تتردد، بين فينة واخرى، في بعض الكتابات العربية فكرة مفادها ان الغرب هو الذي منع العرب من بلوغ الديموقراطية. وقد غدت هذه الفكرة مسلّمة، على الاقل في الوسط الفكري العربي الاكثر نفوذاً، اي ذاك المتشكّل من لقاح عروبي-اسلاموي-اشتراكي. والحال ان الفكرة هذه مستعارة من تجارب اخرى مختلفة، لتُطبّق بفجاجة وكسل على الواقع العربي في علاقته بالغرب. فهي تنطبق الى حد بعيد على اميركا اللاتينية منذ ما قبل التدخل في غواتيمالا 1954 الى ما بعد التدخل في تشيلي 1973. وتنطبق، الى حد ما، على ايران محمد مصدّق 1953-1954، هو الذي كان المكوّن الديموقراطي في حركته التي جمعت الى تأميم النفط العداء للسلطة الامبراطورية المطلقة عنصراً بارزاً نسبياً. واذا صحّ ان الحرب الباردة حملت بلدان الغرب الديموقراطية على اتباع سياسات تتفاوت بين تحجيم الاكتراث بالديموقراطية وبين تزويرها القمعي وهو ما يمتد من فرنسا وايطاليا ما بعد الحرب الثانية الى تشيلي اليندي وبينوشيه، ومن دعم فرانكو وسالازار الى دعم كولونيلات اليونان، الا ان هذا التحليل لا يصحّ على الواقع العربي. وأما السبب فأن الديموقراطية لم تكن على الاطلاق مُكوّناً قوياً من مكونات الحركات السياسية التي ناهضت الواقع القائم. فهذه السلعة "المستوردة" راحت تتساقط في مواجهة الصعود العسكري القومي، او محاولات "البعث" الى ما قبل الامة - الدولة، او غير ذلك من بدائل كثيراً ما استقطبت العاطفة الجماهيرية التي لم تهضم السلع "المستوردة". ولم يكن السلوك الكولونيالي في هذا كله الا عاملاً يفاقم النفور والتنفير العربيين. لكن اذا بدت سنوات حكم "الوفد" قصيرة في مصر الملكية، وهي لا تزال اكثر المعايير العربية كلاسيكية، بقي ان القصر هو غالباً من خاصم الوفد الذي كان يلقى الدعم، غالباً ايضاً، من الانكليز. وقد كانت المواجهة الاهم التي تركت آثاراً لاحقة على التطور السياسي المصري تلك التي جمعت، في الاربعينات، مصطفى النحاس والانكليز في جبهة، والقصر والكتلة المتعاطفة مع الالمان ماهر والمراغي وعزيز علي والاخوان واحمد حسين في جبهة اخرى. ومنذ بدايات الطلب العربي على التحديث السياسي قدم اليمن، من خارج الاحتكاك بالاستعمار، عيّنة غنية الدلالة: ذاك ان النُوى الثقافية التي شكلت، في الثلاثينات، "حركة اليمنيين الاحرار" ممن تطوروا الى "حزب اليمن الحر" الذي تأسس في القاهرة عام 1944، كانوا شديدي التأثّر بافكار الاخوان المسلمين وتنظيمهم الذي قطع الطريق على تطوير اداة وطنية وتحديثية يمنية تجيء مُصمَّمة على قياس الامة-الدولة. وكان نتاج عملهم انقلاب 1948 الذي اطاح الامام يحيى وصرعه. ولئن اعلن الانقلابيون عن دستور جديد الا انهم تمسكوا ايضاً بالامامة التي وضعوها في عهدة آل الوزير، فيما بدا واضحاً ان حركتهم تستجيب رغبة السيّاد في استعادة نفوذ صادره آل حميد الدين. لقد هزم احمد بن يحيى الانقلابيين بعد شهر على انتصارهم، لكن الاهم ان الحركة المعارضة عادت لتنبعث، مجدداً، من القاهرة بدعم ضباطها الاحرار الذين كانوا قد امسكوا، قبل اعوام