قمة مجموعة العشرين تنطلق نحو تدشين تحالف عالمي لمكافحة الفقر والجوع    القيادة تهنئ ملك المغرب بذكرى استقلال بلاده    النسخة الصينية من موسوعة "سعوديبيديا" في بكين    45.1% من سكان المملكة يعانون من زيادة الوزن    سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الاحتلال يعيد فصول النازية في غزة    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع سفير الصين    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    5 أعراض لفطريات الأظافر    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    لغز البيتكوين!    الله عليه أخضر عنيد    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    أهم باب للسعادة والتوفيق    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعقيباً على مقابلته في "الحياة" . قراءة فلسطينية في افكار شمعون بيريز ومواقفه
نشر في الحياة يوم 27 - 04 - 2000

أكدت المقابلة التي أجراها باتريك سيل مع رئيس الوزراء السابق وزير التنمية الإقليمية الإسرائيلي شمعون بيريز الحياة 29/3/2000 مرة أخرى سبب تفضيل التعامل مع أفكار ومواجهة مواقف وسياسات اليمين الإسرائيلي على الاستماع الى الفائض الأخلاقي عند "ىساره". فمواقف اليمين واضحة، وهي تتراوح بين كولونيالية وعداوة قومية وكراهية دينية. وأما "اليسار" وشيخه" فموهبته تنعكس في كيفية اضفاء الإهانة على الجرح، والإهانة والعجرفة تجاه الضحية. والاستعلاء الحضاري على العرب هي في نهاية المطاف تتوج التوجه الأكثر خبثاً والأكثر ايلاماً. والأخطر من الخسارة العسكرية ومن الاحتلال هو احتلال التاريخ والذاكرة وكتابة تاريخ بديل هو تاريخ الجلاد. وهو في كل مرة يستشعر الحقائق التاريخية، فإنه يقترب منها ليناقضها. وعوضاً عن أن يقول خلقنا المأساة الفلسطينية يقول "خلقنا الشعب الفلسطيني"، وبدلاً من أن يقول معتادون نحن على القوة العسكرية التي تربينا عليها يقول "لسنا مسحورين" بالقوة العسكرية، وعندما يقول "ليس هنالك بلد فعل ما تفعله إسرائيل"، وهذا صحيح، إلا أن بيريز يقصد أفعالها الخيرية تجاه العرب و"أعطاءهم" أراضي، وليس اعلان الحرب عليهم وتهجير مئات الآلاف منهم.. الخ.
وقبل مراجعة الأفكار العنصرية والمغالطات المقصودة في كلام بيريز، لا بد من وقفة عند مقدمة المقابلة التي تقول من دون تحفظ أن بيريز كان "أول زعيم اسرائيلي يدرك حدود القوة العسكرية" وهو الذي "كافح طيلة حياته السياسية لتسوية مع العرب تقوم على الحوار والتنازلات المتبادلة والانسحاب من الأراضي المحتلة".
في الواقع، كان بيريز لسنوات طويلة، من الخمسينات الى الثمانينات، من أكثر القيادات العمالية الإسرائيلية تطرفاً. وكونه شغل منصب المساعد الأول لمؤسس الدولة ديفيد بن غوريون وهو أحد أهم اتباعه في تلك الحقبة، كان يؤيد بيريز التوجه القائل بأن حدود إسرائيل بعد حرب 48 لم تكن نهائية بالنسبة لإسرائيل.
وكان بيريز من المؤيدين لخوض الاعتداء على مصر سنة 56 ومن الذين حرضوا على حرب 67 كما اعترف موشى دايان، وهي الحرب التي اخافت العديد من القيادات العسكرية والمدنية التي عارضتها. والأهم من ذلك أنه بعد حرب 67 دعم بيريز، على حد ما جاء في مذكرات رابين وفي عدد من الدراسات عن تلك الفترة، الاستيطان اينما يريدون بدعم من المؤسسة العسكرية. وكان رئيس الوزراء رابين في حينها يعتبر أن مواقف بيريز الشعبوية والمتطرفة تقود الإسرائيليين تجاه اليمين وتزيد من قوة الأصوليين الذين قادوا حملة الاستيطان الأولى، وعلى ما يبدو كان على حق.
