في 13 ايلول سبتمبر 1993، كان محمود عباس ابو مازن ورئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين يوقعان اتفاقية اوسلو في العاصمة الاميركية واشنطن، في حضور الرئيس الاميركي بيل كلينتون والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ووزير الخارجية آنذاك واليوم ايضاً شمعون بيريز وآخرين. وقبل يومين من حلول الذكرى الثامنة لهذه المناسبة التي احيت املا لدى اطراف كثر بأن من الممكن التوصل الى حل سلمي للقضية الفلسطينية، كان حدث 11 أيلول 2001 الرهيب، وتحت حطام برجي مركز التجارة العالمي دفنت اشياء كثيرة، كان من بينها اتفاق اوسلو. وفي واقع الامر فإن اتفاق اوسلو لم يكن يحتاج الى عملية بحجم انفجارات ايلول لتقضي عليه. فقبل ان تحل الذكرى الثامنة له بكثير كان الاتفاق قد تلقى ضربات كثيرة وقوية ومركزة شاركت فيها اطراف فلسطينية واخرى عربية، ولكنني أرى ان اكثر الضربات تأثيراً وُجهت اليه من اطراف اسرائيلية. وهي التي قضت عليه وجعلته جسداً مثخناً بالجراح قبل ان تأتي انفجارات ايلول. فمعروفة تماماً حقيقة ان اطرافا عربية واقليمية لم تكن موافقة على اتفاق اوسلو، وان اطرافا فلسطينية عدة اعلنت رفضها له منذ توقيعه، وعلى رأسها منظمتا حماس والجهاد الاسلامي في الداخل، وعدد آخر من التنظيمات الفلسطينية في الخارج، وان هذه الاطراف عملت بدرجات متفاوتة من التصميم على افشال الاتفاق، خاصة من خلال التفجيرات التي قامت بها حماس والجهاد داخل اسرائيل في 1996. لكن علينا ان نتذكر ان اعاقة تنفيذ الاتفاق بدأت حتى في عهد اسحق رابين نفسه، موقّع الاتفاق والقائد الذي راهن عليه بحياته السياسية فخسر حياته الحقيقية. فقد كان رابين اول من ماطل في تنفيذ بعض بنوده تحت ذريعة ذهبية استخدمها في ما بعد اليمين واليسار الاسرائيليين ابشع استغلال، وهي انه "ليست هناك مواعيد مقدسة". والمواعيد غير المقدسة المعنية هنا هي تواريخ انسحاب القوات الاسرائيلية من الاراضي الفلسطينية المحتلة. وكانت الخطوة الاولى التي خطاها اليمين الاسرائيلي في اتجاه اسقاط اوسلو قبل ان تتعزز مسيرة سلام رأوها دماراً لاسرائيل بأكلمها هي قتل رابين. فرابين في النهاية احد "ابطال" قيام اسرائيل، اما شمعون بيريز، فهو مهما بلغ من الدهاء، سياسي خاسر، لم يدخل معركة الا خسرها، فضلا عن انه لم يأت من المؤسسة العسكرية. ورغم مماطلته في تنفيذ بعض بنود الاتفاق فإن رابين كان قبل مقتله قد نفذ عددا من البنود الرئيسية من الاتفاق، اهمها انسحاب القوات الاسرائيلية من نحو 42 في المئة من الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وعادت القيادة الفلسطينية الى الداخل، وتوقفت عملية ابعاد الفلسطينيين عن ارضهم، وتحولت وجهة الهجرة لاول مرة منذ الاحتلال الى غربي نهار الاردن وليس الى الشرق، وبدأت نُوى مؤسسات لدولة فلسطينية قريبة بالتبلور. هكذا كانت الضربة مقدمة لعدد من الضربات التي وجهها اليمين الى خصومه غير الحاسمين في حزب العمل، وكان الهدف الثاني لهم اسقاط شمعون بيريز في انتخابات 1996. وليس صحيحاً ان فشله كان بسبب تفجيرات حماس في القدس وعسقلان فقط، اذ كانت هناك ايضاً الضربة الكبرى التي وجهت لبيريز من الوسط العربي في اسرائيل. فحرمانه اصوات العرب هناك جاء عقابا على ارتكابه