في خضم الجدل الدائر حول ضرورات الاصلاح الوطني والديموقراطي يعيش ابناء الشعب الفلسطيني في حالة من التساؤل والترقب والحيرة والامل ولسان حالهم يقول: هل الاصلاح سيحدث ام سيُكتفى بمجرد الحديث عنه؟ واذا حدث هذا الاصلاح فهل يكون شكلياً ام جذرياً شاملاً، ام يأتي في صيغة غامضة تزيد من حيرة الفلسطينيين؟ في هذا السياق يذكر الفلسطينيون بقلق تجربة "الاصلاح" التي حدثت عام 1997 في اعقاب تقرير الفساد الذي نشره المجلس التشريعي. عندها تكللت عملية "الاصلاح" بتكريس الحكومة القديمة المسؤولة عن الفساد واضافة مجموعة من الوزراء الجدد اليها، ممن انخرطوا في لجان التحقيق والذين، بمجرد دخولهم الحكومة، سكتوا على ما كانوا يطالبون به من مساءلة ومحاسبة واجراءات جدية للاصلاح. الحاجة الى الاصلاح ماسة وضرورية خصوصاً ان الساحة الفلسطينية لم تشهد اي عملية اصلاح او تغيير حقيقية منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994. ولم تشهد الساحة او السلطة الفلسطينية او أي من مؤسساتها او اجهزتها اية عملية مساءلة من اي نوع لمسؤولين كبار في السلطة تحملوا مسؤوليات كبرى واحتلوا مناصب عليا واشرفوا على اموال عامة. ولم يتحقق احد مما اذا كانوا قد قاموا بمسؤولياتهم بنجاح ام لا، ومما اذا كانوا قد اساؤوا استخدام مناصبهم العامة او الاموال العامة التي اشرفوا عليها ام لم يسيئوا استخدامها رغم ان هناك الكثير من الشواهد على اساءة استخدام المنصب والمال العام. فكيف لأحد ان يثبت براءته امام القانون طالما ان عمليات المساءلة لم تجر في العلن وربما لم تجر في السر ايضاً، لأن احداً من هؤلاء المسؤولين لم يقصَ عن منصبه. لا اصلاح بدون مساءلة علنية في اطار القانون، ولا اصلاح بدون تطبيق قانون للكسب المشروع من اين لك هذا؟!، واي عملية اصلاح لا تقوم على المساءلة والمحاسبة ستؤسس لمزيد من الفساد والاخطاء والفوضى. وفي خضم الحديث عن الاصلاح الآن، تغيب الاشارة الى موضوع المساءلة والتركيز عليها، ربما لأن النظام الفلسطيني برمته لا يحتمل تبعات هذه العملية. فإن بدأت عملية المساءلة هذه لا يمكن أحداً ان يتنبأ اين ستنتهي. وليس صدفة ان الرئيس عرفات اعلن في خطابه الاخير امام المجلس التشريعي مسؤوليته الشخصية عن الاخطاء التي وقعت أو ارتكبت في المرحلة السابقة. من الواضح ان الهدف من هذا الاعلان هو محاولة اغلاق ملف تلك المرحلة وحماية النظام واركانه، وإلا فمن الذي سيسائل الرئيس عرفات ويحاسبه؟ وفيما يتواصل الحديث عن ضرورات الاصلاح، هذا الحديث الذي اخذ منحى آخر ووتيرة اعلى بعد خطاب الرئيس اما المجلس التشريعي، وبعد وثيقة الاصلاح التي اصدرها المجلس، راحت تتزاحم في عقول الناس وفي حلقات البحث والنقاش ومنابر الجدل العام وفي كل بيت فلسطيني مجموعة من الاسئلة حول عملية الاصلاح. يطرح السؤال مثلاً عما اذا كان هذا هو الوقت المناسب للمطالبة بالاصلاح او الشروع فيه. ورداً على ذلك من حق المرء ان يتساءل: ما هو الوقت المناسب للاصلاح؟ ومتى بادرت السلطة الفلسطينية بإحداث اي اصلاح او تحديد وقت مناسب له منذ تأسيسها؟ هناك خشية من ان يكون هدف التساؤل عن سلامة التوقيت هو التبرير لعدم اجراء الاصلاح. ويجري الحديث في هذا السياق عن اولويات اخرى تسبق - من وجهة نظر البعض - اولوية الاصلاح، كاستمرار الانتفاضة والمقاومة او مواجهة الاخطاء الخارجية. تتقاطع الدوافع والاهداف في هذه النقطة بين المخلصين وغير المخلصين، بين اجتهادات مشروع وبين جهود مدركة لتعطيل عملية الاصلاح. ولكن المنطق يقول انه اذا كان لنا ان نمتلك القدرة على مواجهة التحديات الخارجية والاستمرار في الانتفاضة والمقاومة فلا بد من الاصلاح الذي يعني التوقف والمراجعة واستدراك الاخطاء ومعالجة السلبيات ومن ثم الانطلاق الى امام وهي ممارسات لم تعرفها الساحة الفلسطينية. وهناك من يبدون تحفظاً عن الاصلاح بحجة ان ذلك قد يتعارض مع استمرار الانتفاضة والمقاومة. لماذا يجب افتراض ان الاصلاح يقف في تعارض مع الاستمرار في الانتفاضة والمقاومة المشروعة للاحتلال؟ ان من يتذرعون بأن الاصلاح واستمرار الانتفاضة والمقاومة لا يستويان هم في حقيقة الامر لا يريدون اصلاحاً ولا يريدون استمراراً للانتفاضة والمقاومة. اليس من شأن الاصلاح تعزيزالقدرة الفلسطينية وتحسين شروط الصمود ومقاومة الاحتلال؟ هل يمكن ان تستمر الانتفاضة والمقاومة وتحقق اهدافها بدون مراقبة وتقويم وتصويب للمسار واحداث الاصلاح والتغيير؟ وهناك من يتحفظون عن الاصلاح - بغض النظر عن الدوافع - بحجة ان "الاصلاح" هو مطب اسرائيلي واميركي. وهنا ايضاً يطرح التساؤل: هل يجب ان نتوقف عن المطالبة باصلاح وطني ديموقراطي نحن بأمس الحاجة اليه، فقط لأن خصومنا من اسرائيليين واميركيين يطالبون باصلاح ما يخدم اهدافهم؟. ويطرح سؤال مشروع وآخر تشريعي وقوي سياسية ومنظمات مجتمع مدني قادر على مواجهة ذاته والخوض في عملية اصلاح تستهدف النظام برمته، أم ان هذا الامر غير قابل للتحقيق في ظل حالة الضعف العام التي يعيشها هذا النظام، وفي ظل القيود والضغوط المفروضة عليه من كل اتجاه. حقيقة الامر ان الشكوك تراود الكثيرين منا حول قدرة النظام الفلسطيني على الخروج من أزمته الخانقة، وهنا يُطرح السؤال: لماذا لم يتتمكن النظام من اصلاح ذاته عندما كان في وضع أفضل في السنوات السابقة؟ وتتبع السؤال الرئيسي السابق اسئلة اخرى عن مسؤولية كل مكوّن من مكونات النظام السياسي عن عملية الاصلاح والتغيير وعمن يتحمل مسؤولية وتبعات عدم احداث الاصلاح والتغيير في الماضي وايصالنا الى ما وصلنا اليه اليوم؟ لا بد ان نتذكر ان اجراء الاصلاح ونتائجه هي محصلة موازين قوة بين اصحاب المصلحة في الاصلاح والذين يتضررون منه. لذلك لا بد من معرفة أي قوى واطراف تريد الاصلاح الفعلي والديموقراطي وأي قوى واطراف تنادي بالاصلاح لكنها في حقيقة الامر ومن الناحية الموضوعية معادية للاصلاح لأن الاصلاح سيلحق الضرر بها وبمصالحها. سيعارض الاصلاح كل من استفاد من غياب حكم القانون وغياب عمليات المساءلة والمحاسبة، وكل من اساء استخدام المنصب العام وتعدى على المال العام والممتلكات والحريات العامة والخاصة وانخرط في نشاطات غير مشروعة. سيعارض الاصلاح افراد ومجموعات ومصالح مستفيدة من استمرار الوضع القائم