وقاد بيريز ورفيقه موشى دايان، اللذان تتلمذا سوية على يد بن غوريون، قادا داخل المؤسسة الحاكمة أكثر المواقف تطرفاً في التعامل مع العرب والفلسطينيين.
وفي قضايا أخرى مثل موضوع لبنان، كما جاء في كتاب افرايم انبار عن رابين والذي تطرق في شكل موسع الى علاقات بيريز برابين، فإن وزير الدفاع بيريز كان وراء التصعيد العسكري في لبنان في أواسط السبعينات، وأنه كان على رابين لجمه في كل مرة، وكان عليه محاولة التوصل الى حلول سلمية للأزمات مع لبنان وسورية من دون الاقتراب من المواجهة العسكرية التي ايدها بيريز.
وفي الثمانينات حين كان بيريز يتذمر من عدم وجود تحرك عربي نحو السلام مثل ذلك الموجود عند "الشعب اليهودي"، هذا على رغم أن إسرائيل رفضت عرض عرفات الدخول في مفاوضات مع منظمة التحرير التي وافقت قبل ذلك بسنوات على قرار 242، الا هذا لم يمنع بيريز من أن يدعّي أنه لا يمكن التفاوض مع منظمة التحرير لأن إسرائيل ترفض التفاوض وليس العكس. وكان أن أخذ بيريز ما عرض عليه من الفلسطينيين في أوسلو بعيداً عن واشنطن لكي لا يظهر وكأن هنالك مؤامرة إسرائيلية أميركية على الفلسطينيين هذا في الوقت الذي كان الوفد الفلسطيني في واشنطن يرفض كل العروض المماثلة لتلك التي قبلت بها القيادة الفلسطينية في أوسلو. وهنالك متابعة وافية لمواقف بيريز ترجمها البروفسور الإسرائيلي يسرائيل شاحاك في تقاريره عبر السنوات لا يسعنا مراجعتها كلها.
وكان أن ظهر بيريز على التلفزيون الإسرائيلي ليلة اتفاق أوسلو ليقول للإسرائيليين: "هنالك تغيير فيهم وليس فينا. نحن لا نفاوض مع منظمة التحرير ولكن مع شبح ما كانت عليه في الماضي". بكلمات أخرى استمر بيريز في التأكيد على أنه يرفض السعي الى سلام حقيقي، وهو ما قاله في مناسبات أخرى من على منبر الكنيست حين أصر على أن إسرائيل لن تفاوض مع منظمة التحرير ما دامت تمثل تطلعات الشعب الفلسطيني لدولة مستقلة. وهو الأمر الذي دفعه طيلة فترة السبعينات والثمانينات أن يدعم "الخيار الأردني" الذي كان يستثني دولة فلسطينية أو المصالحة التاريخية مع الشعب الفلسطيني.
الى هالة الفشل التي أحاطت ببيريز، فهنالك ادعاءات كثيرة عن الكذب والطعن بالظهر التي علقت به كسياسي "فصلي" كان يغير جلده ومواقفه بما تتطلبه مصالحه الخاصة. وبيريز وافق على دعم المفاوضات مع العرب فقط بعد أن اصبحت هذه جزء من الاستراتيجية الأميركية بعد حرب الخليج، وبعد أن انتقل بيريز أيديولوجياً وسياسياً من كونه رجل أوروبا في حزب العمل الى كونه رجل أميركا، وتوج انتقاله هذا باتمام عملية خصخصة الاقتصاد الإسرائيلي على الطريقة الأميركية، التي كان بدأها الليكود في نهاية السبعينات. وهو عملياً وافق على الاندماج في جبهة الرفض الأميركية - الإسرائيلية التي تجاهلت قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية في ما يتعلق بمؤتمر جنيف الرابع وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في دولة مستقلة وذات سيادة، وقبل بالمفاوضات مع القيادة الفلسطينية والاعتراف بمنظمة التحرير فقط بعد ان قبلت باتفاق جائر، وهو أقل ما يمكن أن يقال فيه.