مجرزة قانا في جنوبلبنان قبل شهرين، وكان من شأن هذه الاوساط ان تضمن له النجاح. ومع نتانياهو تغير الوضع تماماً، فهو ضد الاتفاق اساساً، لكنه لا يستطيع ان يقول ذلك علنا لأن الاتفاق تم برعاية اميركية نشطة وإن غير مباشرة. لكن اميركا لم تكن اقل مسؤولية، تبعا لحياديتها تجاه عبث اليمين الاسرائيلي بخطتها الخاصة للسلام، وللاستنكاف عن الضغط على اسرائيل، وهو ما تحول في النهاية الى انحياز سافر لوجهة نظرها. ومنذ نتانياهو بدأت اللغة المزدوجة. وكان على الفلسطينيين ان يقوموا بانتفاضة يشارك فيها رجال الشرطة في 1996 لكي ينفذ نتانياهو ما كان الفلسطينيون والاسرائيليون قد اتفقوا عليه. هكذا تم آخر انسحاب للقوات الاسرائيلية من جزء من مدينة الخليل في 1997. وكان هذا آخر اتفاق ينفذه نتانياهو، بما في ذلك اتفاق "واي بلانتيشن" الذي وقعه هو نفسه عام 1998. وحين جاء باراك في 1999، بدأ يمارس لعبة المسارات المتعددة، وغازل السوريين قبل ان يعود الى التفاوض مع الفلسطينيين. وكان اول ما فعله رفض تنفيذ الاتفاقات التي كان وقعها حزبه، ناهيك عن التي وقعها نتانياهو، حتى انه رفض تسليم اراضي ثلاث قرى فلسطينية قريبة من القدس، وخلق انطباعا عن مدى جديته في التفاوض. وكان في ذلك يخطو خطوة الى الوراء مقارنة بنتانياهو الذي كان قد اضطر هو الذي لا يؤمن باوسلو اساساً، ان ينسحب من جزء من الخليل. وبغض النظر عن حقيقة ان باراك عاد الى التفاوض في كامب ديفيد وطابا عام 2000، فإنه برفضه تسليم ارض للفلسطينيين كان يجب ان تعود لهم بموجب اوسلو، غير قواعد اللعبة. فهو نحّى اوسلو جانبا وبدأ يفاوض على اساس التوصل الى حل نهائي دفعة واحدة في كامب ديفيد، ومنذ تلك اللحظة بدأ اتفاق اوسلو يدخل مرحلة الاحتضار. واذا كان من الصحيح ان باراك قدم عرضا "سخيا" الا انه ظل قاصراً، فضلا عما يكشفه بذاته من وجود ثغرات في مفاوضات كامب ديفيد. واخيرا جاء ارييل شارون الذي لا يعادي اوسلو فقط بل عملية السلام من اساسها، وكان برنامجه تدمير العملية برمتها. صحيح ان عمليات التفجير التي قامت بها حماس والجهاد وغيرها لعبت دوراً في منح الذريعة للتملص من تنفيذ الاتفاق وتصوير الفلسطينيين كأنهم هم الذين يرفضون السلام. لكن هذه العوامل كانت ثانوية. فالاساس في وصول الاتفاق الى الطريق المسدود هو الموقف الاسرائيلي اولا، والاميركي ثانيا. فقد بلغت نسبة التأييد الشعبي الفلسطيني لأوسلو في مطلع 1996 نحو 80 في المئة. وتزامن ذلك مع انخفاض في نسبة التأييد للعنف بين الفلسطينيين الى 20 في المئة. وحتى 2001، وباستثناء 1996 الذي شهد انتفاضة "نفق الاقصى"، فإن نسبة التأييد لم تهبط الى اكثر من 60 في المئة، ولكن منذ ذلك العام لم تتوقف نسبة المنادين بالعنف بين الفلسطينيين عن الارتفاع. وما ان اندلعت الانتفاضة في اواخر ايلول من العام المذكور، وهي جاءت على خلفية احباط من تحقيق اي شيء من خلال اوسلو، حتى راحت تتعاظم نسب المؤيدين للعنف. فتأييد العنف لم يكن حبا به بل يأسا من عملية سلام بقيت طوال سنوات عرضة لعبث الاسرائيليين. ومع انفجارات نيويورك، دفن الاتفاق تحت انقاض مركز التجارة العالمي، وبقي مدفونا هناك حتى جاءت تصريحات شارون اعلاناً رسمياً عن وفاة الاتفاق التعس، حتى من دون ترتيب جنازة بائسة لدفنه.