ثلاثة، بالسلطة. وجددت محاولة 1955 الانقلابية التعبير عن التورط المصري الذي كُتب له الظفر بعد سبع سنوات حين قضي على الامامة لمصلحة نظام عسكري مرتبط بمصر. وفي الخليج ظهر مبكراً، في الكويت، تيّار يطالب بالحريات يحرّكه هاجس توسيع الدور السياسي لطبقة التجار النامية. الا ان "حركة القوميين العرب" نجحت في الامساك بقيادة هذه الوجهة التي عززها شعبياً الوجود الفلسطيني الكثيف يومها في الكويت. كذلك كان للحركة اياها، ولمتفرّعاتها الماركسية اللاحقة، حضورها القيادي في عُمان والبحرين. فلما اتخذت المعارضة العُمانية شكل كفاح مسلح في جبال ظفار، بدا الأمر التحاقاً بآلة الحكم القائم آنذاك في اليمن الجنوبي ومصالحه. وفي العراق، كما في بلدان عربية اخرى، تصاحب بناء الأمة - الدولة من دون وعي ايديولوجي يطابقها ما خلا في عهد عبدالكريم قاسم مع القمع لا مع الديموقراطية. هكذا كان حال الانقلابين المبكرين لبكر صدقي ثم ل"المربّع المذهبي" الذي تعاطف اعضاؤه مع المانيا النازية. وقد استؤنفت هذه المسيرة في 1958، مع قاسم وعبدالسلام عارف ومن بعدهما البعث. واذا كان العراق عرف احدى المحاولات العربية النادرة لبناء قوة ديموقراطية وتحديثية من ضمن وعي يسلّم بالأمة - الدولة، قصدت "الاهالي" وكامل الجادرجي، فان هذه لم تنجح في التحوّل قوةً جماهيرية تفعل في المتن العريض، ما ابقاها ضعيفة المناعة حيال التعاون مع الحالات الانقلابية والعسكرية. اما سورية فبدورها تمردت، في 1949، على البدايات الديموقراطية التي ارساها الانتداب الفرنسي، لتسودها حركة انقلابية لم تهدأ الا بتوطيد الديكتاتورية العسكرية للبعث. وقد مثّل البلد المذكور حالة قياسية في اضطراب مفهوم الامة - الدولة ورفضه، حتى ان طبقته السياسية التقليدية سريعاً ما اصطبغ اداؤها الديموقراطي بالولاء إما للعراق او لمصر، فيما مزج اكرم الحوراني نشاطه البرلماني باندفاعتين متوازيتين الى الانقلاب العسكري والى الوحدة. وفي الاردن ارتبطت المعارضة الصغرى، كما انفجرت اواخر الخمسينات مع سليمان النابلسي وعلي ابو نوّار، بالانقلاب العسكري، فيما ارتبطت المعارضة الكبرى التي تفجّرت في 1970-1971 بالحرب الاهلية والتجمّعية التي وضعت مسألة الأمة - الدولة نفسها على المحك. وكما في الاردن حيث اريد ترقيق الامة - الدولة وجعلها معبراً ل"تحرير فلسطين"، تكرر الامر نفسه في لبنان على نطاق اوسع. فاذا بسياسي وصفه البعض بالتحديثية ككمال جنبلاط، يتحول عملياً الى اداة لتقويض الموازين التي قامت عليها الامة - الدولة اللبنانية. ورغم الاختلافات التي وسمت تجربته السياسية لم ينج السودان من هذه المفاعيل. فتحطّمت بداياته الديموقراطية مرتين على ايدي العسكر المؤدلج: هكذا تولى هذه العملية في الستينات الضباط الناصريون واليساريون ممن قادهم جعفر نميري، وفي الثمانينات الضباط الاسلاميون بقيادة عمر البشير. وفي هذه الغضون كان معمر القذافي، في ليبيا، قد اطاح الملكية السنوسية ليُحل محلها "جماهيرية" استبدادية تتعارض مع كل ما تواضعت عليه الحداثات السياسية