وكما سنرى لاحقاً فإن تاريخ بيريز حافل بالمواقف المتطرفة والدموية، وهو حتى يوم اجراء المقابلة لم يعتبر أن اسرائيل تغيرت أو غيرت من مواقفها في أوسلو، وانما منظمة التحرير هي التي لم تعد ما كانت وأصبحت "شبحاً" على حد كلامه، وأن العرب اخذوا يستوعبون درس الخسارة العسكرية التي انزلتها بهم إسرائيل وسيتقبلون عاجلاً أم آجلاً هيمنة إسرائيل الاقتصادية والتكنولوجية اضافة الى تفوقها العسكري.
الحمقى وما بعد السلام
في اجابته على اسئلة سيل، يرد بيريز على الاتهامات العربية التي وجهت اليه حول قيادته للتيار الإسرائيلي الذي يبحث عن الهمينة على العالم العربي من خلال الاقتصاد والتكنولوجيا شرق أوسطه الجديد، ويقول الوزير الإسرائيلي: "لا تكونوا حمقى أيها السادة! من يريد السيطرة على فقركم؟ هل جننتم؟ أننا بالكاد نسيطر على ما لدينا من فقر".
هذا هو نوع الإجابات التي يصدم منها المرء كونها والوهلة الأولى تعبر عن قناعة وبراغماتية وعن فلسفة تتماشى مع روح العصر. إلا أنه في العالم الحقيقي ومن بديهيات السياسة والتاريخ أن الدول الغنية اقتصادياً وقوية عسكرياً قامت على مر العصور بالسيطرة العسكرية أو الهيمنة الاقتصادية على بلدان فقيرة وضعيفة، وهي حال عالم اليوم كذلك، أن كان ذلك في اعادة ترتيب الأمبراطورية الروسية أو في سياسة اليابان الآسيوية أو توجهات المانيا الأوروبية الشرقية، أو حتى السياسة الأميركية في مناطق مختلفة من العالم بما في ذلك اميركا الوسطى والجنوبية. إن إسرائيل معنية بالهيمنة وبشرق أوسط جديد يساعدها على تثبيت انجازاتها العسكرية. وإلا ما كان معنى الاستثمارات الإسرائيلية في الأردن اليوم وفي الضفة الغربية حيث يبحث بيريز عن مشاريع مشتركة مع الفلسطينيين يسيل لها لعاب الشركات الإسرائيلية، وما كان معنى الحديث عن الدماغ الإسرائيلي والنفط العربي وأيدي عاملة عربية رخيصة؟
نعم، الاقتصادات العربية اليوم ليست بالحجم المطلوب ولا بالشفافية والانتاجية والمحاسبة في حدها الأدنى، ولا بالامكانات اللازمة لنهضة وطنية، لكنها وبالذات لأنها كذلك فإنها مطلوبة وجذابة للمؤسسة الاقتصادية والسياسية الإسرائيلية التي تبحث عن طرق هيمنة لا تخضع لإرادة الشعوب أو لحسابات برجوازيات وطنية مثمرة، وهذا من بديهيات العصر والاقتصاد. ولكن ذلك لا يمنع بيريز من الحديث بلهجة المحاضر الشاطر. وهو حين يتحدث عن بديهيات العولمة، الصحيح منها والحاضع للنقاش بينها، فإنه يلجأ الى شعارات رنانة وسطحية وأدوات خطابية مللنا الحديث فيها والدول العربية تبحث عن أجوبة واقعية ومحلية لها.