وتخشى التغيير وإعمال مبدأ المحاسبة. لا بد من عملية فرز بين المستفيدين من الاصلاح والمتضررين منه، ولا بد من اجراء جرد في الساحة الفلسطينية حتى تنجلي الصورة ولا يختلط الحابل بالنابل وحتى لا يصبح المستهدفون في عملية الاصلاح ابطال هذه العملية. ارجو ألا تكشف عملية الفرز والجرد بين من يريدون الاصلاح الفعلي واعداء الاصلاح الموضوعيين بأن موازين القوى لا ترجح لمصلحة اجراء عملية اصلاح جدية وديموقراطية، وان هذه العملية قد تأتي مشوهة وتعيد تهيئة تلك القوى والاطراف التي غيبت حكم القانون وشكلت العمود الفقري للفساد السياسي والمالي والاداري. وفي ما يتعلق بمسؤولية القوى السياسية المختلفة تجاه عملية الاصلاح، لا بد اولاً من اشراك هذه القوى في القرار حتى تتحمل مسؤوليتها في عملية الاصلاح على المستوى الوطني، ولكنها مطالبة ايضاً بأن تبدأ باصلاح ذاتها حتى تثبت جديتها في مطالبتها باصلاح السلطة والمجتمع. فهل ستشرع الاحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني بإحداث مراجعات وعمليات اصلاح داخلي حتى لا تكتفي فقط بمطالبة الغير بالاصلاح، وحتى تؤخذ مواقفها ومطالبها على محمل الجد؟ وفي الوقت الذي لا يمكن المساواة في توزيع المسؤوليات عن الاصلاح، لا يستطيع اي طرف فلسطيني ان يخرج نفسه من دائرة الازمة ويزعم بأنه ليس في حاجة الى درجة او اخرى من الاصلاح. سوف يشكك الفلسطينيون الذين يعتبرون الاصلاح ضرورة للبقاء والعيش الكريم والصمود والمقاومة في مواقف كل من يضع العراقيل امام علمية الاصلاح مهما كانت الذرائع. لا خلاف على اننا نتحدث عن اصلاح في اطار الاتفاق والشراكة الوطنية والسياسية، ولكن المبالغة في وضع الشروط التعجيزية للشراكة والاصلاح سيدفع بالسلطة الى البحث عن سبل اقل تكلفة لها من الناحية السياسية، آخذين في الاعتبار ان منطق السلطة، اي سلطة، هو الحفاظ على ذاتها، واذا ما شعرت السلطة وقاعدة قوتها بأن هناك من يتربص بها ولا يريد مجرد اصلاحها، فإنها ستنأى بنفسها عن اي عملية اصلاح. وقد تنقلب عليها وتدخل في عملية استقطاب داخلي بدلاً من ان تنخرط في وحدة وطنية تستند الى شراكة سياسية وشراكة فعلية في عملية صنع القرار، مما سيؤدي الى زيادة اعتمادها على اطراف وقوى خارجية. التغيير الوطني الديموقراطي الجاد صعب ومكلف للكثيرين منا، وأرجو ألا يستسهل البعض الصيغ الآتية من الخارج ويقبل بها لأن ذلك سيكون اكثر كلفة علينا، وسندفع ثمنه غالياً من حقوقنا الوطنية. اذا حدث التردد والتراخي ولم تتصد جميع القوى والاتجاهات لصياغة رؤية وطنية مشتركة لعملية الاصلاح فإن هذه العملية ستخرج عن مسارها الوطني الديموقراطي، وربما لن تتم. وحتى لا يكون هناك التباس، الاصلاح الوطني الديموقراطي المطلوب يقوم على مجموعة اساسية من المبادئ والمعايير والعمليات والاجراءات، اهمها اجراء الانتخابات البلدية والقروية والتشريعية والرئاسية بشكل دوري ومنتظم ونزيه كأساس لتداول السلطة وضمان سيادة حكم القانون والفصل الحقيقي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واعمال مبادئ المساءلة والمحاسبة والشفافية واحترام حقوق الانسان من بين اشياء اخرى. الاصلاح الجدي والشامل يمكن ان يكون تدريجياً وتراكمياً ولكن لا بد ان يستند بشكل واضح الى مثل هذه المبادئ والمعايير. وماذا عن دور الرئيس عرفات في عملية الاصلاح؟ تقع المسؤولية الرئيسية في عملية الاصلاح على عاتق الرئيس لأنه وحده صاحب القرار. فهل سيعمل الرئيس على ارضاء دعاة الاصلاح ومعارضيه على حد سواء، انسجاماً مع طريقته المعهودة في القيادة؟ وهل يمكن اصلاح الوضع الفلسطيني بخلطة من اولئك وهؤلاء، ام اننا بحاجة الى نهج جديد وادوات جديدة؟ قد ينجح الرئيس عرفات في "ترقيع" عملية اصلاح فلسطينية، ولكن ذلك لن يحل المشكلة، وقد يزيد من حالة الاحباط واليأس في الشارع الفلسطيني، وربما أدى الى المزيد من التراجع والتدهور والانهيار. وفي السياق نفسه، ماذا ينتظر الرئيس عرفات لكي يشرع في اجراءات محددة للاصلاح الى ان نتمكن من اجراء الانتخابات في موعدها المحدد؟ هل يجوز الحديث عن الاصلاح وعمليات خرق القانون مستمرة وكذلك الممارسات الاحتكارية واعمال الجباية المختلفة بدون رقابة او مساءلة او محاسبة حقيقية؟ وبعد توقيع الرئيس لقانون استقلال القضاء الفلسطيني، هل سينفذ هذا القانون ويلتزم الجميع بأحكامه، وبندأ في تلمس آثار التوقيع عليه؟ يجب عدم ربط الشروع في الاصلاح او تأخيره الى حين اجراء الانتخابات، رغم ان الانتخابات هي ارقى اشكال الاصلاح الديموقراطي لانها تعني تداول السلطة وممارسة مبدأ المساءلة والمحاسبة على المستوى الوطني. يراقب الشارع الفلسطيني باهتمام كبير سلوك الرئيس عرفات والسلطة الفلسطينية منذ اطلاق الدعوة للاصلاح لكي يتحققوا من ان هذا السلوك ينسجم ويتوافق مع هذه الدعوة ام لا. ان التأخر او التردد في الشروع في الاصلاح والتغيير او تقديم نموذج مشوه من الاصلاح والتغيير يضعنا امام تساءلات في غاية الخطورة: هل هي عدم الرغبة ام عدم القدرة، اما ان الوقت قد فات، وارجو ألا يكون الجواب عن اي من هذه التساؤلات الخطيرة بالايجاب. واخيراً، هل سيعرف الفلسطينيون كيف يحافظون على وجودهم الوطني وكيف يغلبون المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفردية والضيقة، وهل سينجحون في التوصل الى حلول عقلانية لخلافاتهم ويتفقون على قواسم مشتركة؟ هذا هو اختبار الجدارة الذي لم يجتازه الفلسطينيون بعد ويسجلوا نجاحاً باهراً فيه. اذا اخفقنا في احداث الاصلاح الوطني الديموقراطي الجاد، فإننا بذلك نهيئ لخصومنا ونساعدهم على فرض منظوراتهم ومخططاتهم علينا. ان التأخير او الاخفاق في احداث الاصلاح والتغيير سيوصل العالم الى استنتاج بأننا لا نستطيع ادارة شؤوننا ومساعدة انفسنا بأنفسنا واننا بحاجة الى تدخل ومساعدة من الغير. وبالمقابل، فإننا نستطيع ان نحظى بدعم وتأييد العالم لنا، وان نجبر خصومنا على التسليم برؤيتنا الوطنية للاصلاح والتغيير، اذا كان هذا الاصلاح والتغيير جاداً وديموقراطياً. نستطيع بالاصلاح العقلاني الديموقراطي والجاد ان نقطع الطريق على ما يريد اعداؤنا فرضه علينا من ترتيبات سياسية وامنية تحت راية "الاصلاح". * رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني.