونس كان مسار الاستقلال أكثر محافظة وخصوصاً بعد إبعاد صالح بن يوسف عام 1954، ثمّ امتدّ تأثير الحزب الدستوري وبورقيبة حتى إحراز جميع مقاعد الجمعية التأسيسية 1956 وصدور الدستور في 1959. في العراق تجمعت الأحزاب القومية والراديكالية باتّجاه حركة 14 تموز يوليو العسكرية التي أطاحت الملكية ثمّ ابتدأت في أكل أبنائها في مسلسل عراقي استمر طويلاً. دور العسكر والشعبية والوطنية والتوجّه القومي والاشتراكي كانت طابع الخمسينات الذي يؤسس لتقليص الحريات والسياسة، ولا ينجح في ذلك حيث لا يكون هذا الطابع غالباً. في الستينات، ابتدأ البريق بالخفوت والصوت بالارتفاع أكثر. وصلت الوحدة السورية - المصرية إلى انفصالها واستقلت الجزائر عام 1962، وشنّت إسرائيل الحرب عام 1967، ونضجت الاستقلالات الهشة لتتحوّل إلى راديكالية في الفكر والسلطة ومزيد من إبعاد السياسة عن المجتمع، باسم الاشتراكية والوطنية والشعب، وعن إخلاصٍ في كثير من الأحيان. استطاعت الجزائر تعويض ما فاتها بسرعة التحول نحو السيطرة العسكرية مع الانقلاب على بن بله، وجاءت ليبيا إلى الحقل عام 1969 قبيل عودة الحجيج في مطلع السبعينات. في العقد التالي ابتدأ الرجوع إلى وراء في الميدان الشعبي والوطني والقومي والاشتراكي من جانب القوى الموجودة في السلطة، وابتدأت المراجعة الابتدائية في تلك الموجودة خارجها. هذه المراجعة أفرزت توجهات نحو العقلانية والديموقراطية والحداثة، وأخرى نحو الأصولية التي أفسحت لها السلطة هنا وهناك أبواباً توازن بها التوجّهات القومية واليسارية الراحلة والمزعجة في آنٍ، وظهر الغلوّ في باب الجهاد أيضاً كمنتج طبيعي لتلك الأوضاع. منذ ذلك الحين والحال إلى تراجع في درجة الاندماج بالعمل السياسي، مع تقدّم بطيء في الفكر، باتّجاه الحداثة والديموقراطية والعقلانية وبناء الدولة الوطنية تأسيساً على القطرية، بعد اليأس انتظاراً للوحدة القومية من طريق نفي الوحدة القطرية واحترام دور المجتمع المدني والمجتمع السياسي وطبيعته في هذا السياق. إذا استثنينا المغرب، نسبياً، يمكن الحديث عن ضعف العمل السياسي بمفهومه الحديث، وعن عزلة المعارضات وضعف عدّتها وعديدها، وعن أزمة في انقطاع الناس عن الإسهام في الشأن العام، خارج الأمور الوطنية في حاليها السالبة والموجبة. والآن تبدو الأوضاع إلى نضوج زائد، سيودي بالأنظمة إلى إصلاح الاضطرار ما لم تبادر إلى التراجع عن عنادها، وبالقوى الأخرى إلى الانقراض ما لم تستعجل المراجعة الكاملة على الخطين: الفكر السياسي ثانياً، والممارسة السياسية من باب دمج المجتمع في السياسة أولاً. السياسة هنا ذات مفهوم آن أوان الامتناع عن خلطه وتمويهه بالوطنية، من حيث هي مواجهة مع الخارج، وأوان توطينه بالوطنية التي تستند إلى المواطنة والقانون والتعاقد. السياسة هنا تقوم على الموقف من مسألة السلطة، وعلى حق التداول، وعلى الدولة الدستورية... وهذا طريق طبيعي باتّجاه حل المسألة القومية بجميع جوانبها، وليس هذا شرطاً لذاك. * كاتب سوري.