وكان على بيريز قبل أن يتفلسف أن يراجع قرارات القمم العربية المختلفة وخصوصاً قمة 1981 ليرى بعينه الأفكار العربية لخلق سوق عربية مشتركة ولفتح الحدود الخ، وهي قرارات أكلها الغبار على رفوف مكاتب الجامعة العربية، ليس لأن الشعوب العربية لا تتوق الى مثل هذا الانفتاح على الآخر أو لا تعرف أهميته، وانما لأسباب كثيرة، أهمها العدوان الإسرائيلي على العرب واستنفاذ قواهم، لم تنفذ الدول العربية هذه القرارات. وبيريز كما ادعى في كتابه حول شرق أوسط جديد، فإن إسرائيل معنية ليس بسوق عربية مشتركة، وانما بشرق أوسط جديد يؤسس على حطام السابق تكون فيه إسرائيل النواة الصلبة للعلاقات الاقتصادية الشرق أوسطية، لكي تكون العلاقات الثنائية الإسرائيلية مع الدول العربية، ولربما بشراكة اما مصر أو سورية كشريك جونيور لإسرائيل في المنطقة، هي التي تقرر طبيعة التطور الاقتصادي في المنطقة، أي علاقة اعتماد من ناحية على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة من خلالها.
إسرائيل التي انفردت بالأرض وبالتفوق العسكري والعلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة تبحث اليوم عن "مشاركة" مع المحيط العربي تكرس هذا الانفراد وتحميه وتشترط الانفراد في الهيمنة وفي كونها محرك التغيير والتطوير الاقتصادي في المنطقة. فقط بهذه الشروط تستعد إسرائيل - بيريز لشرق أوسط جديد.
السلاح النووي
في الموضوع النووي يقول بيريز: "صنعت الخيار النووي لأصل الى أوسلو" ومن ديمونا الى أوسلو أخذ 40 عاماً ليصل. ومرة أخرى فإن الخفة في التعامل مع التاريخ وبديهيات الأمور تزيد على الجريمة اهانة. وكان ان اتفق غالبية العسكريين المهمين في تلك الفترة التي طور فيها بيريز الخيار النووي، من أمثال ايغال الون واسحق رابين ولاحقاً في سنة 1962 دعمهم بن غوريون، اتفق هؤلاء على أنه لا حاجة للخيار النووي لأن إسرائيل كانت قادرة على مواجهة التحديات العسكرية بالأسلحة التقليدية، وكان لا بد لها من تطوير هذا الخيار التقليدي اذا ما رغبت في الإبقاء على تفوقها.
واعتبر هؤلاء، وبحق، أنه ليس هناك خيار نووي حقيقي في المنطقة الا اذا كان القصد منه تدمير الشرق الأوسط بكامله. وجاء بعدها رئيس الوزراء ليفي اشكول واقترح المعادلة الشهرية أن إسرائيل ليست دولة نووية ولن تكون أول دولة تدخل الأسلحة النووية للشرق الأوسط على خلاف مقترحات بيريز الذي اراد الاعلان عن السلاح النووي الإسرائيلي تحدياً للعرب والاتحاد السوفياتي. واستطاع بيريز باصراره على الخيار النووي وبمساعدة علاقته الوطيدة بفرنسا التي تواطأت مع إسرائيل بصورة شبه مجانية، وفي ظل تخادل حزب العمل قبل سنة 67، استطاع أن يوصل البرنامج النووي الى وضع استطاعت فيه إسرائيل تطوير اسلحة الدمار الشامل هذه، ورهنت المنطقة بأكملها وتركتها عرضة لاستعمال السلاح النووي في فترة الحرب الباردة. وهو الأمر الذي لم يقلل من التصعيد العسكري في المنطقة وانما زاده عنفواناً كما شاهدنا قبل حرب 1973 وبعدها واحتمال حدوث "شرنوبيل إسرائيلي" في ديمونا وارد إذا لم يخضع لمراقبة المفتشين الدوليين.
نقول هذا ونحن على علم وثقة إنه في نهاية المطاف فشل الخيار النووي فشلاً ذريعاً في الامتحان العسكري والأمني الاستراتيجي. فلا هو ساعد إسرائيل في الحروب التي خاضتها، ولم تكن له استعمالات في المعارك والمواجهات، أن كان ذلك في الانتفاضة أو جنوب لبنان. وعملياً تحول الخيار النووي الى عبء على إسرائيل وعلى المنطقة، وهو ما زال يهدد الشرق الأوسط وينذر بالعودة الى تطوير أسلحة الدمار الشامل. أما الذي أوصلنا عملياً الى أوسلو والى مفاوضات السلام كان تفوق إسرائيل العسكري التقليدي ودعم أميركا لها. وهذا كان ممكناً فقط بعد الاعتماد على العلاقات الاستراتيجية على الولايات المتحدة بدلاً من فرنسا، الأمر الذي عارضه بيريز منذ البداية.لم يردع تفوق إسرائيل العسكري ولا تفوقها النووي الفلسطينيين أو اللبنانيين من خوض معاركهم ضد إسرائيل في الانتفاضة وفي الجنوب وانزال الخسائر العسكرية بها، يعني فشل الخيار العسكري الذي مارسه بيريز كل حياته السياسية.
وأفضل مثال على عجز القوة النووية، وانتقاص الخيار العسكري بعد حرب 73 عند بيريز انذاك حين خسرت إسرائيل - بيريز معركتها أمام حزب الله ولبنان سنة 1996 من دون أن تخسر جندياً. هذه أول معركة في التاريخ خسرت من دون خسارة جنود. وعملياً وإلى أن تنحى بيريز من الحكم بعد هزيمته الانتخابية كان يعتبر أن خيار القوة العسكرية هو الخيار الأول لإسرائيل، كما كان الأمر في مجزرة قانا وفي اغتيال "المهندس عياش" في قطاع غزة بعد التوصل الى اتفاق أوسلو، وهو الذي فجر بحماقته سلسلة من العمليات الانتحارية لحركة حماس عشية الانتخابات.
الا أن الإرهاب الذي قامت به حكومة بيريز في لبنان جاء من منطلقات غير انانية هكذا ولمجرد أن يتخلص الشعب اللبناني من أعباء حزب الله، تماماً كما أن اجتياح سنة 1982 جاء ليخصلها من منظمة التحرير الفلسطينية. إسرائيل تخوض الحروب ضد حماس وحزب الله وايران وغيرهم دفاعاً عن الشعوب العربية وكمساعدة لأنظمتها التي تحارب الأصولية. هذه هي الادعاءات الأخلاقية التي أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها تافهة وكاذبة، هي التي يقدمها بيريز ليبرر المجازر والحروب والارهاب الذي قامت وتقوم به إسرائيل. الا أن ذلك كله لم يردعه من الوقوف الى جانب رونالد ريغان سنة 1985 ليدين الارهاب وأيدي إسرائيل ما زالت ملطخة بدماء ضحايا الارهاب الإسرائيلي في فلسطين ولبنان.
ومن ثم يتساءل بيريز لماذا يرد العرب بهذه الطريقة على "التضحيات" الإسرائيلية من أجل "السلام" وضد "التطرف"، لماذا ادانوا الاعتداء على لبنان وعلى منشآته وأضروا بفرص الاستفتاء حين اغضبوا الإسرائيليين باتهامها بالفاشية!.. هكذا لا يرى بيريز كيف أن إسرائيل في ارهابها وفي ضرباتها المستمرة على المنشآت المدنية وعلى المدنيين تدمر فرص السلام والمصالحة التاريخية. بيريز لا يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة لأنه عزل نفسه سياسياً وأخلاقياً في خانة التضحيات الإسرائيلية للسلام وبرر لإسرائيل قتل العرب لمصحلتهم. وكما قالت غولدا مئير لن أغفر للعرب انهم اجبروا الشباب الإسرائيلي أن يقتل!
ولكن بيريز يصر أن الإسرائيليين ليسوا "مسحورين بالقوة العسكرية.. هذه لم تكن من بين صفاتنا، نريد التفوق علمياً وأخلاقياً وروحياً... إذا اضطررنا للتعامل بالقوة سنفعل"...".
مرة أخرى استهتار بالحقيقة. وعلى ما يبدو أنه يعتبر القراء من الحمقى فعلاً والا كيف يقول لهم "لسنا مسحورين بالقوة" وكل الأسس التي بنت الصهيونية عليها دولة إسرائيل كانت القوة والقوة العسكرية في لبها وفي مظهرها. وكا أن غيّر الاسرائيليون اسماءهم مع وصولهم الى فلسطين لتكون لها دلالات القوة، بطلب من بن غوريون: كوهين الكاهن أصبح كيدان السهم، وليفي عضو في الكهنوت أصبح في كثير من الأحيان لافي الأسد. ويحدثنا عالم الاجتماع الإسرائيلي بنيامين بيت - هلا حمى في كتابه "الخطايا الأصلية" أن الإسرائيليين اعتبروا اليهودي الأخلاقي أو المبدئى ضعيف وبنوتى Sissy ولقبوه ب "الصابون" وهو لقب يسخر من ضحايا الهلوكوست، لأنهم تعرضوا للمحرقة من دون أن يقاوموا.
وأهم صفات الإسرائيلي هي تلك المناقضة للمهجر أو الشتات اذ يعتبر الاسرائيلي أن اليهودي كان "ضعيفاً" ومستضعفاً و"جباناً". وأما إسرائيل فهي عبارة عن احتفالية القوة والتفوق والهيمنة في فلسطين حيث الوطن الإسرائيلي القوي وحيث شبابه من حاملي الأسماء بيليد الفولاذ وسيلع الصخرة وطبعاً شامير الصخرة أيضاً الخ، هؤلاء يضربون النساء والأطفال ويعتدون على العائلات ويقومون بالمجازر والتهجير والتفجير والإرهاب.
واعتبر بن غوريون، الزعيم الروحي لبيريز، أن الجيش الإسرائيلي "هو القوة المثقفة"، و"مؤسس الوطن"، وهو الذي يترعرع على يديه "قادة الأمة"، وهو "الأداة الثقافية" أو الحضارية "لجمع الشتات، و... توحيدهم ولرفع معنوياتهم الروحية". هذا هو الجيش الذي أسسته إسرائيل، أو بالأحرى الذي أسس إسرائيل. وكان بن غوريون، وهو الذي يعرف حقيقة مدى سحر القوة في هذه الدولة، كتب نصاً طويلاً في مذكراته عن دور الجيش في المجتمع وحول أهميته في صقل الهوية الإسرائيلية. وفي كتاب الإسرائيليين الأوائل - 1949"، هنالك أدلة ووثائق كثيرة حول أهمية القوة العسكرية في بناء الدولة الإسرائيلية.
ويفتخر الإسرائيليون أكثر ما يفتخروا به هو الوقاحة حوتسباه الجيش المعجزة الذي نال إعجاب العالم أجمع. ويعتبر الإسرائيليون أن الوقاحة هي أمر يستحق الافتخار به، وهو وقاحة القوة التي سترد لليهود عزتهم وكرامتهم بعد أن عانوا في المنفى. ولكن النتائج ليست كلها إيجابية للإسرائيليين المسحورين بمنطق القوة... والملعونين بها التي اخترقت النسيج الاجتماعي الإسرائيلي وأدت الى ما أشارت إليه آخر الإحصاءات من ارتفاع في عدد النساء اللواتي يعتدى عليهن في البيوت والذي وصل الى 200 ألف امرأة سنوياً، والأطفال الى 60 ألفاً. ووصل عدد حوادث السيارات في إسرائيل، التي تتمتع بشبكة طرق عصرية، الى أعلى نسبة في العالم لأسباب عديدة أهمها أن الإسرائيليين يقودون سياراتهم مثل الدبابات بالطريقة الهجومية نفسها وبالتواتر ذاته.
ويضيف: "أجبرونا على إنشاء جيش أقوى بكثير مما كنا نحلم به". وهذا التصريح ليس إلا صدى لتصريح آخر لغولدا مائير يماثله بالعنصرية تقول فيه "الشيخة" إنها لن تغفر للعرب كونهم أجبروا الشباب اليهودي أن يقتل...!