الديموقراطية والجمهورية. وعلى رغم اختلافات عدة في النسق والتجربة، لم تكن مسألة الديموقراطية مُحرّكاً من محرّكات المعارضات التي عرفتها بلدان المغرب: فالمعارضة التونسية لبورقيبة كما قادها صالح بن يوسف كانت فضلا عن تحالفها الوثيق مع مصر عبدالناصر وتموضعها في مناخ الثورة الجزائرية من دون مكوّن ديموقراطي يُذكر. والحال انها مثّلت نوعاً من الارتداد عن الحداثة الى تقليدية الحزب الدستوري القديم الثعالبي معززاً بالتفاف الزيتونيين ومن ماثلهم حول بن يوسف. واما المعارضة الجدية التي واجهها الملك الحسن الثاني في المغرب، ممثلةً بالمهدي بن بركة، فهي الاخرى كانت مهجوسة بنضالية عالمثالثية ابعد ما تجيز وصفها بالديموقراطية الدستورية. وهذا قبل ان يتعرض النظام اياه لتحد من موقع آخر، عسكري هذه المرة، رمز اليه الجنرال اوفقير. وما بين احمد بن صالح وزين العابدين بن علي وحركة "النهضة"، دللت تونس البورقيبية على ان وراثتها معهودٌ بها اما للتنظيم الدولتي والبيروقراطي الذي يتراجع عن الحد الادنى الديموقراطي، او للاصولية التي تطرح على المحك التراجع عن الحداثة برمّتها. واذا صح ان انتصار الثورة الجزائرية كان الذروة الدرامية للحركات الاستقلالية العربية فهو كان، في الوقت نفسه، مدخلاً الى دولة الحزب الواحد والعسكر كما رأيناها مع احمد بن بلا ومن بعده هواري بومدين. وهذا الامتناع الديموقراطي في تاريخ المعارضات العربية ما قد يفسّر دوام وديمومة المعارضات الاهلية، ما بين اكراد العراق وصحراويي المغرب فضلا عن جنوبيي السودان الذين اكتشفوا، ولو بقدر من التفاوت، ان ضعف الديموقراطية لا يمكن ان يديم الامة - الدولة في شكلها الموروث عن العهد الكولونيالي، وان الممكن هو "تجزئتها" والتراجع الى ما يقل عنها او ينكص. وقصارى القول ان المكوّن الابرز في الحركات التي اصطدم بها الغرب، او اصطدمت به، كان ذاك المُخلّ إما بالبدايات الديموقراطية، او بالامم - الدول الناشئة والخريطة الاقليمية التي نجمت عنها، او بالاثنين معاً. والحركة الناصرية، في هذا المعنى، بدت مثالاً نموذجياً: فهي كحركة امبراطورية وصلت لاحقاً الى سورية واليمن، كانت قضت منذ البداية على الاحزاب وعلى محاولة محمد نجيب للانتقال الى حكم مدني، وذاك قبل سنوات على صدامها مع فرنسا وبريطانيا في ما خص قناة السويس، ومن ثم مع الولاياتالمتحدة حول بناء السد العالي. فحين جاءت الوحدة مع سورية بصفتها ذروة الانجاز القومي، جاءت في وجهها الآخر توطيداً لدولة المخابرات برأسها السوري عبدالحميد السراج ورأسيها المصريين عبدالحكيم عامر وزكريا محيي الدين. وهذا لا يعني بالضرورة ان الغرب كان ليتحمّس الى احلال الديموقراطية عندنا، لكنه يعني ان المسألة لم تُطرح في أي من المرات التي سجّلت صداماً مع الغرب ضمن هذه الرقعة الشديدة التباين والاختلاف في جوانب اخرى. فقضايا التحرير والصراع مع اسرائيل وتأميم الثروة وبناء الاشتراكية هي العناوين التي رفعتها معارضاتنا واجهةً لرغبة الانقضاض على ما هو متحقق من ديموقراطية "مستوردة"، او من امة - دولة