ولكن بيريز الذي أسس القوة النووية لإسرائيل، هو أول من دعم وخطط لفكرة عسكرة الاقتصاد الإسرائيلي من دون مبررات أمنية مقنعة، وفي الوقت الذي عارض العديد من الإسرائيليين فكرة الإنتاج العسكري المحلي لأسلحة يمكن شراؤها من الحلفاء وبتكلفة أقل. إلا أن بيريز اعتبر أن الإنتاج المحلي إيجابي للاقتصاد وللأمن ويساعد على تصنيع الاقتصاد، في حين اعتبره آخرون من أمثال رابين على أنه مكلف للاقتصاد وغير حيوي للأمن، كما ثبت في حربي 67 و73 حين استطاعت إسرائيل أن تواجه الجيوش العربية بأسلحة مستوردة.
وعملياً، فإن الإنتاج المحلي دفع إسرائيل بمنطق السوق أن تصدر أسلحتها لدول العالم الثالث ولأنظمتها الأكثر دموية. وكان هذا التوجه ضمن العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في ظل الحرب الباردة، وليس الصراع المباشر مع العرب، هو الذي زاد بدوره من عسكرة المجتمع ومن تسليح الجيش ومن زيادة نفوذ المؤسسة العسكرية في المجتمع الإسرائيلي، على رغم أنه، وكما قلنا، فإن الأسلحة التقليدية المستوردة هي التي حسمت معارك إسرائيل، ولم تلعب الأسلحة النووية أو المصنعة محلياً دوراً مهماً على هذا الصعيد، وإنما أدت الى عسكرة مجتمع وسوق وصادرات واقتصاد إسرائيل عموماً. ووصلت المصروفات العسكرية في فترة خدمة بيريز كوزير للدفاع الى أعلى نسبة شهدتها إسرائيل قياساً للناتج المحلي والقومي ونسبة للموازنة العامة، أو أكثر من الثلث. بكلمات أخرى فإن إنشاء جيش قوي جاء نتيجة سياسة إسرائيلية تبحث عن التفوق والهيمنة وخدمة المصالح الأميركية أكثر منه بسبب التسلح العربي الذي لا يصل الى مستوى تسلح إسرائيل بكل المقاييس.
ولكن بيريز يدّعي أن "سورية" هي التي دفعت إسرائيل الى "تطوير اقتصاد يقوم على التكنولوجيا المتقدمة" عن طريق قيادتها "مقاطعة إسرائيل". هذا ببساطة ليس صحيحاً. ولكن هنالك توجهاً سياسياً إسرائيلياً يحاول أن يؤكد مرة تلو الأخرى أن أساليب المواجهة العربية أدت دائماً إلى النتيجة المعاكسة لأهدافها، وهذا ما حدث كما يدعون، حين عارض الفلسطينيون قيام التقسيم فقامت إسرائيل على أراض أوسع بكثير من تلك التي منحها قرار التقسيم، وفي كل مرة واجه العرب إسرائيل عسكرياً خسروا أكثر، وها هو بيريز يقول إنه حتى المقاطعة العنيدة أدت الى نتيجة معاكسة للأهداف السورية.
أما الذي أوصل إسرائيل الى بناء اقتصاد مبني على تكنولوجيا متطورة فهو علاقاتها بالولايات المتحدة وتطويرها اقتصاداً عسكرياً مدعوماً من الغرب، وحصولها على تكنولوجيا وموازنات بحث وتطوير من واشنطن وصلت الى مئات ملايين الدولارات سنوياً. وإسرائيل التي كان اقتصادها في نهاية الأربعينات مؤسساً على الزراعة التي شكلت أكثر من 90 في المئة من ناتجها القومي، فإن اندفاعها نحو التصنيع بدأ قبل حرب 67، بل وعملياً كان هذا التصنيع في نهاية الخمسينات وبداية الستينات وخصوصاً في ظل حكومة أشكول، هو من الأسباب الاقتصادية التي أدت الى هذه الحرب، كما يؤكد عدد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع الإسرائيليين الجدد من أمثال غرشون شافير، وشلومو شوارسكي، ويوآف بيليد، وأوري رام...الخ.
ومع انتصار إسرائيل العسكري الساحق في "حرب الأيام الستة"، أخذت الولايات المتحدة تستثمر أكثر فأكثر في حليفتها الجديدة بحسب عقيدة نيكسون التي دعت الى مساعدة وتقوية الحلفاء لمساعدة أنفسهم ولحماية المصالح الأميركية من دون تورط مباشر للقوات الأميركية.
ويتابع: "ليس هنالك بلد في التاريخ فعل ما تفعله إسرائيل فقد أعطينا كل الأراضي الى مصر... الطرف الوحيد الذي خلق الشعب الفلسطيني والدولة الفلسطينية هو نحن".
إن إسرائيل التي بادرت الى ثلاث حروب 48، 56، 67 بطرق مباشرة وغير مباشرة، وأدت مواقفها الرفضية تجاه كل مبادرات مصر السلمية الى وقوع حرب 73 ولاحقاً ذهبت إسرائيل وبجعبتها كامب ديفيد الى اجتياح لبنان وتدمير مرافقه، وبدعم الولايات المتحدة كسرت شوكة الانتفاضة الشعبية، ولاحقاً بدعم من المؤتمر الدولي لمواجهة الإرهاب في شرم الشيخ قامت حكومة بيريز بمجزرة قانا. إسرائيل هذه لا ترجع ما أخذته بالقوة وبالتآمر على الشعوب العربية، وإنما تعطي؟.
وها هم المؤرخون الجدد - من أمثال توم سيغيف، وبني موريس - يتحدثون عن كيف قامت إسرائيل بترسيم الخط الأخضر سنة 1948 عن طريق المؤامرات والطرد والتهجير والإرهاب وتوسيع رقعة المعارك والمجازر لتوسيع رقعة الدولة التي قامت عليها ولم يتضمنها قرار التقسيم. وكذلك الأمر فيما يتعلق باحتلال القدس وما قدمه المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي يشرح كيفية توسيع رقعة الاحتلال بأساليب ملتوية وغير قانونية وتحت شعارات كاذبة مثل إعادة توحيد القدس...الخ. وكذلك فإن رفاق بيريز أنفسهم من أمثال رابين ودايان اعترفا في أكثر من مناسبة كيفية قيام إسرائيل باستفزاز العرب طمعاً في مواجهة عسكرية معهم، إن كان ذلك في حرب 67 أو في حرب الاستنزاف أو في اجتياح لبنان.
وأما الإهانة الأكبر من الوزير الإسرائيلي فهي حول "خلق" الشعب الفلسطيني والدولة الفلسطينية. كانت هذه المقولة بحاجة الى دهاء أورويل أو الى جوناثان سويفت لكي يحللها ويستوعبها ويعطيها حقها.
في العالم الحقيقي، وليس المتخيل كما هو في ذهن بيريز، خلقت إسرائيل "القضية" الفلسطينية وليس الشعب أو الدولة الفلسطينية. و"القضية" الفلسطينية وهي بالعبرية "بعياه" - "مشكلة" هذه القضية هي المأساة الفلسطينية من النكبة الى النكسة، ومن التهجير الى اللجوء، ومن الإرهاب الى المجازر. ومن الاضطهاد مروراً بالاحتلال، هذا ما خلقته إسرائيل وهذا ما عليها أن تتحمل عواقبه ونتائجه... ومسؤوليته. غني عن القول، إن الشعب الفلسطيني كان قبل أن تكون الصهيونية، والدولة الفلسطينية سيشيدها الشعب الفلسطيني بعد عشرات السنوات من التضحيات وعلى رغم رفض إسرائيل في الماضي والحاضر الاعتراف بمثل هذه الدولة المستقلة ذات السيادة. ولكن بيريز في بداية القرن الواحد والعشرين لا يستطيع بعد كل ما عاناه هذا الشعب، أن يردد من وراء غولدا مئير "اين هو الشعب الفلسطيني؟"، فكان عليه أن يبتدع كذبة جديدة تقول إنه وإذ لم يكن هنالك شعب فلسطيني في الأصل فإن إسرائيل خلقته وأعطته دولة، مما لا يناقض كلام مائير وإنما يرفعه الى صلافته الى أعلى المستويات.
* كاتب فلسطيني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.