لا تقل "استيراداً". وقد كانت الثورة الفلسطينية، كاحدى ذرى الاصطدام بالغرب، تعبيراً فصيحاً عن العداء للديموقراطية واشكال التحديث كافة، وهو المسار الذي يمتد من الحاج امين الحسيني الى ياسر عرفات. فاذا صح، في المقابل، ان الديموقراطية اللبنانية كانت الاكمل صنيعاً والادوم زمناً بين مثيلاتها العربية، صح ايضاً ان الغرب لم يكن من قضى عليها. اما اللبنانيون الراديكاليون ممن اعلنوا عن رغبتهم في تحديثها وتصحيحها ديموقراطياً، فسريعاً ما اكتشفوا انهم بالشعار هذا لن يجنوا شيئاً، متجهين الى تذويبه في شعار دعم الثورة الفلسطينية، ومن ثم الالتحاق بسورية. اذن بدل القول إن الغرب هو المسؤول عن التردي الديموقراطي العربي، ينبغي ان نواجه الحقيقة القائلة إن رفضنا موضوعتي الامة - الدولة والديموقراطية هو الذي حكم التاريخ السياسي الحديث لحركاتنا ومجتمعاتنا. وهذا الرفض بقي الى اليوم اقوى مما عداه بين مُحفّزات العمل السياسي. ويتحصّل من هذا، بعيداً عن منطق الضحية حاولنا الديموقراطية فمنعونا...، ضرورة الانتباه الى استحالة توحيد الوعي الديموقراطي والتشكيك بالامة - الدولة مما يُسمى غالباً المسألة الوطنية والقومية. فكيف وان هذه الاخيرة في ظل الطغيان الكاسح للبنى والولاءات الدينية والطائفية والاثنية تنقلب بالضرورة احتراباً مفتوحاً او مقدمة للاستبداد! وهذا هو العطل البنيوي الكبير في زمن ما بعد الوحدتين الالمانية والايطالية، وخصوصاً ما بعد الحرب العالمية الاولى التي شهدت انطلاق الامة - الدولة كونياً. فبعد ذاك التاريخ لم تتحقق وحدات ديموقراطية او غير ديموقراطية الا في السنوات الاخيرة لما بعد الحرب الباردة، وهذه قصة اخرى. وربما قدمت الهند، في المعنى هذا، عبرةً مفيدة للوعي العربي. فهي، رغم وقوفها مع السوفيات في الحرب الباردة، لم يتآمر الغرب على ديموقراطيتها بل عمل على تعزيزها. ذاك ان الامة - الدولة فيها بدت عرضة للانتقاص انطلاقا من مقدمات دينية على ما دلت تجربة باكستان ونشأتها. وهكذا نجحت الهند في ان ترفع راية الامة - الدولة والدفاع عنها في ظل نظام هو، في آن معاً، ديموقراطي ومُعلمن. وهذه المحمولات الثلاثة للحداثة الأمة - الدولة والديموقراطية والعلمانية هي ما لم نتوقف عندها الا عداءً تبعاً لمعاداتنا مصدرها الاستعماري. وقد مكثنا بالتالي، وفي احسن الحالات، نبحث عما يجمع هذه القيم بتراثنا او ما الذي يبررها انطلاقا من هذا التراث: فالديموقراطية تُقاس بالشورى، والأمة - الدولة تغدو "دولة قطرية"، فيما لا تستحق العلمنة البحث عن اي مسوّغ تخفيفي. وهذا جميعاً ما يفسّر كيف ان الاصرار المستحيل على المسألة الوطنية والقومية، على تعدد صيغها في كل منطقة من المناطق، هو ما جعل الانجاز الديموقراطي في المنطقة العربية مهمةً مطروحة على اجندات اقلية او برانية او، احياناً، استيطانية. اما كتل الصلب الأكثري فكانت مساهمتها الابرز توكيدها على ان الغرب منعنا من الديموقراطية! وهذا اذا ما كان هرطقة في الايام الخوالي فقد غدا، بعد انتهاء الحرب الباردة، هذياناً محضاً.